الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتفاضة الستر الصفراء بأبعادها الطبقية تعيد الاعتبار لشعارات الثورة الفرنسية في -الحرية والإخاء والمساواة-

عليان عليان

2018 / 12 / 9
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


الحركة الاحتجاجية الهائلة للستر الصفراء ، التي بدأت في فرنسا يوم السابع عشر من نوفمبر- تشرين ثاني الماضي ، وتجمّع خلالها 282 ألف شخص، وفق الأرقام الرسمية، والتي أدت في حينه إلى تعطيل شبه كامل لحركة المواصلات، بدأت تتدحرج مثل كرة الثلج ، فكان يوم 24 نوفمبر الماضي الذي أطلق عليه يوم الخميس الأسود، هو الفصل الثاني لهذه الحركة ، حيث شكل بداية الإعلان الصاخب حركة الشارع الفرنسي، بفئاته الاجتماعية المتضررة من نهج حكومة إيمانويل ماكرون الاقتصادية .
وبرنامج ماكرون في التطبيق العملي، هو برنامج القوى الاجتماعية الرأسمالية التي أوصلته للسلطة ، من شركات وبنوك واحتكارات صناعية وعسكرية، إنه البرنامج النيوليبرالي بأبعاده الداروينية الاجتماعية المتوحشة ، البرنامج الذي يخفض الضرائب على الشركات والبنوك والرأسماليين عموماً ،ويثقل كاهل الطبقات المتوسطة ودون المتوسطة بالضرائب ، والذي يعكس التراجع بشكل نهائي عن بقايا "دولة الرعاية الاجتماعية "،بما يذكرنا بالصيغة النيوليبرالية القاسية التي انتهجتها رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر في ثمانينات القرن الماضي لصالح رأس المال، وفي الذاكرة مقولتها الشهيرة " على سائق البارون أن يدفع نفس نسبة الضرائب التي يدفعها البارون نفسه" ، وبما يذكرنا بالقسوة التي طبقتها في حينه لكسر إضراب اتحاد نقابات عمال المناجم، التي كان يرأسها في حينه النقابي الماركسي سكارغيل.
لقد تلا يوم 24 نوفمبر، تعبئة جماهيرية متصلة لحركات الستر الصفراء، في مختلف المدن والأرياف الفرنسية، حتى جاء يوم السبت الأول من ديسمبر 2018 ، ليشكل الفصل الثالث من انتفاضة الستر الصفراء ، في ذلك اليوم شهدت باريس وليون ومارسيليا وبقية المدن والبلدات الفرنسية زخماً جماهيريا هائلاً " 75 ألف متظاهر" سيطر فيه حوالي 5000 متظاهر في باريس، على مداخل ومحيط شارع الشانزليزيه وقوس النصر ، في حين سيطر المتظاهرون في مختلف المدن والبلدات الفرنسية ،على محطات المواصلات والسكك الحديدية ومصافي البترول ، حيث دارت مواجهات بين المتظاهرين وبين الألوف من رجال الشرطة جرح على أثرها العشرات واعتقل المئات ، وتخلل هذه المواجهات أعمال شغب وتخريب تبرأ منها أصحاب الستر الصفراء ، في حين أشار بعض المراقبين إلى أن هذه الأعمال لم تكن بعيدة عن أيادي أجهزة الأمن ، وعلى نحو يكاد يذكرنا بما يحدث في دول العالم الثالث.
لقد كانت شرارة البدء في حركة الستر الصفراء، هو رفع أسعار الوقود ومشروع ضريبة الكربون البيئية الجديد ، لكن مع مرور الوقت تصاعدت المطالب على نحو يعكس بعدا تمردياً رئيسياً على النهج النيوليبرالي القاسي، الذي تبناه ماكرون منذ وصوله للسلطة ، وعلى نحو معاكس للبرنامج الشكلي الذي وصل من خلاله إلى السلطة من خارج أطر الأحزاب التقليدية يميناً أو يسارا.
ومن يتتبع مطالب الحركة الاحتجاجية الهائلة ، يكتشف أنها تسير في سياق تراكمي متدرج ، وأبعاد جديدة ، وبهذا الصدد نشير إلى ما يلي :
أولاً : البعد الطبقي للحركة
فالحركة الاحتجاجية التي تقودها وتنخرط في صفوفها الستر الصفراء ، والتي تشارك فيها بشكل رئيسي " الطبقة المتوسطة من موظفي القطاع الحكومي والخاص" وفقراء ضواحي المدن ،والفلاحون والعمال والطلبة ، وسكان الأرياف المهمشون ، هي حركة طبقية بمطالب تقدمية مشروعة ،رغم عدم وجود انتماء أيديولوجي محدد لها ، ولا يغير من واقع الصورة لهاث أحزاب اليمين واليسار التي تحاول اللحاق بها، واستثمارها لأغراض انتخابية ، لا سيما وأن هذه الأحزاب لم تخرج في نهجها وتجربتها عن السياق النيوليبرالي الاقتصادي في العقود الثلاثة الماضية.
كما أن هذه الحركة تعكس انقساماً طبقياً هائلاً بين الطبقة البرجوازية ، وبين بقية طبقات الشعب ، ولعل تأييد ما يزيد عن 73 في المائة من الشعب الفرنسي لانتفاضة الستر الصفراء – حسب العديد من استطلاعات الرأي- وتراجع شعبية ماكرون إلى 23 في المائة يؤكد حقيقة الانقسام الطبقي الكبير في فرنسا.
ثانياً: البعد القيمي للانتفاضة
وحسب العديد من المحللين الفرنسيين ، فإن هذه الانتفاضة أعادت فتح صفحة جديدة من تاريخ فرنسا، كان فرنسيس فوكوياما وتوماس فريدمان وفون هوك وغيرهم من منظري النيوليبرالية قد أعلنوا نهايته، عبر إعادتها الاعتبار لشعارات وقيم الثورة الفرنسية عام 1789 " الحرية والإخاء والمساواة "، ولفرادة فرنسا السياسية والاجتماعية والثقافية، لكن هذه المرة بنكهة طبقية ، وهي انتفاضة تقدمية على حد تعبير ميلانشون ، زعيم حزب فرنسا الأبية.



ثانياً : انتفاضة بأبعاد اقتصادية وسياسية
وانتفاضة الستر الصفراء في مطالبها ،لا تقف عند حدود المطالبة بخفض أسعار الوقود وبإلغاء مشروع ضريبة الكربون الجديد ، بل تتجاوزها إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير في السياقين الاقتصادي الاجتماعي والسياسي ، ما يؤكد أن فرنسا في عهد ماكرون باتت تعيش أزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية حادة وغير مسبوقة منذ عقود .
فالمتظاهرون يتحدثون عن ارتفاع الاسعار وعن انخفاض القوى الشرائية لرواتبهم وأجورهم ويتحدثون عن البطالة ، وعن عدم قدرتهم على توفير السكن لهم ، وعن السياسة الضريبية المنحازة للأغنياء على حساب موظفي الطبقة المتوسطة والفقراء ، ويتحدثون أيضاً عن توجهات سياسية لا بد من تطبيقها كضمانة لتطبيق مطالبهم الاقتصادية وعدم التراجع عنها لاحقاً.
ولعل مطالب المجموعة التي أطلقت على نفسها اسم "المتحدّثين باسم السترات الصفر الأحرار" تعكس توجهاتها السياسية والاقتصادية ، حين أكدت استعدادها للقاء رئيس الحكومة وحدّدت جملةً من المطالب، أهمها النظر في الضرائب ومؤتمر وطني حول مسألة الحركة التنقليّة، وتنظيم استفتاءات حول التوجّهات الاجتماعية للبلاد ، واعتماد النسبية في التصويت في الانتخابات.
وها هي حركة الستر الصفراء لم تتوقف في مطالبها عند الجانب المطلبي البحت والسياسي العام ، بل نراها في انتفاضتها السبت 8-12- 2012 تعلي من سقف مطالبها ،فنراها لا تكتفي بالمطالبة بإسقاط النهج النيوليبرالي في فرنسا ، بل نراها تطالب وتناضل في الميدان لإسقاط من يقف على رأس هذا النهج وهو الرئيس ماكرون نفسه.
ويجزم العديد من المراقبين، أن مواجهات الفصل الرابع من الانتفاضة ،التي سادت 400 مدينة وبلدة فرنسية، وخاصةً العاصمة باريس ، بين عشرات الألوف من المتظاهرين ، وبين 90 ألف شرطي ، واكتظاظ الشوارع الفرنسية بالمصفحات والآليات العسكرية ، هذه المواجهات التي جرح خلالها 55 مواطناً واعتقل 1723 من المتظاهرين، تؤكد أن هذه الانتفاضة عصية على الاحتواء ومرشحة للاستمرار ، على عكس ما يزعمه وزير الداخلية بأنها " باتت تحت السيطرة".
لقد كشفت كوادر الستر الصفراء عبر العديد من المقابلات الصحفية مع وسائل الإعلام العالمية- التي هرعت لتغطية هذا الحدث غير المسبوق في فرنسا ،من حيث الأهمية منذ انتفاضة مايو 1968 التي أطاحت بالجنرال ديغول – كشفت عن حجم الغضب الذي يسود الشارع الفرنسي من الإصلاحات الضريبية ،التي تبنتها حكومة ماكرون والتي تمثلت "في إلغاء ضريبة التضامن على الثروة ، وفي خفض الضرائب على الشركات لمصلحة البرجوازية التجارية" .
كما كشفت هذه المقابلات، مزاعم حكومة ماكرون حول أهمية ضريبة الوقود البيئية "الكربون" مشيرةً إلى أن الهدف منها ليس تحسين الظروف البيئية ، بل "شفط " مداخيل الطبقة المتوسطة والعمال وفقراء الضواحي والأرياف .
وجاء تقرير مجلس الشيوخ الفرنسي مؤخراً ، ليصب الزيت على النار ، وليكشف حجم التدليس بشأن استهدافات ضريبة " الكربون" على الوقود ، إذ أن هذا التقرير في خلاصته التدقيقية لقانون المالية التقويمي لعام 2018 ، جاء ليكشف بأن 600 مليون يورو من عوائد ضريبة الكربون لم تذهب للتطوير البيئي ، بل ذهبت من جيوب الطبقة المتوسطة والفقراء إلى الموازنة العامة .
والرئيس الفرنسي الذي أعلن غداة عودته من قمة العشرين في الأرجنتين، تمسكه بسياسته الاقتصادية ورفضه التخلي عن الضريبة المفروضة على الوقود ، اضطر أن يتراجع عن هذه الضريبة ، في محاولة لامتصاص غضب الشارع ، وإجهاض انتفاضة الستر الصفراء، لكن فاته أن يدرك أن ضريبة الوقود لم تكن سوى شرارة الانتفاضة ، وأن مطالبها وأهدافها تنطوي على أهداف سياسية واقتصادية كبرى.
لقد توقع ماكرون بدعواته المتكررة، بشأن التعامل مع الولايات المتحدة عل قاعدة من الاستقلالية ، أن يكسب رضا الشارع الفرنسي بتلاوينه الاجتماعية المختلفة ، وأن يغض النظر عن مخاطر نهجه الاقتصادي المدمر ، لكن فاته أن يدرك بأن مصالح المواطنين الاقتصادية والاجتماعية تقف على قدم المساواة والأهمية مع مصالحهم القومية .
وكان عليه أن يدرك أن بطل الاستقلال الفرنسي الجنرال ديجول ،غادر موقعه الرئاسي في يونيو 1968 على خلفية الأزمة الاقتصادية والبطالة التي وصلت إلى أكثر من 500 ألف عاطل عن العمل ، ونحو مليوني عامل يحصلون فقط على الحد الأدنى من الأجور ، إلى جانب ارتفاع كبير في أسعار المواد الأساسية وإيجارات المنازل .
وكان عليه أن يدرك أن الشعب الفرنسي بمختلف تلاوينه الاجتماعية – عدا البرجوازية الكبيرة – لن يغفر له خطيئته العولمية إثر توليه وزارة الاقتصاد ، وقبل أن يصبح رئيساً ، بأنه كان المتورط الأبرز في فضيحة تمليك الشركة الأمريكية "جنرال موتورز" مفاتيح الطاقة النووية الفرنسية، لتمسي كهرباء فرنسا سلعة أمريكية .
ويبقى السؤال : هل تبقى انتفاضة الصفر في إطار مطالبها الاحتجاجية، التي تأخذ طابعاً تقدمياً أم تتحول إلى حركة ثورية، في مواجهة أرستوقراطية القوى الاجتماعية النيوليبرالية، ومراكز القوى في الدولة العميقة؟
والجواب على هذا السؤال بالإيجاب مرهون بعدة مسائل أهمها :
1-أن يتوسع إطارها الرئيسي لتشكل تحالفاً طبقياً بين الطبقة المتوسطة والعمال والفلاحين والريق المهمش وسكان الضواحي الفقراء.
2- أن تصوغ برنامجاً متكاملاً لمطالبها ، وأن تفرز قيادة محددة لحركتها.
3- أن تشد الطبقة العاملة إلى تحالفها الموسع ، عبر التأثير على قاعدة الكونفدرالية النقابية للعمال الفرنسيين ، التي اتخذت موقفاً محايداً من حركة الستر الصفراء .
4- أن تقيم علاقة تحالفية مع الحركات الاحتجاجية المشابهة في أكثر من دولة ، خاصةً بأن بعض هذه الحركات باتت تحمل ذات الاسم كما هو الحال في هولندا والمجر وبلجيكا، وذلك حتى لا يستقوى ماكرون والطبقة البرجوازية النيوليبرالية التي يمثلها، عليها بحلفائه في الاتحاد الأوروبي.
انتهى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري