الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


The Green Mile: المعجزة في غير مكانها وزمانها

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2018 / 12 / 5
الادب والفن


سال الصحفي آندي جرين ذات مقابلة الكاتب ستيفن كينج صاحب رواية " اللحظة الأخيرة" ,هل تريد دخول الجنة؟ فأجاب:[لا أريد الجنة التي عرفتها في طفولتي، تلك تبدو لي مملة جدًا. أن أذهب إلى مكان فوق سحابة وأستمع إلى رجال يعزفون "الهارب" طوال اليوم، أنا لا أريد "الهارب"، أريد ان أسمع جيري لي لويس]. و لكن للمخرج فرانك دارابونت رأي آخر حين اقتبس عن الرواية فيلمه " الميل الأخضر" فجعل جون كوفي يقول :"أنا في الجنة.. أنا في الجنة". ينطق بها قبل إعدامه في الوقت الذي يظهر فيه رجال الميل الاخضر في أشد حالات تأثرهم وهم يحيطون بالكرسي الكهربائي الذي سينهي حياة معجزة من معجزات الرب وكانت لبعضهم هذه العملية آخر عملية إعدام يحضروها كما حصل لبول هتشكوب.
أطلق العاملون في السجن اسم الميل الاخضر على المسافة التي تفصل بين المحكوم بالإعدام و الكرسي الكهربائي وتمنح هذه التسمية شعوراً بالسلام والطمأنينة الظاهرة في هذا المكان حيث العزلة البشرية (بوصفها تكثيف للوحدة) تعبر عن اضطراب الاتساق الإنساني وكسر ما هو مألوف وطبيعي، ويتساوى الجميع بسبب تلاشي الحدود بين ما هو خير وما هو شر. فدلالات كلمة "أخضر" تعني استمرار للحياة في أبهى صورها ،غير أنه زائف هنا, فهو أشبه بنبتة لا تعمر طويلاً إذ سرعان ما يذبل لونها مثلما تذوي الضحية-بوصفها ضحية- وتفقد أي أمل في النجاة، قصداً أم عفواً، لذلك يستسلم جون كوفي لمصيره المحتوم، الموت. غير أن خضوعه للقوى المحيطة به كان بمحض إرادته واختياره بفضل ما يتمتع به من قدرات رغم أن قرار موته "كما يعلم هو" كان قد صدر من الجميع “الآخرين" بغية التخلص من وضعٍ محير و شديد الإرباك.وتكمن الأزمة في أن قرار التخلص منه هو نتاج أزمة ،فموت جون كوفي يمثل من ضمن ما يمثله موت هذا التنافر لعالم نريده أكثر وضوحاً و انسجاماً (عالم الإيمان لا يقبل أن يمنح الرب مكرمة لقاتل ومغتصِب).
تدور أحداث الفيلم في فترة الركود الاقتصادي العاصف الذي ألمَّ بأمريكا ومن خلفها العالم والتي كانت نذرها الأولى حرباً طاحنة أزهقت أرواح مئات الملايين. وفي الحرب والأزمات المشابهة إما نقترب ,عادة, من الله أكثر ،أو نبتعد أكثر ،فينقسم الناس فريقين: قسم بلتصق بالرب أكثر ،وقسم يبتعد بعد أن شعر بتخلي الرب عنه. لقد كان اختيار تلك الفترة لأحداث الفيلم يهدف إلى القول أن الإيمان و قوة الأسطورة (و العلاقة بينهما) إنما مرتبطان بشدة بضعف الجانب المادي في حياة الإنسان فبعد أن وضع الإنسان الغربي الرب جانباً في مستهل القرن ،ها هو يستنجد به مجدداً ،حتى لو أتت تلك الاستغاثة على شكل معتقد أو أساس أسطوري وثيق الصلة بالإيمان الديني العميق والتسليم بقدرات الرب اللامحدودة و الإعجازية ،فتصبح الأزمة الاقتصادية اختيار و محنة ربانية و الحرب مشيئة إلهية ،وهكذا تنشأ أنماط من العلاقات بين أفراد المجتمع (ونتحدث هنا عن أمريكا حيث المجتمع مازال متمسكا بالعادات والتقاليد المسيحية من حيث المواظبة على حضور قداس الأحد واحترام رجال الدين )، دون تخطيط مسبق أو وعي قبْليّ، غايتها(أي العلاقات) العودة لنقطة التوازن. قد لا نرى من يؤمن حقاً بأن الرب سيرسل معجزات فعلية الآن لكن أقلّه سيسمح بالاتصال بالقوى الغيبية كنوع من الشعور بأمل ما.
و في المقابل سيكون هذا عند البعض مجرد مضيعة للوقت و بذل جهد لا طائل منه. فإيقاع الحياة في فترة الركود الاقتصادي يبتعد عن هموم الناس الآنية , ومشاكل حياتهم , إيقاع الحياة هنا لن ينتصر لروحهم المقاومة, بل يصبح الجهد الإنساني المبذول فوق الهم المادي و كسب القوت اليومي ,وهذا أشبه بحياة السجن الذي تنتهي فيه الحياة. سوف ينتج السجن طبعا حياة أخرى لاتشبه تلك التي خارج جدرانه , حياة من نوع خاص .بداية جديدة لكنها غير خالية من الشر, وهذا في الحقيقة أحد الإخفاقات الوجودية الكبرى للإنسان, أي سعيه للوصول لعالم خالٍ من الشر , فالعالم الذي نريده واضحاً و منسجماً لا يتقاطع مع هيئة هذا العملاق الأسود غريب الأطوار الذي -بشكله هذا- يتحدى نسق تصورنا عن البشر الموجود في مخيلتنا .
ويأتينا صوت السجان-الجلاد مسموعا.. سيقول بول "عندما أقف أمام الله و يسألني ,لماذا قتلت واحدا من الصالحين, ماذا سأقول حينها؟ رغم مهارته وتهكمه و قدرته على التحكم بأعصابه.. يجيبه جون كوفي" ستقول أنك فعلت ذلك عطف منك, أعلم أنك قلق وتعاني. أستطيع أن أشعر بذلك, ولكن عليك أن تكف عن ذلك.. أريد أن ينتهي هذا الأمر معك..".
صورة على غير ما نعهدها، ليست تسلطية, لا تستلذ بتعذيب الضحية و لا تعاني من شبق سادي لرؤية الدم, ليست باردة متعجرفة، انضباطية , انضوائية تسعى لتحقيق العدالة و القانون بصرامة ولا تعترف بالظروف و الذرائع.. إنها ببساطة تنقل لنا أحد وجوه "المخلص".. لكنه للأسف مخلص ذو طاقة سلبية , لاحول له ولاقوه.. فكل أشكال العنف والسيطرة والخضوع والاستلاب جاهزة من أعلى هرمية السيد إلى "الحشد" الذي يتلذذ بعذابه من قبل سيده. تلك هي جمالية العقوبة /العذاب/التعذيب. مشهديه ساحرة يعيشها ورثة نيرون و تحيلنا إلى الشكل الدكتاتوري للسلطة الحاكمة أينما وجدت بما يتضمن ذلك من أنساق جليّة من العبودية المستلبة والتسلط الوحشي المتراكم عبر التاريخ والذي يغوص عميقاً في الذاكرة الجمعية.*
يقول لنا الفيلم أن بول هتشكوب "المسؤول عن تنفيذ أحكام الإعدام بالكرسي الكهربائي" شخصية مشبعة بالثقافة الروحية و ممتلئة بالإيمان مما يعطيه فسحة معقولة لفهم شخصية جون كوفي" المحكوم عليه بالإعدام" .و رغم اختلافهما عرقيا, ورغم الفكرة السائدة عن تفوق الرجل الأبيض فقد آمن بول بجون كوفي.. آمن به وبمقارباته الإعجازية مثل شفاء المرضى و إحياء الموتى مثل تلك القصص التي تحفل بها المواعظ الدينية ، الأمر الذي أعطى لشخصية جون كوفي بعداً أسطورياً .وهنا نجح المخرج في وضعنا أمام خيار الإيمان بالأسطورة كجزء من نجاح المشهد السينمائي في الإجابة عن العديد من الأسئلة ,لاسيما تلك المتعلقة بالأسطورة , وحيث أن السينما فن حديث فهي تعاطت مع شؤون الإنسان الحديث بتفاصيل أكثر , ولعل أحد أخطر الأسئلة التي تقوم السينما بطرحها يتمثل في ماهية الأسطورة التي يحتاجها الإنسان الحديث. ثم هل مازالت تؤثر الأساطير القديمة في الإنسان الحديث و حياته المعاصرة؟. سوف تستخدم السينما كل الاستعارات الممكنة للإجابة على هذه الأسئلة ابتداء من التعابير الصوتية وصولا إلى تحويل تلك التعابير إلى صورة تسيطر على كل الصور الذهنية الأخرى التي يتوفر عليها السرد الأسطوري , وهذه المساومة بين السينما و الأسطورة سمحت للسينما بالتأسيس لشخصيات أسطورية مختلفة, إذ لم تعد السينما مجرد عرض شكلي للألفاظ أو إعادة تقديم الشخصيات الأسطورية ومحاولة المزج بين الكلام و الصورة , بل تعدى الأمر ذلك, فمن خلال الوعي السينمائي , إن جاز القول, أصبحت السينما أداة جديدة لحفظ تاريخ أسطوري جديد للإنسان الجديد, بل ربما قامت بإنشاء وعي اسطوري جديد استطاع وعي الفنان السينمائي تجسيده. و من هنا قام الفيلم بالتركيز على عبثية فكرة سعي البشر للخلود رغم إيمانهم بعكس ذلك, فمازال حلمهم الأولي لمشاركة و/أو مزاحمة الآلهة على مكانهم ,ينضغط كثيرا أو قليلا على هيئة ملامح أزمات وجودية غير مدركين -بطريقة ما مقولة كارل ماركس الشهيرة بأن البشر " يصنعون تاريخهم , ولكن ليس على هواهم و وفقا لمشيئتهم , بل تبعا لشروط معينة ليست من اختيارهم" فوعي الفرد لذاته "ضمن" التاريخ مرتبط لاشك بحتمية ما و إرادة ما , ولكن حتى هذه الحتمية و تلك الإرادة مرتبطتان لاشك بالجهد البشري.
بول لم يختر أن لنفسه أن يكون من أولئك الفاعلين في التاريخ البشري , فهذا شأن تأملي عميق لا قدرة لبول عليه , وهو ليس نبي جديد بكل الأحوال فهو لا يطمح لخلق عالم جديد أو مجتمع جديد , أو حتى سلوك و نمط جديدين , حتى شعوره بالسعادة لا يأتي من إحساسه بمعناها بقدر ما يأتي من "ملامسته" لها , حيث تحره تلك اللحظات من اللامبالاة الضاغطة بسبب الأزمة الاقتصادية , بمعنى تحول الهم الجمعي إلى هم فردي شخصي يترفع على عذابات الآخرين و لا يشارك في حلها ( لا يستطيع بول وقف حكم إعدام جون مهما كانت درجة تعاطفه معه) وهذا يفسر اختلاط الواقع الحقيقي عنده بالرومنسي و الطوباوي و انسحابه من المشاركة في الحياة رغم أنه عاش طويلا . ولكن أن تعيش أكثر من قرن كما حصل مع بول فهذا يعدّ عقوبة معاكسة , لقد منح جون كوفي خلوداً من نوع ما لبول هتشكوب بأن أطال عمره زيادة عن اللزوم ,الأمر الذي اعتبره بول عقاباً من الرب ,فهو يقف عاجزاً أمام فقدانه لأحبته الذين يشكلون عالمه , زوجته و ابنه و زملاء الميل الأخضر وحتى أصدقائه في دار العجزة , لم يبق أحد من شهود الأسطورة سوى الفأر "جنكليز" الذي انتقلت له عدوى الحياة.ماذا يعني هذا؟؟ لقد وجد الإنسان المعاصر نفسه أمام وهم الإيمان بالخلود , فكل واحد منا سيغادر هذا العالم ,يا لوحشة هذه الفكرة , يا لشدة وطأتها، يا لضعفنا و استسلامنا للمصير المحتوم الذي كان يعرفه جون كوفي, وليس بقاء بول حياً كل هذا الوقت إلا ليقوم برواية أسطورة جون كوفي.
" الأسطورة لاتصل حالاً, أليس كذلك؟ “هذا ما قاله بول لزوجته في بداية علاقته مع جون كوفي, غير أنه أدرك لاحقاً أنه سيكون الراوي الوحيد لتلك الأسطورة التي آمن بها .لقد آمن بول بجون كوفي ,وهذا الإيمان هو ما يؤرقه , فبعد شفائه لزوجة مدير السجن من ورم في دماغها , يبدأ القلق يتسرب لبول, كيف سينفذ عقوبة الإعدام بأسطورة إيمانية تملك بعضاً من معجزات المسيح، بل يشك في أن المسيح أو الرب قد تجسد في شخصية جون كوفي لاسيما بعدما آمن أصدقاء هتشكوب ،مثله، بقدرات جون كوفي. أليس هكذا تنشأ و تنمو الأسطورة؟ أليست الأسطورة سوى حدث حصل في المكان و الزمان غير المناسبين ؟ ما يجعلها تبدو رواية غريبة لمعاصريها , غير معتادة وغير قابلة للتصديق؟ ألا تحتاج الأسطورة إلى شاهد حي يرويها كي تكتمل عناصر الإيمان بها ؟ " هنا الشاهد بول هتشكوب و الفأر جنكليز " , بشرط ان يكون هذا الشاهد مؤمن بها و ليس مجرد ناقل لها .
لم يبدأ إيمان بول بجون هكذا , علينا أن نتذكر أن بول هتشكوب يعاني من مشاكل في جهازه البولي وهذا ما سبب له أزمة حقيقية لأنه أفسد عليه حياته المهنية و الأسرية و , في البداية لم يكن يخطر بباله أن جون كوفي مختلف عن أي محكوم في الإعدام , لكن( يا لشدة غرابة ذلك) كان اللقاء البصري الأول بينهما هائلاً بكل المقاييس فرغم التردد و الخوف الذي كان يشوب تصرفات بول حيال جون كوفي , فقد استطاع هذا الأخير أن يمنحه الثقة. وأخيرا يمد يده لمصافحة جون كوفي بطريقة سنشعر بعدها بأهمية مثل هذا التلامس الجسدي في سياقات السرديات البصرية الأخرى في الفيلم , سنرى تأثير هذا التلامس على علاقة جون كوفي مع الآخرين بشكل عام و مع هتشكوب بشكل خاص .سيجسدها "معجزة" شفاء بول على يد جون حيث يمسك به بشكل يجعله يظن أنه سيقتله ويضع كوفي يده على موضع المرض و"يسحبه" منه ثم يلفظه على شكل نقاط سوداء تخرج من فمه فيسقط متعباً ويخاطب بول "ها قد ساعدتك , أليس كذلك؟؟" ومع ذلك , و بحكم واقعية بول, يبقى نوع من الشك يراوده حتى يتأكد من أن المرض قد ذهب عنه وبذلك تتحقق المعجزة التي قاربت بين الشخصيتين استعداداً لحدوث أشياء أخرى أكثر أهمية ,مما جعل بول يعتقد ويؤمن بأن لجون قصة أخرى غير التي عرفها في لائحة التحقيق والاتهام.. فيبدأ بول بطرح الأسئلة على نفسه من هو جون كوفي؟ من أين اتى ؟ هل يعرف أحد هنا ؟ هل حدثت له معجزات شبيهة ؟ كل هذه التساؤلات حملها الى المختص النفسي والاجتماعي الذي حقق مع جون كوفي حينما اتهم بقتل واغتصاب فتاتين صغيرتين فلم يصل إلى إجابة شافية تروي فضوله ,فلا أحد يعرف من هو ومن أين أتى, فالمدن في تلك الفترة كانت تغص بالرجال الباحثين عن العمل القادمين من أماكن مختلفة وبعيدة. لم يتم التعرف عليه , "كأنه هبط من السماء “كما يقول عنه بول.
ولكن هل جون كوفي قاتل؟ في بلد مثل أمريكا و في زمن كالأزمة الاقتصادية يمكن أن يكون جون كوفي و من يشبهه مسؤول عن كل الشرور على سطح الأرض , فالمحقق الموغل في عنصريته لا يجد حرجاً في التأكيد على امتلاك جون كوفي لكل الدوافع المحتملة لأن يكون هو القاتل , فهو أسود و عاطل عن العمل وعبر عما هو أكثر من عنصرية حينما شبّه جون كوفي بنوع من "الكلاب الأليفة" وتعمد إلى تكرار ذلك على مسمع بول لإقناعه بأن جون مذنب يستحق الإعدام . ولكن لحسن حظ بول (أو ربما لسوء حظه) لم يقتنع بذلك , بل على العكس كان لمثل هذا الكلام وقع عكسي عزز من قناعته ويقينه بأن كوفي ربما يكون قد هبط من السماء ولا يمت الى العالم الأرضي بصلة وقد زاد من هذا اليقين ما قام به عندما أعاد الحياة لفأر قتله "بورسي" أحد السجناء, فقد طلب من بول أن يناوله الفأر لتبدأ "معجزة" كوفي تتجلى أمام جميع الحضور في الميل الاخضر ،فعادت الحياة فعلاً للفأر وسط دهشة وانبهار الجميع, وربما هذا هو سبب وجوده في السجن ففشله في إعادة الحياة للفتاتين جعل الجميع يعتقد أنه المجرم الحقيقي .
سيعتذر جون كوفي-في آخر الفيلم- عن جرم لم يرتكبه. " أنا آسف لأني هكذا". ربما لا يوجد منا من لم يتعرض لمثل هذا، من لم يضطر أن يعتذر "لكونه هكذا"، ربما سيظل البشر على قسوتهم، أو ربما القسوة غريزة ليس إلا لا يقو المجتمع على العيش بدونها، لكن يبقى الحل دائما في يد حبيب، حبيب يستطيع أن يحب أغرب ما فينا، فينقذنا من غربتنا، يقلب الآية فيجعلنا لا نعتذر، بل نفرح لا لشيء سوى "أننا هكذا".... نهاية الفيلم و اعتذاره تمنحنا فرصة لنكون أحرار في الاستنتاج بأنه لم يُعدم لذنب اقترفه, إنما لطبيعته.
جون كوفي يرى ما لا يراه الناس و يسمع ما لا يسمعوه. يتكلم عما لا يوافق العقل أو الحس. و في النهاية سوف يموت على الكرسي الكهربائي , ليس بهدوء كما يخيل لنا , وعلى الرغم من قسوة موته , ثمة من يرتاح لموته , بل ويضحك ملئ شدقيه لتخلصه مما هو "نشاز" و "خارج السياق الأبيض" فمن أجل صيانة عوالمنا نحيط أنفسنا بأسوار و حواجز من صنعنا ولا مانع لدينا من نفي , بل و معاقبة من يقترب من أسوارنا, وابتدع الإنسان الأرشفة و الحدود لحماية عوالمه من "الغرائب"، و إن كان بطرق أكثر لباقة، و يخبرنا برغسون أن الضحك أحد هذه الوسائل، فالمجتمعات تستخدم الضحك على الغريب لإقصائه، لتفريغ طاقة الغضب عليه بصورة لطيفة، ليس كل الضحك جميل إذن، أحيانا هو سلاحنا ضد الضعفاء، ضد العمالقة و الأقزام و الرومانسيين و ثقيلي اللسان و غيرهم، وضد من نعتبرهم بكل صلف من أخطاء الطبيعة! وهو مدخل لتفسير و تأطير حياتنا التي يعترضها أولئك" الأغراب" و "غير الطبيعيين" .ونحن في الحقيقة لا نعلم ما إذا كان جون كوفي رأى الجنة فعلا؟ لأننا لا نعلم حقيقة ما رأى. لكننا نعلم أنه اختار الإيمان. يا لها من تضحية قام بها لا تليق سوى بالأنبياء والبشر أنصاف الآلهة .
ولكن مهلاً، جون كوفي رجل أسود. هل سمع أحدكم بنبي أسود؟ نبي قاتل و مغتصب؟. إذن ما الذي يجعله يقترب من مرتبة الأنبياء؟ هل بسبب حاجتنا إلى "الفادي" و"المصطفى" و "المخلّص" بما يعزز إيماننا ؟ نستغيث بذاك الوليّ ، صاحب الكرامات و المكرمات والمعجزات، حيث لعابه شفاء وبرازه دواء؟ نتساءل، في عصرنا هذا وزمننا هذا ، كيف مازلنا نلجأ للوسيط الروحي كي ينقذنا ،يخاطبنا بما يزيل توترنا في عالم الماديات حيث الضجر القاتل هو المرادف الموضوعي للمصير المحتوم لعصر الصناعة, وهل لمثل هذه التساؤلات ذات الأبعاد الحسية و الانفعالية أن تضغطنا تحت وطأة واقعنا المرير المحكوم بالموت في نهاية المطاف ؟
وعلى الرغم من ميلنا الوراثي والتاريخي للهروب من هكذا فكرة فالإيمان والخلود ضروريان معاً لحفظ توازن الإنسان الأرضي وقدرته على تحمّل ما يزخر به العالم من قبح ومعاناة و ألم. و ربما هذا ما كان يقصده ستيفن كينج بقوله " أعتقد أن ذلك (يقصد الإيمان) يجعل العالم أفضل. فلدينا على الاقل ما نأمل به ونتأمله وما يمثل مصدر قوة لنا. لا أسأل نفسي إن كان الرب موجوداً أم لا، فقد اخترت الإيمان بوجوده، لذلك أستطيع، القول أحيانا "يا إلهي، لا أستطع أن أفعل هذا بمفردي،... وغالبا ما كان الأمر ينجح".
صرخة جون كوفي حين تخلق منعطفاً آخراً للمأساة تحت وطأة رفض وهم استقلال ما هو أرضي عن سواه الإلهي إنما تجيب عن قلقنا الأزلي حين نشعر في لحظة ضعف أننا "بشر" لا ننتمي لجنس البشر لتسويغ تصرفاتنا التي لا نجد لها تفسير أحياناً.
صرخة جون كوفي حين تمزج الأرضي بالسماوي تشبه في جوهرها صرخة المسيح ..الاستنجاد بالأمل المعقود على تواجد الرب في الوقت المناسب والمكان المناسب "إلهي لمٓ تركتني وحيداً". وهنا أيضاً لا نستطيع أن نجزم أنه قالها ،أو أن إلهه تركه وحيداً فهذا من شأنه ان يخلق تعارضاً بين إرادة البشر القائمة على حرية الاختيار وبين التوجيه الإلهي الذي لا فكاك له منه فيما يتعلق بمصيره النهائي.
ومثلما استسلم المسيح لقدره ,استسلم جون كوفي لقدره مدفوعا -مثل المسيح- بالأمل و بالرغبة الصادقة في أن يكون لوجوده معنى (يتساوق مع القدر الإلهي الذي يؤمنان به رغم قدرتهما على الهرب.) فيحمل كل منهما صليبه ، زاعمين أنهما سيمتصان عذابات البشر في سياق مبالغة تسلط الضوء على عجزنا أمام المأساة.
وعلى ضوء هذا العجز يبرز جون كوفي بموته من ركام أرواحنا ليحيلنا إلى أحد أهم المكونات الجوهرية لتاريخنا الأرضي كبشر, وإلى أحد المكونات الجوهرية أيضاً لتاريخنا الوهمي نحن البشر بوصفنا سكان جنة سابقين وليؤكد بموته أن الأسطورة مازال حية وأن مخاوفنا هي فعلاً حقيقية ،فأبسط حرب نعيشها تقضي على مئات الألوف من البشر في زمن قياسي ،الأمر الذي كانت تحتاج فيه الطبيعة ربما لقرون للتخلص منهم.
...............
*ملاحظة جانبية
يقول فرويد:"... هل تتصورون [لو ] أزيلت جميع النواهي ؟ ....في مثل هذا الحال سيكون في وسعكم أن تستولوا على كل امرأة تروق لكم دون تردد. أن تقتلوا منافسكم أو كل من يقف في طريقكم. أو أن تختلسوا من الآخر ما شئتم من أملاكه دون أن تأخذوا موافقته....ألا كم سيكون ذلك جميلاً ،وما أكثر الملذات التي ستقدمها لنا الحياة في هذه الحال ،لكن الصعوبة الأولى لا تلبث -في الحقيقة- أن تنكشف بسرعة. فلقريبي نفس ما لديّ من رغائب ولن يعاملني بمراعاة أكبر من تلك التي سأعامله بها .وفي الواقع لو حطمت القيود التي تفرضها الحضارة فلن يمكن لغير إنسان واحد أن يتمتع بسعادة لا محدودة .هو الطاغية الديكتاتور الذي يكون قد احتكر جميع وسائل الردع و القسر .."
هل الدكتاتور غير مرئي؟ هلامي؟ كلي القدرة؟ خارج التعريف؟ مطلق؟...يقتات الدكتاتور من فلسفة الرعب ويمتص نسغ حياته من استراتيجيات التسلط و"جماليات" التعذيب (سينما الرعب الهوليوودية هي أحد تجليات هذا الهذيان) كما عبر عنها فوكو بمقولة السلطة/المعرفة . وتمتلئ كتب التاريخ بمثل هذا النوع من الأمثلة بحيث لا يحتاج الدكتاتور إلى ابتكار طريقة جديدة ولا يحتار في البحث عن أعذار لممارسة التوحش والتدمير والقتل. المدهش هنا قبول البعض الموت من أجل الطاغية ودفاعاً عن الديكتاتور ،بل يرقصون على أجساد أعدائه , يكفي أن نذكر أحد اشهر الأمثلة في تاريخ ألمانيا النازية , ففي العاشر من أيار 1933 شهدت برلين واحدة من أكثر المشاهد الدرامية حين قام أكثر من 70 ألف شخص بحرق حوالي 20 ألف كتاب. وامتد الأمر لأكثر من 20 مدينة ألمانية أخرى ،وقامت السلطات النازية بنقل وقائع عمليات الحرق عبر الراديو لتدخل كل بيت ألماني
للعلم :من بين الكتب التي أحرقت مجموعة من أعمال كتاب ألمان مشهورين أمثال هاينريش مان، وإريك ماريا ريمارك، ويواخيم رينجلناتس، و ماركس، و فرويد، و بريخت، وكلاوس مان، وليون فويتشفاغنر، وكورت توخلوسكي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا