الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دوستويفسكي والألم

محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)

2018 / 12 / 6
الادب والفن


ربما يشكل مفهوم "الألم" واحداً من أهم مفاتيح الولوج إلى عالم الكاتب الكبير فيدور دوستويفسكي (1821-1881)، فهو يساعدنا على سبر الأغوار العميقة في نفوس شخصياته، وفتح أغلاق معقدة لفهم أفعالهم وردود أفعالهم، وهو بالتأكيد خير معين إذا أردنا الاقتراب من الفلسفة العامة التي تحكم أعماله الروائية، حتى أنه يقدم لنا زاوية رؤية ممتازة لفهم شخصية دوستويفسكي نفسه كإنسان.
الألم حاضر دوماً في أعمال دوستويفسكي، ولا توجد شخصية من شخصياته إلا وتكمن شوكة في جسدها، فأبطاله هم أبناء الألم. وكثيراً ما نرى الألم في رواياته في صور الألم الجسدي الظاهري الذي يعاني منه معظم أبطاله: كالعاهات الجسدية والمرض والشحوب والإرهاق والضعف الجسماني والسل والصرع. لكن الألم يتفجر في أحيان أخرى -وهو الأهم- بسبب الصراع النفسي الداخلي الناتج عن الانفعالات العنيفة، أو تحت وطأة فكرة كبرى تثقل على العقل: كالألم النفسي الذي يحيق براسكولنيكوف في (الجريمة والعقاب) بسبب الفكرة التي تسيطر عليه بتقسيم البشر إلى فئتين؛ فئة عليا وفئة دنيا: طبقة مُختارة وقليلة العدد من البشر السوبر الممتازين الذين يحق لهم كل شيء، وطبقة أخرى تضم التسعة أعشار الباقين الذين هم ليسوا في نظره سوى كومة كبيرة من النمل. أو كمثل فكرة "اتحاد روسيا السلافية بالكنيسة الأرثوذكسية" التي تعصف بنفس شاتوف في (الشياطين). أو الفكرة التي تثقل على عقل إيفان كارامازوف في (الإخوة كارامازوف): فكرة رفض العالم إذا كان الألم -وخصوصاً عذاب الأطفال- هو الثمن المدفوع لتحقيق السعادة المنشودة والنهائية للبشرية.
في هذا الشأن نلاحظ أنه دائماً ما يحدث التبادل بين صورتي الألم الجسدي والروحي عند دوستويفسكي: فمثلاً، يتحول الألم الجسدي إلى حقد على العالم وعلى البشر عند المعلول هيبولت في (الأبله). ومن الناحية المضادة، يتحول الألم الروحي إلى ضعف جسدي، ثم جنون، عند إيفان كارامازوف مثلاً، عندما يكتشف أنه أوعز، دون قصد، للخادم سمردياكوف بقتل أبيه، تماماً كما يتفاقم الضعف والمرض الجسدي على راسكولنيكوف بعد فشله وهو يحاول تنفيذ فكرته بوصفه من الفئة السوبر الممتازة.
نظرية راسكولنيكوف في تقسيم البشر إلى فئتين؛ عليا ودنيا، يمكن أن نستعملها مع شخصيات دوستويفسكي نفسها. أليس بوسعنا القول أن دوستويفسكي قد قسم الألم والمتألمين إلى فئتين: ألم سوبر، وألم وضيع؟! متألمين من الفئة العليا الممتازة، ومتألمين من الفئة الدنيا الوضيعة؟! ألا تنقسم الآلام عند دوستويفسكي إلى آلام عليا ترفع من قيمة المتألم وتعلي من قدره، وآلام دنيا تخفض من قيمة المرء وتنقص من قدره؟!
إذا كان الإنسان هو الكائن الأشد تمرساً بالألم، فذلك لأنه لا يرفض الألم بحد ذاته، بل حتى أنه قد يرغبه ويسعى إليه في بعض الأحيان؛ شرط أن يكون لهذا الألم معنى ومغزى، وأن يكشف عن الهدف منه وسبب لزومه. من هنا يمكن أن نفهم أن معظم شخصيات دوستويفسكي مغروسة في الألم؛ لكنه الألم ذو المعنى والهدف؛ الألم بوصفه فرصة للخلاص، بوصفه إمكانية للبعث من جديد: إنهم إما يتألمون لفداء الآخرين (مثل: سونيا في "الجريمة والعقاب"، والأمير ميشكين في "الأبله"، وأليوشا في "الإخوة كارامازوف")، أو يتألمون لصالح فكرة أو قضية ذهنية (راسكولنيكوف في "الجريمة والعقاب"، وشاتوف في "الشياطين"، وإيفان في "الإخوة كارامازوف")، ومثل هذه الشخصيات هي التي تحظى بالتبجيل والتوقير عند دوستويفسكي؛ أولئك هم الفئة العليا من المتألمين العظماء.
في (الإخوة كارامازوف) مثلاً: يعاني عقل إيفان ولا يستطيع أن يستوعب الآلام التي تلحق بالأطفال بالذات في هذا العالم، وبعد محادثة طويلة مع أخيه أليوشا (الأشبه بالمسيح في الرواية)، يقول:
- "يزعم بعضهم أن الوجود على هذه الأرض لا يمكن تصوره خالياً من الألم ومن الظلم اللذين يستطيعان وحدهما أن يهبا للإنسان معرفة الخير والشر! ألا بئست تلك المعرفة إذا كان ثمنها هذا الثمن! إن كل ما في العالم من علم لا يكفي للتكفير عن دموع تلك الطفلة التي تتوسل إلى الرب الرحيم أن ينجدها. لن أقول شيئاً عن الآلام التي يعانيها الكبار. فإن الكبار قد أكلوا الثمرة المُحرَّمة، فليجنوا جزاء ما فعلوا، وليأخذهم الشيطان جميعاً إذا كان الشيطان ما يزال يلوي عليهم ويهتم بأمرهم... أما الأطفال، الصغار الأبرياء، فما ذنبهم؟ كيف نسوِّغ عذاب الأطفال؟ تلك مشكلة لا أجد إلى حلها سبيلاً... إذا كانت دموع الأطفال أمراً لا بد منه ولا غنى عنه لإكمال مقدار الألم الذي سيكون ديّة للحقيقة، فإنني أعلن جازماً أن الحقيقة لا تستحق أن يُدفع ثمنها باهظاً إلى هذا الحد..."
وفي موضع آخر من المناقشة يُفحم أخيه الراهب المبتدئ، قائلاً:
- " لو كنتَ مهندس المصائر الإنسانية وأحببت أن تبني عالماً تجد فيه الإنسانية السعادة والهدوء والأمن أخيراً، أفتشرع في هذا العمل إذا علمت أنه لن يتحقق إلا إذا كان ثمنه هو عذاب إنسان واحد صغير بريء مثل تلك الطفلة التي كانت تلطم صدرها بقبضتي يديها؟ لو كان البناء لا يمكن أن يقوم إلا على دموع تلك البنية الصغيرة أفتظل توافق على أن تكون مهندس الكون في تلك الشروط؟"
فيجيب أليوشا بصوت جازم:
-" لا ... لا أوافق."
إن إيفان المادي يتألم لأنه قد يقبل فكرة "الله"، لكنه يرفض "العالم" الذي صنعه الله؛ فهو لا يستطيع تقبل فكرة أن يعاني ويتألم الأطفال الصغار فداءً لأي حقيقة أو قيمة عليا أو سعادة نهائية في الأبدية. إن ذلك الصراع النفسي الذي يعتمل بداخله لا يجد سبيلاً للحل، فيظل متجاوراً متعايشاً في شكل فصامي، يعبر عن نفسه بقوة وعنف عندما يكتشف أن الخادم سمردياكوف قد قتل أباه ظاناً أن إيفان نفسه يشجعه على ذلك، فينتهي بالانهيار العقلي أثناء محاكمة أخيه ديمتري المتهم بقتل الأب.
إن إيفان -ككل شخصيات دوستويفسكي الكبرى- مصاب بهوس سيطرة الفكرة الواحدة عليه. إن ما يسيطر على إيفان هو فكرة "الشر" في النفس البشرية؛ الألم والظلم المصاحبان لأفعال الإرادة البشرية الحرة؛ خصوصاً ما يصيب الأطفال الصغار الأبرياء من آلام وشقاء وعذاب. لكن إيفان في غمرة سيطرة "مسألة الشر" على فكره، ينسى "مسألة الخير". إنه يراكم الوقائع والحوادث التي تتعلق بـ "مسألة الشر" الموجه للأطفال، لكنه لانغماسه في فكرته تلك، ينسى أن هناك وقائع أخرى مضادة تتجلى فيها "مسألة الخير" في النفس البشرية؛ وبالذات فيما يتعلق بالأطفال أيضاً. لذلك ربما يكون إيفان هنا هو النغمة المضادة للأمير ميشكين في (الأبله)، وسونيا في (الجريمة العقاب)، بل وأخيه أليوشا نفسه في (الإخوة كارامازوف).
في (الجريمة والعقاب) أيضاً: هناك إشارات عديدة في الرواية إلى أن فكرة تقسيم البشر إلى فئتين: عليا ودنيا، لم تتسلط على رأس راسكولنيكوف إلا كأثر من آثار المرض العقلي؛ والذي نجد صداه في الحمى والهذيان والكوابيس التي تصيبه في الفصول الأولى من الرواية. أي أن هوس وتسلط "الفكرة الواحدة المسيطرة" على راسكولنيكوف أتى لاحقاً على المرض العقلي؛ ومن تلك الإشارات مثلاً؛ قول المحقق بورفير له:
- "لماذا يحدث، أيها الفتى العجوز، أنك ترى هذه الأحلام بالذات في هذيان مرضك؟"
وفي موضع آخر يقول له:
- "هو المرض يا روديون رومانوفتش... هو الهذيان يا صاحبي! كل شيء مرده عندك إلى الهذيان!".
إذا سلمنا بتلك الفكرة، يصبح الوضع كالتالي: هناك أولاً المرض العقلي الذي يصيب راسكولنيكوف، ثم يتسبب ذلك المرض في أن تتسلط على ذهنه فكرة واحدة يصبح عقله مهووساً بها؛ وهي نظرية تقسيم البشر إلى فئتين، ثم يشرع في تنفيذ نظريته، باعتباره هو شخصياً من الفئة العليا التي يحق لها كل شيء؛ من الرجال البرونز الذين هم من طينة نابليون؛ فيقتل المرابية العجوز، واختها، والجنين الذي في بطنها، ويتسبب كذلك في موت الدَّهان الشاب المتهم ظلماً بجريمة القتل، ثم يقود أمه نفسها إلى قبرها فتموت كمداً عندما تعلم بجريمة ابنها.
إن راسكولنيكوف يتسبب في إزهاق خمس حيوات، لا من أجل المال الزهيد الذي سرقه من المرابية، والذي -بالمناسبة- ينساه بعد الجريمة، بل لإثبات صحة نظريته في تقسيم البشر، وأنه ينتمي للفئة العليا. وعندما يكتشف مدى ضعفه (لا ضعف الفكرة والنظرية)، وأنه ليس من طينة نابليون، بل مجرد واحد آخر من أولئك الملايين من "العاديين" الجبناء، أو بتعبيره هو: "إنني بائس حقير، عديم الجدوى، إنني بائس مسكين .. نابليون مفلس!"، عندما يكتشف ذلك، تتفاقم لديه آلام المرض الجسدي والعقلي، حتى يوشك على الانهيار والجنون.
فحتى قبيل ساعة واحدة من ذهابه لقسم الشرطة والاعتراف بجريمته، يظل راسكولنيكوف مقتنعاً بأن ما قام به ليس جريمة، وإنما سوء حظ وخراقة شخصية منه أدت إلى الفشل. يقول راسكولنيكوف لأخته دونيا:
- "جريمة؟ أية جريمة؟ أيكون جريمة قتل قملة قذرة ضارة، قتل مرابية عجوز لا يحتاج إليها أحد، مرابية تمتص دماء الفقراء؟ ألا إن قتلها ليمحو أربعين خطيئة!... الفكرة في حد ذاتها لم تكن حمقاء إلى الحد الذي يبدو الآن بعد أن أخفقت، وكل ما يخفق يبدو غبياً أحمق... كل ما هنالك أنني منذ الخطوة الأولى قد ترنحت لأنني جبان، تلك هي الحقيقة، وذلك هو السبب في أنني شقي؛ فلو نجحت لوضعوا على رأسي أكاليل الغار، أما الآن فإنهم يلقونني إلى الكلاب...".
بل حتى بعد أن سلم نفسه، وحُكم عليه بالسجن، يظل مقتنعاً بصحة النظرية؛ فيقول في سجنه:
- " أيها الفلاسفة التافهون، لماذا تتوقفون في منتصف الطريق؟ لماذا تبدو لهم فعلتي شاذة إلى هذا الحد؟ ألأنها جريمة؟ ماذا تعني كلمة جريمة؟ إن ضميري مرتاح... صحيح أن نص القانون قد اُخترق وأن دماً قد سُفك... ولكن كثير من العظماء الذين أحسنوا إلى الإنسانية لم يكونوا قد ورثوا السلطة وراثة وإنما هم استولوا عليهم استيلاءً؛ أفكان ينبغي أن نقطع رؤوسهم منذ خطوا خطواتهم الأولى؟! إن الفرق الوحيد بيني وبينهم أنهم قد احتملوا ثقل أفعالهم، أما أنا فلم أقدر على الصمود..."
إن ما يعذب راسكولينكوف ليس هو تأنيب الضمير لإزهاقه خمس حيوات، أو لأنه قد سفك الدم، فبالنسبة له الخطأ ليس في النظرية، بل في الممارسة. إن ما يعذبه هو الشعور بالعار من أنه فشل في أن يكون ضمن الفئة العليا من البشر حسب تقسيمه، من اكتشافه أنه ليس نابليوناً، بل قملة أخرى من ضمن القمل؛ "قملة محشوة بأفكار فنية". إن كبرياءه المجروحة هي التي تعذبه، وتتفاقم الآلام النفسية والجسدية عليه عندما يكتشف أنه، ووفقاً لنظريته هو، يجب أن يكون ضمن الفئة الكئيبة الكريهة التي يكرهها، فهذا ما لا يستطيع عقله أن يتحمله.
لكن ماذا عن الفئة الدنيا من صغار وتوافه المتألمين؟! ماذا عن النوع الآخر من الألم؛ النوع الدوني، الذي يُخفض من قيمة المرء وينقص من قدره؟! إننا نعثر عليهم -وهم قلة في أعمال دوستويفسكي على كل حال- في صورة المهرجين الذين يشبهون الموظف مارميلادوف السكير، والفتى ميكولكا الدهَّان في (الجريمة والعقاب). لنستمع، مثلاً، إلى وصف المحقق بورفير لميكولكا:
- "هل تعرف يا روديون رومانوفتش مدى ما لفكرة "الألم" من تأثير في بعض الناس؟ إن هناك أناساً يحبون أن يتألموا لا في سبيل شخص من الأشخاص فحسب، وإنما هم يحبون أن يتألموا وكفى، لأن على المرء أن يتألم، وأن يقبل الألم ويرتضيه... ماذا؟ أتراك لا تصدق أن من الممكن أن يخرج من شعب كشعبنا مخلوقات خارقة من هذا الصنف؟ أؤكد لك مع ذلك أن أمثال هؤلاء الناس كثيرون!"
إن وصف بورفير لميكولكا هو وصف ساخر، ويتناقض بشكل صارخ مع الصور الوقورة للألم في أعمال دوستويفسكي. إن مثل ذلك الوصف الهزلي -والنادر عند دوستويفسكي- نتعرفه أيضاً في شخصية مارميلادوف الذي يتعذب حباً في العذاب؛ والذي يرسمه دوستويفسكي واصفاً إياه بأنه موضع سخرية أقرانه ومعارفه. يقول مارميلادوف مخاطباً راسكولنيكوف:
- "إن ظمئي ليس إلى فرح، بل إلى حزن ودموع! أتراك تظن أيها البائع أن نصف الزجاجة الذي اشتريته منك قد جاءني بالفرح وحمل إليّ المسرة؟ ألا إن الألم هو ما كنت أنشده في قرارة تلك الزجاجة ... الألم والدموع!"
يصبح الأمر هنا مسابقة الجلاد بالجلد الذاتي؛ يصبح التلذذ بالألم من أجل الألم في ذاته، بلا فضيلة يخدمها الألم، ولا قضية يرفعها عالياً؛ أي أن الألم هنا ليس من لوازم الطريق، بل هو الطريق نفسه، ويستقطب أمثال مارميلادوف الألم كما تستجلب الحَربة الصاعقة؛ فيصبح الأمر أقرب للماسوشية (التلذذ بالألم). يواصل مارميلادوف القول لراسكولنيكوف واصفاً زوجته التي تضربه:
- "إعلم أيها السيد أن هذه الضربات لا تقتصر على أنها لا تخيفني، وإنما هي تهيئ لي لذة في بعض الأحيان ... لأنني لا أستطيع الاستغناء عنها! ألا فلتضربني، ألا فلتخفف عن نفسي!"
تلك هي الأوقات القليلة التي نلمح فيها لدى دوستويفسكي ميلاً إلى التهكم الخفي، والاستهزاء المبطن على تألم شخصية من شخصياته؛ وكأنه يدين تلك الآلام ويصنفها في موضع سفلي دوني مبتذل.
لكن ألا تتماس تلك الآلام مع آلام وشقاء دوستويفسكي نفسه في مراحل كثيرة من حياته؟! إن العارفين بسيرة حياة دوستويفسكي يعلمون أن هناك منطقة معينة تتماس فيها آلام الكاتب الكبير مع آلام شخوصه (حتى الدوني منها): مع آلام راسكولنيكوف، وإيفان كارامازوف، وأليوشا، وشاتوف، وسفيدريجايلوف، وبطل "في قبوي"، والزوج بافل بافلوفتش في "الزوج الأبدي"، بل وحتى مارميلادوف نفسه! فليس من ثمة شك في أن دوستويفسكي لم يكن يذهب إلى أي مكان دون أن يرجع إلى الذات؛ فدوستويفسكي من آخر مَن يمكن أن نلمس لديهم شيئاً من الادعاء أو التظاهر، فمن خلال وعيه العميق بذاته كان يلمس الأوتار التي تحرك أبطاله. من أين كان يمكن أن يصف آلام شخصياته إلا من خلال ما خبره هو شخصياً من شقاء وآلام؟!
كان الكاتب العظيم -مثل راسكولنيكوف، بل ومارميلادوف أيضاً- يشعر دائماً بالاستياء من ذاته. ليس الاستياء فقط، بل كان يشعر كذلك باحتقار النفس، وبأنه مُهان ومُذل. شعور فائض بالذنب، ومشاعر عميقة بالعار بسبب بؤس حياته، ومتاعبه المهنية ككاتب، وأهواءه الجامحة، ونزواته الماضية، وأفكار شبابه السابقة، ولكنه كان -مثل مارميلادوف أيضاً- يراهن على أن آلامه تلك وشقاءه ذاك هو دليل على أنه محبوب من الله؛ على طريقة: المؤمن مُصاب.
يروي أندريه جيد في كتابه (دوستويفسكي: مقالات ومحاضرات) أن تورجنيف سمع مرة قرعاً لجرس باب بيته، وأعلمه الخادم بقدوم فيدور دوستويفسكي. تعجب تورجنيف من الزيارة الغريبة وتساءل: ماذا يريد مني؟! دخل دوستويفسكي الغرفة، وبدأ على الفور في رواية قصة من قصصه. استمع إليه تورجنيف ذاهلاً وهو يقول في نفسه: وما دخلي أنا في كل ذلك؟! لا شك أن هذا الرجل مجنون! بعد أن فرغ دوستويفسكي من رواية القصة، صمت تورجنيف صمتاً تاماً. انتظر دوستويفسكي من تورجنيف أي رد فعل؛ ربما كان يُخيل إليه مثلاً أن تورجنيف سينهض فور انتهاءه من رواية قصته فيعانقه باكياً ويضمه بين ذراعيه على طريقة شخصيات دوستويفسكي المريضة بالانفعال المفرط؛ أولئك المتشردون والفوضويون والسكارى والقتلة والمجانين ومرضى الهستيريا ومرضى الصرع ومرضى استحواذ الفكرة الوحدة؛ والذين كان جيمس جويس يُفضل وصف انفعالاتهم بـ "الهيجان" أكثر من وصفها بالجنون.
لكن شيئاً من خيالات دوستويفسكي هذه لم تتحقق. ظل تورجنيف صامتاً صمتاً قاتلاً. عندئذ قفزت أمام عيني دوستويفسكي -من جديد- كل مشاعر العار والانسحاق والهوان في حضور تورجنيف سليل الارستقراطية: تورجنيف الذي كان دوستويفسكي يهفو إلى كلمة اعتراف منه. غلت مشاعر الذل في عروق دوستويفسكي، فقال يخاطب تورجنيف: "سيد تورجنيف، يجب أن أقول لك إن احتقاري لنفسي الآن عظيم". استمر صمت تورجنيف أمام هذا الانفعال المرضي، فصرخ دوستويفسكي في سورة غضب مضيفاً: "وأحتقرك أكثر من احتقاري لنفسي..!"، وخرج تاركاً تورجنيف مذهولاً في غرفته.
يتساءل المرء: ألا نجد تماساً لشعور دوستويفسكي بـ "العار" والانسحاق في حضور تورجنيف، مع شعور راسكولنيكوف بالعار عندما بانت له الحقيقة المرة من أنه لا ينتمي للفئة العليا من البشر؟! ألا يجد المرء نفسه ميالاً إلى افتراض أن تقسيم راسكولينكوف للبشر إلى فئتين: عليا ودنيا، وجد صداه أولاً في تقسيم دوستويفسكي للأدباء إلى فئتين: عليا ودنيا؟! وأن بوشكين، وتولستوي، وتورجنيف، وجوجول هم من فئة الكتاب البرونز الذين يهفو إلى أن يكون في معيتهم؟! ألا نجد ذلك صحيحاً إذا ما راجعنا يومية من يومياته التي كتبها في عام 1870، قائلاً:
- "هل تصدقونني إذا قلت لكم أنني أعرف جيداً أنه لو كان لدى سنتان أو ثلاث سنوات مُؤمنة ومضمونة المعيشة بشكل جيد لتأليف رواية، كما هو الحال بالنسبة لتورجنيف وتولستوي، لكنتُ أنا أيضاً قادراً على كتابة عمل يظل الناس يتحدثون عنه حتى بعد مرور مائة سنة!".
وفي رسالة إلى أخيه ميشيل يكتب دوستويفسكي:
- "أعرف جيداً أنني أكتب بطريقة أسوأ من تورجنيف. ولكن ليس أسوأ كثيراً. ولدي أمل قوي في أنني سأتوصل إلى كتابة بشكل جيد مثل تورجنيف. فلماذا إذن على الرغم من بؤسي والضائقة التي أعاني منها، ينبغي عليّ أن أقبل 100 روبل في الملزمة بينما يحصل تورجنيف، الذي يملك مزارع يعمل فيها 2000 فلاح، على 400 روبل؟! إن فقري يرغمني على التسرع في الكتابة للحصول على النقود، وهذه الطريقة في العمل تخرب وتفسد أعمالي على الدوام".
مقارنته الدائمة لنفسه بتورجنيف، والشعور بأنه أدنى منه، والشعور بالانسحاق أمامه، وبأن كتاباته أسوأ من كتابات تورجنيف، في الوقت الذي يهفو فيه إلى كلمة إطراء على موهبته الأدبية من تورجنيف ؛ تلك المشاعر المتضاربة التي لا يستطيع التعبير عنها إلا دوستويفسكي نفسه أرهف وأقوى تعبير؛ تلك الآلام النفسية القاسية التي خبرها بنفسه في حياته وفي مهنته، والتي جسدها في تصويره لأبطاله الذين يمكن اعتبارهم تجسيداً فنياً لما كان يجول في نفسه وعقله من صراعات وآلام وعذابات وشقاء؛ أولئك الشخوص الذين يتسائلون بشجاعة وبراءة لا تخشى السخرية عن معنى الحياة والوجود، والذين يعتبرون هموم العالم والوجود هموماً شخصية ذاتية.
كان دوستويفسكي يتأثر برأي النقاد السلبي في أعماله ويردده، كان يظلم نفسه باعترافه لظالميه بما يعيبوه عليه، وربما لم يخطر بباله أنه سيعلو على جميع أدباء روسيا ويبزهم، حتى أولئك العمالقة الذين كان يهفوا منهم إلى كلمة تشجيع أو اعتراف؛ وعلى رأسهم تورجنيف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع