الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (2)

ناصر بن رجب

2018 / 12 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مقدّمات وأسئلة لا بدّ منها:
إنّ المقدّمة التي كانت محور المقال السّابق كان لا بدّ منها. فهي ضروريّة جدّا قبل أن نخوض في سلسلة المقالات حول علاقات التناصّ بين الإرث الإسلامي، وخصوصا فيما يتعلّق بالأخبار الواردة في سيرة محمّد، من جهة، والإرث اليهودي المسيحي بصفة خاصّة، في نصوص العهدين القديم والجديد، من جهة ثانية. وهي الفرضيّة التي سنبني على أساسها هذه القراءات. فنحن نفترض أنّ سيرة محمّد هي، في العديد من مظاهرها، تركيبٌ، فريد من نوعه على حدّ علمنا، لأخبار وأحداث استقاها الرّواة ومدوِّنو السيرة النبويّة، ومُصنِّفو المجموعات الحديثيّة، والأخباريون بشتّى أصنافهم، من مختلف مصادر التّقاليد الدينيّة السائدة في مناطق الشرق الأوسط آن ذاك. فالسيرة النبويّة تعجّ بأخبار تبدو في ظاهرها نابعة من السّياق القَبَلي للجزيرة العربيّة الذي عاش فيه محمّد، ولكن عندما يتأمّل المرء جيّدا في هذه الأخبار عن سيرة محمّد يكاد يتلمّس في شخصيّته ملامِحَ من شخصيّات الانبياء والرّسل السّابقين. إذ نجد خاصّة ملامح من كبار الأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى. وقد رُكِّبت ملامح الشخصيّة المحمّديّة إمّا لإقامة الدّليل على التّشابه معهم أو الإختلاف عنهم حسب السّياقات. وما يحثّنا على ركوب هذا الدّرب الشّائك هو مواصفات شخصيّة نبيّ الإسلام كما جاءت في السّيرة. فعلى عكس سِيَر الأنبياء الآخرين التي تركِّز على الجانب الأهمّ للنّبيّ المُتَرجَم له، نرى أنّ شخصيّة محمّد جاءت جامعة مانعة. وكُتُب السّيرة تتناول صورة النبيّ في حالاتها المختلفة التي تلخّص، كما شهد بذلك شاهد من أهلها(1)، كلّ الأبعاد الإنسانيّة. فالنبيّ يقع تصويره وهو يعيش المشاعر البشريّة كلّها: "خَوْفا ورجاءً، فقرًا وغِنًى، عُزلَة واختلاطا، عُزوبَة وزَواجًا، فردًا وربَّ أُسرَة، قائدا حربيّا، ومخطِّطا سياسيّا، إماما حاكما، وإنسانا يجلس مع النّاس للحُكم، آمنا مستقرّا، وهاربا خائفا، منتصرا مظفّرا، ومغلوبا أسيفا..."(2) وهذا ينطبق تماما على الهدف الأساسي لتدوين السّيرة، ألا وهو تركيب أنموذج بشري، "القدوة الحسنة"، الذي يجب على المؤمِن الباحث على منهج في الحياة أن يقتدي به: "لقد كان لَكُمْ في رَسُول اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنَةً" [سورة الأحزاب: 21]
وهذا التمهيد من شأنه أيضا أن يعطينا بعض الأدوات المنهجيّة تفيدنا في كيفيّة طرح مجموعة من الأسئلة حول طبيعة هذه الأخبار التي قيل لنا أنّها وصلتنا بالتّواتر وعبر سلسلة من الإسنادات أكّدوا لنا أنّها ضَمِنت لهذه الأخبار صحّتها وجنّبتها التّعرض للتّحريف والتزوير خلال عمليّة النّقل الشفهي بين الأجيال المتلاحقة من الرّواة المسلمين الأوائل قبل عصر التدوين. كما أنّنا لا يمكن أن نُهمِل وُجوب النّظر في الطُّرق والأساليب التي اعتمدها المحدّثون والأخباريون في قَبول هذه الشّهادة أو تلك والاحتفاظ بها كخبر تاريخي مؤكّد، أو رفض أخرى مشكوك في صحّتها؟ ولماذا؟ وما هي هذه الأدوات؟ وما هو مدى موضوعيّتها ودرجة واقعيّتها عندما نعرف أنّ عُنصر الفرز الأساسي الذي اعتمدوه ليس مصداقيّة محتوى الشّهادة بل شهرة الرّواة المتعاقبين؟ كيف نُفسّر أنّ هذا المنهاج أدّى إلى الإعتراف بصحّة العديد من الأخبار والشّهادات إتّضح لاحقا أنّها كاذبة وتمّت فبركتها بالتّمام والكمال لا لشيء سوى التملُّق لبعض خلفاء بني أميّة وكسب رضاهم؟ ثمّ لا يجب أن ننسى أنّ تدوين المأثور الإسلامي، أو "تَقْييد العِلم" كما يقول الخطيب البغدادي، لم يبدأ إلاّ بعد مُضي أكثر من قرن ونصف بعد وفاة نبيّ الإسلام. فماذا حدث طيلة هذه الفترة من الزمن على صعيد تناقل هذه الأخبار، سواء فيما يخصّ سيرة الرّسول أو العقيدة الإسلاميّة برمّتها؟ ما هي الآليات التي وقع استنباطها لنقل هذا المأثور من جيل إلى جيل، ونشره من منطقة إلى أخرى، ومن شعب إلى شعب في ركاب توسّع رقعة النّفوذ الإسلامي؟ هل بقي هذا المأثور على حاله لم يتغيّر؟ ألم تَقُل الشّعوب المغلوبة كلمتها فيه؟ بمعنى آخر، ألم تُسهِم هذه الشّعوب من خلال نُخبِها في إغناء هذا التّراث وصَبغِه، ولو جزئيّا، بعناصر من تراثها الخاصّ بها وصهر الكلّ في بوتقة واحدة؟ وهذا ما يحصل عادة بين الغالب والمغلوب. فتاريخ كبرى الحضارات الإنسانيّة تعلِّمنا أنّ المغلوب يقدِّم دائما وفي جميع الحالات والظّروف إسهامات لا يُستهان بها، بل قد تكون حاسمة وجوهريّة للمستقبل، للغالب وثقافته التي تسعى إلى الهيمنة. كيف يمكننا أن نتيقَّن يقينا قاطعا بأنّ هذه الشّعوب وقفت موقفا جامدا، ستاتيكيّا، أمام هذا التّراث الذي وفد إليها من "الخارج"، كما جاءها من الجزيرة في مراحل الإسلام الأولى، هذا إذا افترضنا جدلا أنّه كان بالفعل غير معروف تماما لديها، وكانت تجهل كلّ محتواه تمام الجهل؟ هل "البراهين والأدلّة" التي قدّمها العلماء المسلمون عبر العصور كافية لإقناعنا بأنّ المأثور الإسلامي لا يمكن الطّعن في صحّته والتّشكيك فيه، وأنّه وصلنا نقيّا لا تشوبه شائبة؟ في هذه الحالة، كيف يمكننا إذن أن نفسِّر اختلاف الرّوايات بخصوص الحدث الواحد إذا لم نقل تضاربها في أحيان كثيرة؟ كيف يمكن أن نقبَل ب "أُميَّة" محمّد، في حين أن القرآن والحديث يعجّان بأخبار اليهود والنّصارى والأمم الغابرة داخل الجزيرة وخارجها؟ فإذا كان ما جاء في القرآن بهذا الخصوص طبيعيّا بحكم أنّه "كلام الله"، فكيف نفسّر الجدالات العَقديّة والشعائريّة، التي تتطلّب غالبا معرفة دقيقة بالدّيانات الأخرى، التي دارت بين محمّد من ناحية، واليهود والنّصارى، من ناحية أخرى؟ هل يمكن أن نفترض أنّ محتوى هذه الجدالات ومبرّراتها، من خلال التطوّرات التي تعرّضت لها عبر العصور وفي سياقات مختلفة، ما هي إلاّ انعكاس للنّقاشات والمماحكات اللاّحقة، بعد قرون من وفاة محمّد، التي دارت رحاها بين علماء المسلمين وقادتهم وبين الدّيانات الأخرى؟ أي بين دين ناشئ يجهد بكلّ قواه في فرض سيطرته العسكريّة، والسّياسيّة وخاصّة الفكريّة والعَقديّة حتّى ولو أدّى الأمر به إلى تبنّي عناصر أساسيّة واسعة من عند خصومه، وبين ديانات سابقة تُدافع عن نفسها وتحاول أن تضمن بقاءها وتُطالب بحقّها في الوجود من خلال إثبات مشروعيّتها وتكافئها، حتّى لا نقول تفوّقها، على الدّين الجديد من حيث أسبقيّتها عليه، ومضمون رسالتها وطريقة نشوئها؟
كلّ هذه الأسئلة، وغيرها كثير، حاول الباحثون الغربيّون المعاصرون الخوض فيها خصوصا منذ القرن التّاسع عشر عندما طوّرت المدرسة التاريخيّة النقديّة مناهجها العلميّة الصّارمة وطبّقتها على التّوراة والإنجيل، الشيء الذي سمح بإعادة النّظر في كلّ أمّهات القضايا المتعلّقة بالنّصوص المقدّسة اليهودية-المسيحية.

الدّفاع عن صدق الرّوايات الإسلاميّة:
ومنذ ذلك التّاريخ كُتب الكثير عن سيرة محمّد، سواء كان من طرف المسلمين أنفسهم أو من طرف مثقّفين أجانب وبالخصوص منهم المستشرقون (انظر الملخّص المهمّ الذي قدّمه هشام جعيّط في مقدّمة كتابه: تاريخيّة الدعوة المحمّدية في مكّة). وقد سلكت هذه الكتابات مسالك عدّة ورامت أغراضا شتّى تصل إلى حدّ التّناقض. فأمّا المؤلّفات التي قدّمها كتّاب السّيرة المسلمون التّقليديّون منذ ابن إسحاق إلى يوم النّاس هذا فهي تهدف إلى "تثبيت نبوّة محمّد" والتّأكيد على صحّة كلّ ما ورد في المأثور الإسلامي. وجلّ هذا الإنتاج، كما يقول الأستاذ عبد المجيد الشرفي هو: "إمّا اجترارٌ وإعادةٌ لما جاء عند القدماء، مع تبسيط وتسطيح مُخِلَّيْن في كثير من الأحيان، وإمّا توظيفٌ وإسقاطٌ تحتلّ فيه الإيديولوجيا مكان الحقيقة والعلم"، كما نجد أيضا محاولات محتشمة هي عبارة على: "تناول لقضايا جزئيّة لا ترقى إلى النّظرة الشموليّة ولا تضع المسائل في إطار نظري واضح. وهو في أفضل الحالات تعبيرٌ عن نوايا وبسطٌ لما ينبغي أن يُنجَز، يتذرّع بصعوبة المشروع أو يُلمِّح ولا يُصرِّح متوخيا التقيّة ومحبِّذا السلامة"(3).
يستميت فَيْلق كبير من المفكّرين المسلمين، وخاصّة ذوي التوجّه السّلفي ناهيك عن التّيارات الجهاديّة التكفيريّة التي تعتمد العنف بدل الحوار، في الدّفاع عن صحّة كلّ ما ورد في المأثور الديني الإسلامي وخاصّة المدوَّنات النّصية المؤسِّسة الثلاث: القرآن، والسيرة والحديث. وهم يقومون بذلك لا يتوخّون في مؤلّفاتهم مناهج البحث المعاصرة، ولو ادَّعوا ذلك بدون خجل ولا تواضع، التي تنوّعت وتفرّعت ولكنّها تُسْهِم كلّ واحدة منها حسب اختصاصها مع أخرى لتسليط أضواء مختلفة تتظافر كلّها لإجلاء ما تستّر وما غَمُض. فكلّ الحجَج التي يقدّمونها، كما ذكرنا آنفا، هي مجرّد تكرار لتلك التي اعتمدها الأسلاف في جدالهم على ما يظهر مع خصومهم.
نأخذ هنا بعض العيّنات من بين هذه الكتابات المُنافِحة بلا هوادة، دون تروٍّ واستعمال للعقل، على عقيدة الإسلام وشخصيّة نبيّه أكثر مِن أنّها تحاول فهم التّاريخ فهما موضوعيّا يرقى إلى مستوى البحوث العلميّة المعاصِرة، عيِّنات من بين المئات التي تُرصَد لها أموال طائلة لترويجها في جميع أنحاء المعمورة. فهي ضرب من البروباڤندا الضحلة المكشوفة كلّها زعيق ونهيق أدخلها أصحابها فيما يسمّى بـ"صراع الحضارات"، بين الغرب الكافر المتجبِّر الحَسود (وكْر كلّ الشّرور والموبقات) والعالم الإسلامي (حامل راية الإيمان الصّحيح التي يحسدها عليه الغرب)؛ بين قيم الإسلام السّمحَة وما حَبلت به سيرة نبيّه من أفعال وأقوال وتقارير تشكّل المثل الأعلى والقدوة الحسنة التي يجب على الإنسانيّة جمعاء الإقتداء بها والسير على منهاجها. فمثلا، يقسّم فاروق حمادة، وهو المستشار الديني لمحمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي ومدير جامعة محمد الخامس – أبو ظبي مصادر السيرة النبويّة إلى قسمين رئيسيّيْن: "أ- مصادر أصليّة، وهي الكتب الأولى، وما قاربها، وكان أصحابها ينقلون من المصادر الشفهيّة المتعدّدة، ويدوّنون ذلك، أو يتلقّون من مصنّفات متعدّدة، تُنْقل بالأسانيد (...)، وتمتدّ هذه الفترة حتّى القرن الخامس الهجري او بُعيْده بقليل. ب- ومصادر فرعيّة، وهي التي أُخِذت من المصادر الأولى، وعوّلت عليها واقتصر عمل مؤلّفيها على الجمع والتّنسيق، والتّعليق والشّرح، وبيان الغامض... وما إلى ذلك، وإن كان الغالب على هذه المصادر واحدا من إثنين: إمّا المبالغات الزّائدة وتصوير السيرة بالصّورة الأسطوريّة إن كان المؤلِّف مؤمنا محبّا لمحمّد، حتّى بدت السيرة النبويّة من خلال هذه المؤلَّفات بعيدة عن الواقع جدّا، ويتجلّى هذا في الأعصر المتأخِّرة (...) وإمّا تحليلها تحليلات جافّة وإظهار بعض المواقف في السيرة النبويّة بغير حقيقتها إن كان المؤلِّف غير مسلِم أو كان مسلِما، ولكنّه أدخل السيرة لخدمة نزعته السّياسيّة التي لا تتّفق مع الإسلام، كما فعل المستشرقون عندما تكلّموا عن حياة النبيّ العائليّة وزوجاته..." (4).
المثال الثّاني، ما كتبه محمّد يسري سلامة وهو يتأسَّف لانتقال البحث في السيرة النبويّة من بلاد الإسلام، التي هي الأَوْلى بالقيام بذلك، إلى الغرب الحسود: "على يد المستشرقين الذين لا يخلون في مُعظَمهم مِن الأغراض الخبيثة والنّزعات الفاسدة في دراسة السّيرة ومصادرها"(5). ثمّ يَذكر، دون التردّد عن إطلاق أحكام قِيَميّة ذاتيّة خارجة تماما على أخلاقيّات البحث العلمي ومبادئ النّقد الموضوعي النّزيه، كتاب ألويس شبرنجر "الرديء" حول حياة محمّد؛ وكتابات الأمير الإيطالي "الحاقد" ليون كايتاني الذي كانت مؤلّفاته كلّها "تَقطُر حقدا وبغْضا للإسلام وأهلِه" (6). وقد استعان هذا الحاقد بالباحث "اليهودي" الإيطالي ليفي ديلاّ فيدا؛ وكذلك "الرّاهب اليسوعي البلجيكي" هنري لامانس: "الذي قَصَر حياته البائسة (كذا) على البحث في السيرة، ووُصِم بالتّدليس والكذِب والتعصُّب الشديد حتّى بين أقرانه، وجميعُ ما كَتَب يدلّ على فساد الذّهن وخُبْث النيّة..."(7). ولكن حسب الكاتب فإنّ "اليهودي الألماني يوسف هوروفتز يظلّ أبرز المستشرقين وأَعرَفهم بكتب السيرة ورواتها ومصنّفيها على الإطلاق"، وقد دسّ في مؤلّفاته "من السمّ ما دسّ"(8).
وعلى غرار فاروق حمادة، لا يتورّع محمّد سلامة في إقحام هذه المسالة، تدوين السيرة النبويّة، في خضمّ "صراع الحضارات" والتّدافع بينها. وهو يركِّز على أسبقيّة العالم الإسلامي في صناعة "علم التّاريخ" وفضله على أوروبا التي لم تكن تعرف "حدوده ومعانيه التي يصطَلِح عليها النّاسُ الآن إلى مطلع قرنِهم الثالث عشر، واستغرق الأمر منهم قرنَيْن أو ثلاثة ليستقيم عودُ هذا الفنّ عندهم وينتظم وينضبط، بعد أن كان مقتصرا على شيء كثير من القصص الخرافيّة، والأساطير التّافهة المكذوبة، وضروب شتّى من اللّغو والقول السّخيف"(9). كما أنّه لا يخجل من عقْد مقارنة أقلّ ما يُقال فيها أنّها تنمّ عن عبادة مفرطة للماضي وتشبّث مستميت بتلابيب السّلف حين يُصرِّح: "ذلك أنّ مثلَنا ومثَلَ الأمم الأخرى كمثل رَجُليْن؛ أحدهما أَضَرَّ بعد أنْ كان مُبْصِرًا مُدّةً من الدّهر، والآخرُ وُلد أعمى، وشبّ على العَمى [خاصّة الغرب بطبيعة الحال]. فالّذي وُلد ضريرا منهما [أي الغرب دائما] لا يضرُّه ذلك في عامّة شئونه لأنّه اعتادَ حالَه وأَلِفها، فيُمكِنه تصريفُ غالب أموره، وتلمُّس طريقه، بل إتْقان ذلك مع ذهاب بصره وغيابه. وأمّا الأوّل [أي العالم الإسلامي] فيتخبّط، ويتعثَّر، ويضطَرب في كلّ أمر، وعند كلّ أمر، لِفَقْدِ نوره الذي عَرَفَه وأَلِفه..."(10).
وكما هو متوقّع، لم يسلَم من مثل هذه الإتّهامات مفكّرون من العرب المسلمين مثل عميد الأدب العربي طه حسين (على هامش السيرة)، محمّد حسين هيكل (حياة محمّد)، محمود عبّاس العقّاد (عبقريّة محمّد) الّذين صُنِّفوا على أنّهم ينتمون إلى المدرسة الماديّة التي وفدت إلى العالم الإسلامي من الغرب عبر المستشرقين.

الوَصْفة السحريّة عند علماء النزعة السلفيّة: "التّواتر"
ثمّ يمرّ الكاتب إلى الحديث على قضيّة تدوين المأثور عند الأمم والشّعوب وخاصّة فيما يتعلّق بالمأثورات والتّقاليد الدينيّة. وبطبيعة الحال فهو يقرِّر جازما أنّ الأمّة الإسلاميّة بزّت، بما لا يدع أي مجال للشّك، كلّ أُمَم العالم في هذا المجال، فعنايتها بالسّيرة النبويّة "أمرٌ لا نظير له في سائر الأمم، وكذا عنايتها بأخبار الصّحابة، والفقهاء، والمفسّرين، والمحدّثين..."(11)، ويستنجد كغيره بشيخ الإسلام ابن تيميّة الذي كعادته لا يعرف للمبالغة حدودا حين يصرِّح: "ليس في الدّنيا عِلْم مطلوب بالأخبار المتواتِرة إلاّ والعِلْمُ بآيات الرّسول وشرائع دينه أَظْهَر من ذلك، وما مِن حالِ أحدٍ مِنَ الأنبياء والملوك والعلماء والمشايخ المتقدِّمين وأقوالِه وأفعاله وسيرته إلاّ والعلمُ بأحوال محمّد أَظْهَرُ من العلم به (...) وهذا ممّا يُبيِّن أنّه ليس في الوجود أمر يُعلَم بالنّقول المتواتِرة إلاّ وآيات الرّسول وشرائعه تُعْلَم بالنّقول المتواترة أعظَم ممّا يُعْلَم ذلك"(12).
يظهر جليّا أنّ "التّواتر" عند العلماء المسلمين، وخاصّة التيّار السّلفيّ المُتحجِّر بقُدَمائه ومُحْدثيه، يعني بالضّرورة النّقل الحرفي للخبر، أي أنّ الرواية يقع تناقلها جيلا عن جيل دون أن يلحَق بها أيّ تغيير أو تبديل، وبدون زيادة أو نقصان سواء كان من حيث المحتوى أو الشّكل، المتن والألفاظ تظلّ فيها كما هي منذ المصدر الأوّل إلى لحظة التّدوين ثمّ تدوين التّدوين إلى ما لا نهاية. مع أنّ تعريف "النّقل المتواتر" أو "النّقل المستفيض" وشرطه على أنّه خبر أو حديث روته مجموعة من الأشخاص "تكون العادة قد أحالَت تواطُؤهم على الكذب" هو تعريف مبني فقط على "العادة" والتي لا ندري ما هي متطلّباتها. ولكن هل هذا هو حقيقة ما حدث مع عمليّة نقل التّراث الإسلامي، بما في ذلك السّيرة النبويّة، أم هو مجرّد موقف أيديولوجي بحت تقمّصته أجيال متلاحقة من علماء السّلفيّة وكرّسته كدليل قاطع لا يقبل النّقاش والجدل على أنّ التّراث الإسلامي بمجمله، خلافا لليهوديّة والمسيحيّة، لم يأتِه التحريف من خلفه ولا من بين يديه؟ بل ظلّ نقيّا خالٍ من الشّبهات بفضل "التّواتر" والعناية الإلهيّة التي أنعمت على العرب والمسلمين بذاكرة فذّة لا تعرف النسيان والوهن.
فهل كانت هذه هي نظرة كلّ المؤرّخين للتّراث الإسلامي منذ عصور الإسلام الأولى؟ هناك عدّة أمثلة تدعنا نشكّ في ذلك. فقد أفصح بعضهم، ومِنْ بينهم مشاهير، على توخّي الحذر الشّديد في الأخذ بالرّوايات "المتواترة". فقد عبّر عن ذلك صراحة المؤرِّخ الأشهر ابن جرير الطّبري في مقدّمة كتابه "تاريخ الرّسل والملوك"، وهو المصنَّف الذي يُعتَبر عُمدة المصنّفات قاطبة في هذا المضمار. فهو منذ البداية إذ يُقدِّم منهجه الذي توخّاه في جمع مادّة كتابه يُنبِّه القارئ مصرّحا: "ولْيَعلَم النّاظر في كتابنا هذا أنّ اعتمادي في كلّ ما أَحْضرْتُ فيه ممّا شرطت أنِّي راسمه فيه، إنّما هو ما رويْتُ من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مُسنِدُها إلى رُواتِها، دون ما أدرِكُ بحُجَج العقول، وأستنبِط بفِكَر النّفوس، إلاّ اليسير القليل منه، إذْ كان العلم بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائن من أنباء الحادثين، غيرَ واصل إلى مَن لم يشاهِدهم ولم يُدرْك زمانهم إلاّ بإخْبار المُخبِرين ونقل النّاقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفِكَر النّفوس". ثمّ يُضيف الطّبري، بكلّ نزاهة وتجرّد وأمانة، مُستَسْمحا مُسبَقا قارئه على أنّه غير مسؤول عمّا سيُدوِّنه: "فما يكن في كتابي هذا من خَبَرٍ ذكرناه عن بعض الماضين بما يستَنْكِره قارئُه، أو يَسْتَشْنِعه سامعُه، من أجل أنّه لم يَعْرَف له وجْها في الصحّة، ولا معنى من في الحقيقة، فلِيَعْلم أنّه لم يُؤْتَ في ذلك من قِبَلِنا، وإنّما أُتِيَ من قِبَل بعض ناقليه إلينا، وأنا إنّما أدّيْنا ذلك على نحو ما أُدِّيَ إلينا"(13).
ينسف هنا الطّبري، عن وعي أو غير وعي، مقولة "الذّاكرة الشفويّة العربيّة الإسلاميّة الفذّة العابرة لكلّ زمان ومكان" وكأنّها "القُرْص الصَّلب" «Hard Disc» الذي اخترعته تكنولوجيا المعلوماتيّة المعاصرة.
إذا سلّمنا جدلا، وجارينا ما يدّعيه الفكر المتحجِّر، بأنّ التّواتر أداة يُعوَّل عليها في نقل الأخبار لأنّها تعتمد على "ذاكرة فذّة" فإنّنا لا يمكننا غضّ النظر على ظاهرة خطيرة أخرى شاعت قبل الإسلام ألا وهي ظاهرة "النَحْل والانتحال والوَضع" التي أصابت بالخصوص مادّة الشِّعر. ومن معضلات "النحل" [أي أن تعزو قصيدة لغير قائلها] ضُعف ذاكرة الرّواة بسبب تقادم الزّمن؛ تشابه أسماء الشّعراء؛ تشابه البحور والقوافي والأغراض(14). وقد قيل أنّ الحطيئة بكى قبل وفاته، فلمّا سألوه عن سبب بكائه أجابهم: "أبكي الشعر الجيد من راوية السوء". وليس لدينا أيّ مبرِّر على الإطلاق، في ظلّ المعلومات المتوفِّرة لدينا إلى الآن، لكيلا نفترض أنّ هذه الظاهرة بمختلف وجوهها استمرّت بل نمت وتطوّرت بعد الإسلام وخصوصا في ظلّ دُول الخلافة المتعاقبة. فقد أصبحت الرّواية وسيلة للتكسُّب المادي السّهل، وأداة رخيصة للتَّقرُّب "من الخلفاء والأمراء والولاّة، وكذلك حبّ الظهور والتفوّق على الخصوم والمنافسين(15). كما أنّها امتدّت لتشمل تدوين السّيرة النبويّة وجمع مادّة الحديث وتفاسير القرآن. فمثلا كلّ ما قيل من شعر نُسِب للأحبار والرّهبان لا لشيء إلاّ لإثبات صحّة نبوّة محمّد: "وكلّ ما خالطه من الأخبار والأساطير [كان] لإقناع العامّة أنّ الرهبان والأحبار والموحِّدين أنّهم كانوا في انتظار النبيّ في مكّة ويثرب(16)"، ومثل ذلك حدث مع المفسّرين الذين: "لكي يفسّروا ما جاء في قصص القرآن الكريم من أخبار الأمم السّالفة كعاد وثمود وغيرها، ممّا يُعرَف عندهم بالإسرائليّات، عمدوا إلى الوَضْع لسدّ الثّغرات التي تعترض ما يفسّرونه وتقف عائقا أمامهم"(17). وكذلك ما نُسِب للأحناف: "وما كان من أحاديثهم وتبشيرهم بقرب ظهور النبيّ المنتظر، فقد وضعوا روايات وأشعارا على لسان هؤلاء ثمّ نُسْبت لهم في الإسلام، لا لشيء إلاّ ليثبتوا أنّ لهم في الإسلام سابق عهد وقِدَم"(18).
إنّنا نبقى مع ذلك أمام مأزق حقيقي. فكيف يمكننا أن نغربل كلّ هذا الكمّ الهائل من الأخبار ونتعرّف فيها على ما هو تاريخي حقيقة وما هو موضوع سُخِّر لخدمة أغراض شتّى؟ فحتّى ما قام به بعض كتّاب السيرة على سبيل المثال، ما يُسمّى "تهذيب"، أو "تهذيب التّهذيب" (على غرار تهذيب ابن هشام لسيرة ابن إسحاق)، تبقى ظروفه غامضة، إذ لا نعرف الملابسات الحقيقيّة التي تمّ فيها ذلك: لماذا؟ وكيف؟ وما هي بالتّحديد العناصر التي حُذِفت من المأثور "المُهذَّب" أو "المُختَصَر"؟ يُصرّح ابن هشام أنّه: "تَارِك بعضَ ما ذَكَرَه ابن إسحاق في هذا الكتاب ممّا ليس لرسول الله فيه ذِكْر، ولا نَزَل فيه من القرآن شيء، وليس سبَبا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرا له ولا شاهِدًا عليه؛ لما ذكرت من الاختصار، وأشْعارا ذَكَرها لم أَرَ أَحَدًا من أهل العلم بالشّعر يعرفها، وأشياء بعضُها يَشْنُع الحديثُ به، وبعضٌ يسوء بَعْضَ النّاسِ ذِكْرُه، وبعضٌ لم يُقِرَّ لنا البكَّائي بروايته..."(19). كيف لنا أن نتأكّد فعلا ممّا قام به ابن هشام؟ ما هي هذه الأشياء التي كانت قد أصبحت مُقلِقة لآراء وعقيدة عصره؟ ما هي تلك الأشياء التي بعضها "يشنع الحديث به؟ والأشياء الأخرى التي بعضها "يسوء بَعْض النّاس؟ ومَن هم هؤلاء النّاس؟ وما هي الأسباب التي دفعت شيخَه البكّائي إلى عدم التّرخيص له برواية بعض الأشياء؟ فهل كان البكّائي، الذي روى مباشرة عن ابن إسحاق، على علم بالمرويّات "الشّنيعة" التي كان يُحدِّث بها شيخه ابن إسحاق؟ ولماذا لم يعترض عليها؟ وكيف يمكن الإستناد على مصدر فيه كلّ هذه التحريفات والفبركات من روايات وأشعار مكذوبة، واستخدامه كأساس أصلي وحيد لكتابة سيرة نبيٍّ بحجم محمّد، جاء بشيرا ونذيرا للإنسانيّة جمعاء؟ لماذا لم يعتمد البكّائي على معاصرين آخرين كأبّان بن عثمان وعروة بن الزّبير، إلخ؟ أسئلة لم يعد بالإمكان الإجابة عنها. كما أنّه يوجد فرق شاسع بين حذف شيء مع الإبقاء عليه متداولا بين النّاس [كما فعلت الكنيسة مع الأناجيل المنحولة التي لم تلغها تماما ولم تحرمها من الوجود]، وبين اتلاف الشيء تماما وإعدامها إلى الأبد. فابن هشام نصّب نفسه "حاكِم تفتيش" على ما جاء في المأثور وألغى منه ما شاء أن يُلغي دون أن يترك لمن يأتي بعده إمكانية ابداء رأيه فيما ألغاها. ثمّ أنّ تَلَف النّسخ القديمة وابدالها بأخرى، أو إتلافها (حرقًا بالنّار أو إغراقا بالماء أو بغيرهما من الطرق) يفقدنا نهائيّا القدرة على تأكيد أو نفي تطابق النُّسخ المنقّحة مع سابقاتها والحكم على مدى عمق التغييرات التي أصابتها وفداحة التحويرات والتحريفات التي أُدْخِلت عليها.
بالفعل، هناك، مع الأسف الشّديد، كثير من المصادر العربيّة الإسلاميّة القديمة، التي أحصتها كتب الفهارس (مثل فهرست ابن النّديم)، لم تصلنا ولم يُعثر لها على أي أثر إلى يومنا هذا. وبناء على ذلك يقوم نوابغ الباحثين في العلوم الإسلاميّة بين الفينة والأخرى بمحاولة إعادة تركيب هذه المصادر انطلاقا من الاستشهادات المتناثرة في عديد المصادر الأخرى. مثلما قام عديد الباحثين بمحاولة بناء سيرة ابن إسحاق من خلال ما رواه منها الطّبري وغيره من المؤرّخين القدامى قبل أن "يُحوِّرها" ابن هشام ويعمل فيها مِقصُّ رقابته ما عمل ثم يُتلف. ونحن نتّفق مع الباحثة Ella Landau-Tasseron فيما ذهبت إليه حين قالت بأنّ: "إعادة بناء المصادر المفقودة لا تتلخّص فقط في عمليّة تجميع الاقتباسات. فهذه الأخيرة يمكن أن تكون غير أصليّة ومن درجة ثانيّة أو ثالثة بالرّغم من أنّها تتّخذ شكل الرّواية المباشرة. والعناصر المستَعْمَلة في هذه الاقتباسات يمكن أن تكون قد تغيَّرت تغييرا كليّا عن الأصل"(20).
إنّ المحاولات التي سنقوم بها لاحقا في هذه السلسلة من المقالات، أساسا فيما يتعلّق بالسيرة النبويّة، ستخرج عن دائرة المأثور الإسلامي لكي تستكنه جذور الرّوايات وأصولها في النّصوص المقدّسة الأخرى ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
(يتبع)
_________
الهوامش
(1) فاروق حمادة، مصادر السيرة النبويّة وتقويمها، الطبعة الثالثة، دار القلم، دمشق 2002.
(2) نفس المصدر، ص 25.
(3) عبد المجيد الشرفي، الإسلام بين الرّسالة والتّاريخ، دار الطّليعة، بيروت 2001، ص 5.
(4) فاروق حمادة، نفس المصدر، ص 32.
(5) محمّد يسري سلامة، مصادر السيرة النبويّة ومقدّمة في تدوين السّيرة، دار الجبرتي وجار النّدوة، القاهرة 2010، ص 22.
(6) نفس المصدر، ص 23.
(7) نفس المصدر، ص 24.
(8) نفس المصدر، ص 26.
(9) نفس المصدر، ص 34.
(10) نفس المصدر، ص 37-38.
(11) نفس المصدر، ص 39.
(12) نفس المصدر، ص 41-42.
(13) الطّبري، تاريخ الرّسل والملوك، الطبعة الثانية، دار المعارف بمصر، ب. ت.
(14) عبد اللطيف حمّدي الطّائي، إشكالية الرواية والرّواة، دراسة في رواية الشعر العربي قبل الإسلام، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، سنة 2016، ص 18.
(15) نفس المصدر، ص 23.
(16) نفس المصدر والصّفحة.
(17) نفس المصدر والصّفحة.
(18) نفس المصدر والصّفحة.
(19) ابن هشام، السيرة النبويّة، دار ابن حزم، 2009، ص 7-8.
(20) أنظر:
Ella Landau-Tasseron “On the reconstruction of lost sources”, in Al-Qantara XXV, 1(2004) 45-91.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من يقرا السيرة النبوية يعلم
ابو ازهر الشامي ( 2018 / 12 / 9 - 20:05 )
من يقرا السيرة النبوية يعلم ان الكلام غير صحيح من ناحية ان الهدف من قبل الرواة ان يجعلوا الاسلام يبدو صحيحا او سمها كما تشاء
ما اقصده ان السيرة النبوية لا تدعم نبوة النبي عليه السلام حقا ومن يقرأها يعلم ذلك


2 - انا سعيد
على سالم ( 2018 / 12 / 9 - 21:28 )
الاستاذ ناصر , كم انا سعيد لهذه السلسله من المقالات الهامه الصاعقه والفاضحه التى تؤرخ فتره هامه فى حياه من كان يسمى نفسه رسول الله ؟؟ من المؤكد ان الاخبار التى تم فرضها علينا فى كل المجتمعات الاسلاميه المنكوبه والتى ابتلت بداء الاسلام الرهيب كانت اخبار غير صحيحه وكاذبه ومزيفه وكان الهدف منها هو وضع هذا الافاق البدوى فى صوره الملاك القدوس ورب الناس ووضع هاله من القداسه الخرافيه والورع والتقوى عليه تفوق بمراحل الصفات التى يتصف بها اللات البدوى نفسه ؟ الحق لابد ان يظهر مهما طال الزمن ومهما فعل الدجالين الصلاعمه المجرمين والكذبه الاشرارمن نشر الترهات والتدليس والاكاذيب لكى يظهروا هذا الصلعم الدجال بدرجه اكثر قداسه وطهر من درجه اللات نفسه ؟ استمر يا رجل فى فضح الاشياء المختبئه

اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح