الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حتى تقطيع الخبز

محمد الحاج صالح

2018 / 12 / 5
الادب والفن


منذ اليوم الذي تركت فيه السياسة و الكتابة الهوجاء و قررت أن أصير طباخاً ماهراً، منذ ذاك اليوم وأنا مريض بالمنافسة والمقارنة بين طبخاتي وطبخات امرأتي وبناتي، و حتى طبخات زوجات الأصدقاء التي نُطعَم منها أو نأكلها كضيوف.
يمكنني القول أن زوجتي طباخة ممتازة و مذوقة، و لكن ما يزعجني في طبخها أنها تقلل من التوابل، بينما أحبها أنا و أُكثر منها. و الأهم أن تقاليدها في إعداد الوجبة و طريقة السكب و ترتيب الصحون و الملاعق و الشوك و تقطيع الخبز و و... كلها تجري على يديها وفق نظام هادئ مستثير و إيقاع لا يتغير.
لدينا ضيوف غير عرب على الغداء، عادة ما نتبادل معهم الزيارات و الدعوات على الغداء، وبناء على رغبتهم ستطبخ زوجتي محشي باذنجان و كوسا و فليفلة. و كالعادة حضرت كل ما يلزم، حيث حفرت وحشت و ستفت الخضرة المحشية في القدرية الكبيرة، و ركنتها إلى جنب، فالوقت مبكر. ما زلنا عند الظهر.
خطرت لي خاطرة لؤم جهنمية. سأنال منها، و سأشككها بمهارتها بالطبخ، و سأكسب نقطة لصالحي. أحتاج إلى خطة من مرحلتين.
بدأت بالتنفيذ ما إن غادرتْ هي في زيارة سريعة للجارة. لا يلزمني سوى أن تغيب ربع ساعة فقط.
أحضرت صينية وسيعة. صففت في جانبها أول طابق من الكوسايات المحشية. هذه لن أمسها بسوء. و رحت أخرج حبات الباذنجان و الكوسا و الفليفلة من العمق، واحدة واحدة، و أشقها من جانب شقاً يكفي كي يتسرب الرز و اللحم المفروم و التوابل خارجاً ما إن يبدأ الغليان. و عندما أنهيت عملية التخريب، رصفت الحبات من جديد بترتيبها السابق فوق بسطة العظام و أقماع الباذنجان. ثم و ضعت الحبّات السليمة على الوجه.
قلت لها وهي تضيف الماء الدافئ المذاب فيه رب البندورة مع بهارات أقل من القليل و قليل القليل من النعناع؛ قلت "أنا سأطبخ ملوخية". نظرت إلى تلك النظرة المؤنبة المتشككة "تمزح!". "لا. لا أمزح". "ضيوفنا طلبوا المحشي... يحبون المحشي الذي أعده، و الكمية التي حضّرتها كبيرة. فأين الحكمة في أن تطبخ أنت طبخة أخرى هااا؟". "لا حكمة و لا شي... خطر على بالي و مشتهي الملوخية. فيها شي هايْ؟". "لا. لكن غريبة مووو! على كل اشتغل على كيفك" قالت جملتها الأخيرة بأسلوب متهكم ساخر، و هو بالضبط الأسلوب الذي يحنقني ويجعلني أفور وأثور. و لكنني هذه المرة كنت هادئاً هدوء المتلذذ بنجاح تخطيطه.
طبخ كلٌّ منا طبخته. و عندما جاء الضيوف وانتهت المجاملة الأولية وشرب الشاي الخفيف، نهضنا معاً وبدأ كل منّا بسكب طبخته في أطباق المائدة. أنهيت أنا العملية بثوان، و رحت أسوّي الرز و أوزع الملوخية في طبقها الوسيع. بينما شرعت هي بهدوئها المعتاد بنقل حبات الكوسا من الطبقة الأولى إلى طبق المائدة. كنت أسرق النظر إليها من تحت لتحت. رأيتها وهي تتفاجأ ويمتقع و جهها و هي تكتشف أن ما تحت الطبقة الأولى من المحشيات ما هو إلا خبيصٌ من رز و قشور و أقماع الباذنجان ذات الألياف الظاهرة. تناولت مغرفة كبيرة و هي تكاد تجهش بالبكاء و غرزتها عميقاً في كثافة الخبيص، ثم غرفت من أسفل، و تبين لها حقاً أنّ ما في القدرية فقط خبيص لبيص. جمدت طويلاً حزينة مقهورة، فتظاهرت بدوري بالتساؤل البريء عمّا بها. قالت "انظر..." وغرفت من جديد من عمق القدرية و أرتني الخبيص، ثم لاصت المغرفة في القدرية مرات وأخرجتها و النتيجة ذاتها خبيص سميك من نشاء الرز و من قشور الخضراوات و الأقماع الكثيرة. تصنعتُ التفاجؤ وقلت ببرودة "لعل النار كان حامية و الغليان كان حركيّاً جداً ... لعلّ" أشارت بيدها أنْ كف عن الكلام.
وبكل خبث و لؤم قلتُ: انقذتنا ملوخيتي. احمدي الله إني طبخت ملوخية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تصرّف مضحِك وطفولي
ليندا كبرييل ( 2018 / 12 / 5 - 15:45 )
الأستاذ محمد الحاج صالح المحترم

تحية وسلاما

ملاحظة هامة أرجو التفضل بقبولها
حضّرتُ كعادتي قبل كتابة أي تعليق بعض الأفكار التي سأتناول بها المادة بطرح رؤيتي لها
للأسف الشديد أرسلت قبل أي تعديل واي تنقيح
أعتذر وآسفة جدا
وأرجوك أن تتفضل ( بحذف التعليق الأول المرسَل ) وسأكون شاكرة لحضرتك

أما تعليقي هنا فأقول:

موقف بطل القصة نصادفه كثيرا في مختلف مجالات الحياة
إنه الإنسان الأناني الذي يحقق مصلحته على أكتاف الآخرين

بطل القصة وهو يلحق الأذية بعمل زوجته لم يكن أكثر من سارق لمجهود الآخر
ولا أعتقد أن زوجته كانت سعيدة بإنقاذه الموقف المحرج الذي صادفها بعد أن تفانت بإنجاز عملها حتى لو بدتْ كذلك، ففي أعماقها لن تنسى مشاعر المرارة والحزن لفشلها

الوسيلة لتحقيق الهدف هي الأهم، لا النتيجة

ولا يهم أن البطل قد قام بدور المنقذ فهو قد غطّى على نجاح الآخر بشيء من اللؤم والطفولية وعدم الأمانة في التصرف

تمتلئ الحياة بمثل هذا النموذج، والذي يسعى للتسلق على أكتاف الآخرين

شكراً لهذه اللقطة من الحياة
وتفضل احترامي

اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي