الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرنسا تريد الثورة من جديد

هيثم بن محمد شطورو

2018 / 12 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


السترة الصفراء في فرنسا هي التي يفرضها القانون على أصحاب السيارات كتجهيز ضروري وجوده في السيارة، بحيث يطلب شرطي المرور من السائـق الاستظهار بها بمثـل الاستظهار برخصة القيادة و أوراق السيارة. السترة الصفراء معلم للرقي الحضاري فهي تجسد الامتـثال للحضارة الأنيقة التي يؤمن المشرع الفرنسي أنها الأرقى في المنظومة الانسانية.
ضمن هذه النظرة الارتـقائية التي تختبئ بـين لمحاتها الشوفينية المركزية الحضارية الفرنسية و الاوربية تـندرج كلمة "السترة الصفراء". لقد تم تأسيسها كعنوان من عناوين الابتـناء الحضاري الراقي، و وظيفـتها هي ان يرتديها صاحب السيارة حين تـتعطل لتكون اشارة يفهمها الجميع تـدل على عطل السيارة. جُعلت السترة الصفراء اذن للنجدة و لمعرفة سبب توقـف السيارة في مكان يُفترض ان لا تـقـف فيه. السترة الصفراء اذن هي اسلوب حضاري منظم عوض التأشير باليدين كالأبله ( فالمشرع الفرنسي لا يريد ان يظهر الفرنسي كالأبله)، و لنفي الاعتـقاد بفوضوية ركن السيارة و بالتالي فوضوية المدينة و اذن فوضوية فرنسا العظمى...
و يبدو ان الإبتـناء الراقي الخرساني الاسمنـتي شديد الانتـظام قد خنق الانسان. و فعلا. فإني أستذكر الآن صديقة فرنسية عرفتها منذ اكثر من عشرين سنة، كانت تـثـير التراب برجليها و هي تمشي. التراب الذي لدينا في صفاقس المتخلفة عندهم تـثيره بكل مرح و انطلاق حتى أني لم أخفي دهشتي لشدة همجيتها في نثر التراب، فقالت:
ـ هناك في فرنسا كل شيء اسمنت..كله رصاصي اللون. كله بارد و مصطنع.كله منظم الى درجة الاختـناق. يا للغبار الجميل هنا.. يا للألوان المتـنوعة..يا للروائح الطيـبة.. يا للأشياء كما هي.. يا للحرارة..
لم يخطر ببال المشرع الفرنسي ان تتحول "السترة الصفراء" كعنوان لتعطل السيارة الى عنوان لتعطل فرنسا، و لا ان تتحول من عنوان لنفي الفوضى في ركن السيارة الى عنوان الفوضى العارمة في فرنسا، و التي من المؤكد ان تكون عنوان فوضى أوربا و فعلا فإلى حد كتابة هذه الكلمات، فـقد وصلت "حركة السترات الصفراء" الى هولندا و بلجيكا و ان كانت خافتة فالنار كذلك تـنـتـشر في الغابات شيئا فشيئا..
بكل بساطة تحولت تلك السترة الاجبارية من قبل النظام الى علامة ثورية ضد النظام. السترة الصفراء تم إخراجها من السيارة الى الشارع ليمتلك الفرنسي شارعه من جديد و يفتكه من السلطة المضادة له، السلطة التي تتوغل في وئد فرنسيته الحقة. فرنسيته كثورة فرنسية، و كبربرية هوجاء عظيمة تعصف بمن يخنق انسانيتهم، فرنسيته الاعمق من ذلك كذلك..فرنسيته كغاليـين همجيـين.. و كم هو سهل و سريع و فجائي ان يسقط الانسان من مملكة العقل الى التوحش مثلما قال الفيلسوف الفرنسي "ديكارت"..
و يكون من السطحية ان نغفل الفكر فيما يحدث في فرنسا اليوم. فحين يتحرك الشعب الفرنسي فيجب ان ينتبه العالم، لأن عالما جديدا سيولد.
فالقراءة المباشرة لأحداث العنف الرهيبة في فرنسا اليوم تربطها بالزيادة في اسعار الوقود، و ما هذه إلا القطرة التي أفاضت الكأس. هذه النظرة القصيرة جعلت الحكومة الفرنسية تؤجل تلك الزيادة في الاسعار لستة اشهر.
هناك ازمة اقتصادية يعيشها الفرنسي و هو مكبل بالضرائب، و لكن هذا ليس بجديد. هناك قانون عمل جديد يهدد العامل الفرنسي. هناك اضرابات سابقة لهذه الحركة. و لكن هذه الاسباب المباشرة يرددها الاعلام و حين تستمع الى الفرنسيين في شبكات التواصل الاجتماعي، فالأزمة منذ صعود الرئيس الفرنسي الحالي "امانويل ماكرون"، حيث كانت تتصاعد الكلمات المنتـقدة له و تـنـتـشر..
هذا الرئيس أصغر من فرنسا بكثير، بل انه إهانة لفرنسا. هذا ما يقوله الفرنسيون منذ أشهر.
لقد كان "جاك شيراك" آخر الرؤساء في مستوى فرنسا. الانحدار كان مع "ساركوزي" ثم "هولند"، أما "ماكرون" فهو عنوان السقطة و السقوط لفرنسا. يعيرونه حتى في زوجته الاكبر منه سنا و التي تـزوجها لأجل التسلق، و هو يضرب بعمق صورة الرئيس العظيم لفرنسا العظيمة.. ففرنسا الثورة هي فرنسا "نابليون" كذلك و هي فرنسا "ديغول" .. فرنسا الازدواجية بين عظمة ثورة الاحرار و عظمة فرنسا في قائد عظيم..مع "ماكرون" احتـقرت فرنسا نفسها.. لأجل ذلك يرفعون في مظاهرات "السترات الصفراء" الشعارات التي تطالب هذا الرئيس بالاستـقالة.
فصحيح ان الازمة الاقتصادية محفـز فالإنسان لا يمكنه ان يتحرك ثوريا و هو في أمان اقتصادي، و لكن ارادة التحرك كانت كامنة و كانت تعبر عن نفسها بالكلمات. و في النهاية فالمتظاهرون يملكون سيارات بما انهم بستراتهم الصفراء، فهم ليسوا بروليتاريا رثة او مسحوقين، بل الطبقة الوسطى الغاضبة، و الطبقة الوسطى تعني المعبر عن روح البلاد.
بعضهم أحرق السيارات و بعضهم اعتدى على بلور البوتيكات و بعضهم يقـتلع أحجار الأرصفة ليضرب بها رجال الشرطة. قال البعض انهم من اليمين المتطرف و اليسار الراديكالي، لكن المشاركين في التظاهرات لم يستنكروا هذه الاعمال. هناك كره للبوليس. البوليس كلمة يونانية الاصل و هي تعني المدينة و الشرطة عنوان النظام في المدينة، و ضربهم لا يعبر عن ضرب للمدينة بقدر ما يعبر عن ضرب لنظام معين في المدينة.
فالعملية مزدوجة في ضرب النظام. فأولها هو ضرب النظام النيوليبرالي او الرأسمالي الذي أخذ يكشر عن توحشه و لا انسانيته و حقارته، متخيلا ان سقوط المنظومة الشيوعية السوفياتية يخول له ذلك. و النظام كذلك هو التصنيع المفرط لحياة الانسان و الانتـظام الشامل و تغيـيب الطبيعة العشوائية و تعدد الالوان الطبيعي العشوائي و الفوضى المعبرة عن الحرية الفعلية. مشكلة الحداثة او المدنية الاوربـية انها توغلت في الانتظام الى درجة خنق الطبيعة الطبيعية في الانسان.
ضمن هذا المنظور نرى حرية ممأسسة و لا نجد حرية طبيعية. الحرية الممأسسة في نظام رأسمالي صنعت مداجن بشرية ظاهرها عناوين لحرية الإنسان و لكنها نمط حياة واحد تـقريبا. الجموع تتم قيادتها حتى في عقولها من حيث لعبة الكتب الاكثر مبيعا. يتم سلب العقول من خلال الاعلام . يتم صناعة كائن مستهلك متـناهي دائما يلهث وراء الاشباع المستحيل و هو في الحقيقة يلهث جراء جره كالبغال من أرسانها الامرئية.
بل نمط الحياة او صورة الحياة تـتحكم في صورة الجسد المطلوب، بل أكثر من ذلك ففي طريقة الفعل الجنسي و الحياة الجنسية التي تحولت الى بضاعة للاستهلاك سواء في الادوات الجنسية المختلفة او الافلام الاباحية و الموضة..
تقريبا التحكم في كل شيء و تغييب الوعي و الارادة الفردية الحرة و ذلك في خط معاكس تماما للادعاء في كونها حرية النظام الليبرالي و الرأسمالي الذي يقدس الفرد و الفردانية.. انها نفـس مداجن تألية الانسان و اماتته انسانيا روحيا و التي حصروها في النظام الستاليني و النازي الشوفيني..انها ارادة صناعة الانسان الآلة التي تمرد عليها الفرنسي اليوم..
فحين نـتحدث عن فرنسا فإننا نـتحدث عن "فولتير" و "روسو" و "بودلير" و غيرهم، و لكن اساسا منذ النصف الثاني من القرن العشرين فإننا نتحدث عن "جان بول سارتر" الذي شكل توجها هاما في العقل الفرنسي الحديث و هو رائد المدرسة الوجودية و التي حددها "سارتر" بشكل عام بكونها تسعى لفهم الانسان في كل مواقـفه و لا تتوقف عند عتبة التحليل الاقتصادي، بل تـتوغـل في الذات انطلاقا من تعريف الانسان بكونه مشروع دائم الانجاز لا يتوقف لأنه لا يحـقق ذاته ابدا و انما يسعى لذلك لأنه كذلك بما هو خروج دائم من ذاته و تحرر منها ليسجلها على المادة او ليفعل في الواقع الحي ليطبع أثره او وعيه و حريته في تغيير الواقع بما هو انسان حر..
فحركة "السترات الصفر" تـفـتـقد الى عنوان سياسي واضح لأنها تـفـتـقر الى بديل سياسي و فكري واضح، و لكنها تغتـني بهذه الروح الانسانية التحررية التي تريد استعادة قدرتها على تغيير الواقع. هذه الارادة تـفـتـقر الى تصور سياسي بديل و لكنها تعـتمر بكل متضخم من الانتـقاد لما هو موجود، و هي عملية منفتحة على مستـقبل مجهول مثل الثورة التونسية..
الثورة التونسية التي شُغف بها الفرنسيون كثيرا و قالوا انها صدى للثورة الفرنسية، و لكن ثورة من مستعمرة فرنسية سابقة و تدور في الفلك الفرنسي الى غاية اليوم، و ذات روحية انسانية عربية تؤشر الى انبعاث انساني جديد، فتحت ابواب الموت و الاقدام على الموت لأجل الحرية بما هي انسانية بما هي وجود حر مطلق في عمق العمق واحدية كونية تحرك التاريخ في اتجاه خلق انساني جديد..
لكن التونسيين لم يصلوا الى هذا التوحش و البربرية التي رأيناها في فرنسا اليوم.. و انها دلالة حضارية عميقة برغم انهم اشبعونا بتوصيفات الهمجية للعرب.. و لكنها تحرك التاريخ من جديد في اتجاه امتلاك الشعب للشارع و لبلده التي تم افتكاكها منه..
و فعلا..فـقد تم افتكاك فرنسا.. الشانزيليزيه أهم منطقة في باريس و هي فخرها و قوس نصرها و روح نابليون تطوف فيها كما تـترائى في بعض ليالي الزمهرير أطياف فؤوس الثوار الفرنسيـين المتوحشين العظام تطوف بأكاليل ما انساب من دمائهم في الخلق الجديد.. الشانزيليزيه و الفنادق و العقارات ذات التاريخ المفعم بالروح الفرنسية أصبحت ملكا للصينيين و القطريين و الاماراتيين و السعوديين، و حتى قوس النصر تجرد من كل لبوساته الافتخارية الفرنسية فتم ضربه..
فحركة السترات الصفر الفرنسية هي حركة استرجاع البلد و استرجاع فرنسا و امتلاكها من جديد من الفرنسيـين..هي كذلك في عمقها استرجاع للثورة و قول ان الذي تأسس على أساسها لم يمثلها.. أما ما الذي يمثلها فهو المغامرة الجديدة في المجهول.. المجهول الذي من خلال المعلوم فدورة التاريخ بين شمال و جنوب المتوسط وصلت الى نقطة التقاطع الثوري التي قد تؤشر الى الالتـقاء بين القيمي الشرقي الروحي المطلق و التحديدات الانسانية النسبية الواقعية الغربية.. فهل تعانق الانسانية الأبدية ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بعيدا عن الاحتواء
صهيبي ( 2018 / 12 / 5 - 17:43 )
افتقاد حركة السترات الصفراء لعنوان سياسي وقيادة هما عاملا نجاحها لحد الساعة باعتقادي والا .لأحتوت كباقي الحركات النقابية السالفة

اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص