الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with Samir Amin (الحلقة الأولى)

ابراهيم منصوري

2018 / 12 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


في إطار المقابلات ما بعد الوفاة التي اعتادت مجلة "فك الارتبط" (Deconnection Journal) إجراءها مع كبار المفكرين والمناضلين، يسعدنا في إطار هذا العدد الجديد من مجلتنا أن نستضيف المفكر اللامع والمناضل الصنديد الأستاذ الدكتور سمير أمين. ونظرا للأهمية العلمية لضيفنا العزيز كما لغزارة كتاباته ذات الطابع الثوري، فقد ارتأينا إلى أن يجري معه الحوار رئيس المجلس العلمي للمجلة.

• رئيس المجلس العلمي: يسعدني في هذا اليوم الأغر أن أستضيف في هذه المقابلة التاريخية، الأستاذ الدكتور سمير أمين. رغم أن ضيفنا العزيز غني عن التعريف على امتداد الرقعة الجغرافية للكوكب الأزرق وربما وراء ذلك، فقد جرت العادة على أن نقوم أولا وقبل كل شيء بتقديم ضيوفنا للقراء الكرام؛ فربما يكون في التكرار أحيانا إفادة. سمير أمين بالأساس هو أستاذ وباحث متميز في علم الاقتصاد. إلا أن اقتناعه بأن التناغم المعرفي لا يتم إلا بالارتكاز على التقاسيم الموسوعاتية فإنه يسري ويجول ويغوص في مضامير علمية شتى، خاصة في مملكة العلوم الاجتماعية والإنسانية كالفلسفة والتاريخ والجغرافية وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا التي يعتبرها علوماً مكملة لِبَرَادِغْمَات الاقتصاد. إذا أراد المرء أن يحصي مؤلفات سمير أمين فسيحتاج لبحث وثائقي طويل، على الأقل منذ مناقشة أطروحته لنيل دكتوراة الدولة في الاقتصاد حول التراكم على الصعيد العالمي والمنشورة بباريس ككتاب قيم يحمل نفس العنوان. أهلا بك دكتور في هذه المقابلة مع تشكراتنا الحارة على قبول الدعوة.

• سمير أمين: أنا الذي يجب علي أن أشكركم جزيل الشكر على استضافتكم لي في هذه المقابلة حتى نستطيع سويةً أن ننبش في التاريخ الذي تركناه وراءنا وهو ما زال يزحف على ذلك الكوكب الأزرق وما وراءه. لقد ذهبتم في مدخل هذه المقابلة إلى أنني معروف ربما حتى ما وراء الكوكب الأزرق، أيعني هذا أن الإنسان على كوكبكم نجح أخيراً في التواصل مع الكائنات الفضائية؟ فمنذ أن غادرت ذلك الكوكب، اشتقت إلى أن أعرف المزيد عن مآله. على كل حال، ربما تعرف الكائنات الفضائية عن كل واحد منا أكثر مما يعرفه الأرضيون (يبتسم).

• رئيس المجلس العلمي (يرد الابتسامة بأحلى منها): على فكرة، سيدي سمير، يطلق عليك الناس لقب طفل النيل الرهيب، بل يعتبرك البعض من طينة الزواحف الفضائية لأنك فريد من نوعك. ماذا يعني لقب طفل النيل الرهيب بالنسبة لك؟

• سمير أمين: أنا طفل النيل فعلا ولكن لا أعتقد أنني رهيب حقا. أليس أولائك الذين كانوا وما زالوا يستغلون أطفال النيل المقدس أكثر إرهابا مني؟ بل إنهم ويا سخرية التاريخ، يستغلون أبناء هبة مصر كما يفعلون بذرية كل أنهار العالم باسم العقيدة: أليس اقتصاد السوق عقيدةً؟ أليست العولمة الزاحفة عقيدة تحرم زعزعتها؟...أليست الرأسمالية المتوحشة هي الزاحف الأخطر الذي إن انتقدته أصبحت في عداد الزواحف الفضائية؟

• رئيس المجلس العلمي: بالنسبة لي أنت طفل النيل الرهيب فعلا شئت أم لم تشأ (يضحك). اعترف يا دكتور فأنت على كرسي الاعتراف. هل كنت ثورياً جامحاً منذ صباك؟ حدثنا عن طفولتك لو سمحت.

• سمير أمين: ولدت يوم 3 سبتمبر 1931 في القاهرة من أب فرعوني وأم رومية (فرنسية)، أي بعد ثمان وأربعين سنة من موت المفكر العظيم كارل ماركس؛ ومن عجيب الصدف أن ماركس أصدر البيان الشيوعي الشهير رفقة صديقه فريدريك إنجلس سنة 1848 أي بعد 48 عاما من فجر القرن التاسع عشر. وبما أن أبي وأمي كانا طبيبين فقد كانا ميسورين إلى حد ما، إلا أن ملاحظاتي اليومية عن الحالة المزرية للشعب المصري، خاصة الأطفال الحفاة العراة الجائعين، جعلتني ابدأ في التفكير العميق حول أصول الأزمة في علاقتها بالترابط بين مركز النظام الرأسمالي ومحيطه، وبالخصوص بعدما هاجرتُ مع العائلة إلى مدينة بور سعيد التي أتممت فيها مرْحَلَتَي التعليم الابتدائي والثانوي. انضويت دون تردد وأنا شاب يافع في صفوف الحزب الشيوعي المصري آنذاك فتنامت بداخلي شرارة الثورة ضد الحيف والبؤس والحرمان.

• رئيس المجلس العلمي: وماذا بعد التحاقك بباريس لمواصلة دراستك العليا؟

• سمير أمين: بعد حصولي على شهادة الباكلوريا الفرنسية بمدينة بور سعيد سنة 1947، التحقت بثانوية هنري الرابع بباريس حيث حصلت على باكلوريا فرنسية ثانية في الرياضيات الأساسية قبل أن أتمكن عام 1952 من الظفر بشهادة عليا في العلوم السياسية من المعهد العالي للعلوم السياسية (ٍSciences Po-Paris) بباريس وشهادتين عاليتين في الإحصائيات التطبيقية سنة 1955 وفي العلوم الاقتصادية عام 1957. وبعد الحصول على شهادة دكتوراة الدولة في الاقتصاد حول التراكم على الصعيد العالمي (L’accumulation à l’échelle mondiale) المنشورة بدار أنتروبوس (َََAnthropos) سنة 1970، أصبحت أستاذا مُبَرزاً (Professeur agrégé) في العلوم الاقتصادية بالجامعات الفرنسية قبل أن أنتقل إلى التدريس والإشراف على البحوث الأكاديمية بجامعة الشيخ أنتا ديوب (Université Cheikh Anta Diop) بالعاصمة السينغالية دكار. على كل حال، من أراد المزيد عن حياتي الشخصية والأكاديمية، يمكن أن يرجع إلى سيرتي الذاتية "مسار ثقافي: نظرات على نصف القرن 1990-1945" (Itinéraire intellectuel : Regards sur le demi-siècle 1945-1990). بقي أن أشير إلى أنني التحقت مباشرة بعد وصولي إلى باريس بالحزب الشيوعي الفرنسي إلا أن منازعاتي الفكرية مع بعض الرفاق هناك دفعتني إلى الانضواء تحت راية ما كان يسمى آنذاك بالدوائر الماوية (Cercles Maoïstes). هذا النوع من الاندماج السياسي والنضال على أرض الواقع بالإضافة إلى الدراسات والأبحاث الأكاديمية هي التي دفعتني إلى إبغاض الفكر الوحيد (Pensée unique)، خاصة في حقل العلوم الاقتصادية الذي تسيطر عليه النظرية النيوكلاسيكية (Théorie néoclassique) بكل فرضياتها المُجْحِفة وقيمها الإنسانية الضيقة إن جاز أن نسيمها قيماً.

• رئيس المجلس العلمي: بعيدا عن آراء الآخرين حول أفكاركم وميولاتكم الإيديولوجية، في أية خانة تودون أن يضعكم الدارِونَ بالاقتصاد؟

• سمير أمين: أُحب أن يعتبرني أي ملاحظ باحثاً في الاقتصاد، وكفى بالله شهيداً. إلا أنني عوض أن أمتثل إلى النظرية الليبرالية الغالبة، ارتأيت إلى أن أسلك الهامش للمساهمة ولو بقسط هزيل في صياغة بَاردِيغمَات (Paradigmes) منافسة. لا أدعي هنا أن النظرية النيوكلاسيكية مُخْطِئة تماما لأن المفكر الحقيقي، خاصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، لا يحكم على أن نظريةً معينة حاقةٌ أو مخطئةٌ بل يُمُحصُها ويَتَحَراهَا ليعرف إن كانت قابلة للدحض (Non réfutable) طبقاً لمنهاج كارل بوبر (Karl Popper). ربما تستحق آرائي أن تُحْترم ولكنها قابلة للنقاش أيضاً؛ وتحضرني في هذا الإطار قولة للخليفة عمر ابن الخطاب أوردها هنا رغم أني لست مسلماً، حيث قال: "... فإن رأيتمونى على حق فأعِينُونِى، وإن رأيتمُونى على باطلٍ فقوِّمُونى".

• رئيس المجلس العلمي: ولكن، من الناحية الإيديولوجية، في أية خانة تريدون أن يضعكم المرء؟

• سمير أمين: أنا كإنسان يحاول أن يفكر أحسن، لا أحب الإيديولوجيا كثيراً لأنها في كثير من الأحيان تُفسد العقل كما العقلُ يُفسدُ الإيديولوجيا نفسَها. إلا أن كل مفكر يحاول أن يعرف الحقيقة غالباً ما يُنْعتُ بالإيديولوجي والدوغماتي والمنحرف وما إلى ذلك من الأوصاف، سواء كان هذا المُفكر يساريا أو يمينيا أو حتى ليبرالياً حتى النخاع. بالرجوع إلى سؤالكم حول الخانة الإيديولوجية التي أتموقع فيها، تجدر الإشارة إلى أنني حاولت منذ أن وطأت قدماي أرض موليير أن أصقل ملاحظاتي الأولية حول الفوارق الاجتماعية بأرض الكِنانة والهوة الشاسعة بين مركز النظام الرأسمالي في الغرب ومحيطه في بلدان الجنوب (Centre et périphérie).

• رئيس المجلس العلمي: وماذا عن عِصابة الأربعة (La bande des quatre) التي شكلتموها في ذلك الحين من أجل فهم أحسن للعلاقات بين المركز والمحيط (ٌRapports entre le centre et la périphérie)؟

• سمير أمين: منذ أن كنت طفلاً في القاهرة ثم شابا يافعا في بور سعيد، كنت أنظر إلى العلاقات بين بلاد العالم على أساس أنها علاقات غير متكافئة، بل كنت أعتبر العلاقات بين أقباط مصر ومسلميها بأنها غير متكافئة أيضا. كنت أنظر إلى كل هذا بعين عوراء حيناً وبصيرة قصيرة حيناً آخر. لقد كنت في أرياف مصر ومدنها كمن يكتب التراكم على الصعيد العالمي بأعين صبيان النيل المعذبين في الأرض. كنت في ذلك الحين تلميذا مدللا في مدرستي الفرنسية ببور سعيد وأنا ابن دكتورة ودكتور، إلا أن شيئاً ما بدواخلي كان يناديني إلى الثورة. لما التحقت ببلاد النور(Pays des lumières)، بدأت أبحث عن الجواب العلمي الشافي على أسئلتي المُلِحة: "كيف يُعْقل أن ترزح مجتمعات قديمة قدم التاريخ تحت نيل الاستعمار والبؤس والإمبريالية؟ لماذا سمح الفراعنة العظام لبلدان الغرب باستعمارهم؟ لماذا أصبح تمساح النيل القوي فريسة سهلة بأيدي أُناس لم يكونواْ أقوياء إلى عهد قريب؟ تناسلت الأسئلة في راسي فبدأت أُنظر للعلاقات بين المركز والمحيط (ٌRelations entre le centre et la périphérie) ومن هنا نشأت فكرتي حول التراكم على الاقتصاد العالمي، خاصة لما كنت طالباً باحثاً في باريس؛ وهناك اطلعت على أفكار ثلاثة أُناس آخرين يفكرون مثلي رغم أن أفكارنا لا تتناغم دائماً. من هنا نشأت مُتلازِمة "عصابة الأربعة" المعروفة هناك على متن الكوكب الأزرق.

• رئيس المجلس العلمي: من هم أفراد هذه العصابة بالإضافة إليكم؟

• سمير أمين: لماذا ترزح المجتمعات المتحضرة تاريخيا تحت نير الاستعمار؟ طرحت هذا السؤال على نفسي في بور سعيد ثم بعد ذلك في باريس، ثم قرأت أدبيات الاقتصاد السياسي فعرفت أنها تنحو في مجملها إلى اعتبار التخلف بمثابة تأخر في التنمية (Retard de développement) كما ينادي بذلك الاقتصادي الأمريكي المعروف والت ويتمان روستوف (Walt Whitman Rostow). عندما كنت طالبا في المعهد العالي للعلوم السياسية بباريس، تصفحت نظرية روستوف إن كانت نظرية فعلاً فقلت في نفسي: "هل التخلف والتقدم وجهان لعملة واحدة؟". قادني هذا السؤال الملح إلى سؤال آخر أكثر إلحاحاً: "هل للتوسع الرأسمالي (ُExpansion capitaliste) من يَدٍ في تخلف ما يسمى ببلدان العالم الثالث؟" إذا كان الجواب على هذا السؤال بالإيجاب فلا يمكن أن يكون التخلف بمثابة تأخر في التنمية (ٌRetard de développement). فطنت بعد ذلك إلى أن باحثين آخرين يفكرون في نفس المنحى فعرفت أن عددهم ثلاثة وأن أسماءهم أندري غاندر فرانك (André Gunder Frank) وجيوفاني أريغي (Giovanni Arrighi) و إيمانويل فاليرشتاين (Immanuel Wallerstein). كان هناك تعاطف كبير بيني وبين هؤلاء الثلاثة الكبار فأطلقواْ علينا لقب "عصابة الأَربعة" (La bande des quatre) رغم أن أفراد تلك العِصابة لم يكونواْ متفقين على كل شيء.

• رئيس المجلس العلمي: ما هو تأثير كارل ماركس في كل هذا؟

• سمير أمين: أنت تعرف يا سيدي أعزك الله أن العولمة ما زالت تزحف على الكوكب الأزرق. إلا أن العولمة ليست ظاهرة جديدة بل هي أقدم حتى من النظام الرأسمالي نفسه. أتذكر أنني كشاب يافع في بور سعيد كما في باريس كنت ألتهم مؤلفات كارل ماركس التهاماً. كنت أفعل ذلك ليس حبا في ماركس ولا من أجل عيني ماركس الذي كانت بناته ينادينه باسم المراكشي لسمرة لونه. كنت أتفانى في قراءة كارل ماركس لأن هذا المُفكر العظيم هو الذي فهم النظام الرأسمالي فهماً صحيحاً وهو الوحيد الذي يجب الرجوع إليه لفهم الأزمات الاقتصادية التي تعصف بهذا النظام، بما فيها التي ما زال الاقتصاد العالمي يعاني منها حاليا على متن كوكبكم الأزرق. قرأت جميع اقتصاديي العالم ولم أجد أحق من ماركس! أقولها ولست خجولاً حين أُصارح كل اقتصاديي العالم، بمن فيهم أنا طبعاً.

• رئيس المجلس العلمي: لو سمحت يا أستاذ سمير، أعطني مثالاً واحداً لا أكثر على صدقية كارل ماركس!

• سمير أمين: كتب كارل ماركس البيان الشيوعي بمعية رفيقه في الكفاح فريدرك إنجلز وعمره لا يتعدى الثلاثين سنة. يتنبأ الكثير من فقرات هذا الكتاب العظيم بتوسع النظام الرأسمالي على الصعيد العالمي رغم أن الرأسمالية في العام 1848 الذي نُشر فيه ذلك الكتاب لم تكن تخص إلا رقعة جغرافية ضيقة، خاصة في انجلترا وشمال شرق فرنسا وبلجيكا وأجزاء صغيرة من بروسيا. من هنا يتبين أن ماركس فهم فهماً جيداً أن النظام الرأسمالي سينتشر بعد ذلك في أوروبا ثم في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك العالم الجديد الذي تم الشروع في اكتشافه بعد رحلات كريستوف كولومبوس الشهيرة. يقول المثل الشعبي: "كذب المُنجمون ولو صدقواْ". إلا أن كارل ماركس لم يكن منجماً وما ينبغي له أن يكون كذلك. وعلاوة على ذلك فإن كارل ماركس هو الذي فهم فهما صحيحاً أن الرأسمالية ما هي إلا قوس من الأقواس المفتوحة في التاريخ البشري (Parenthèse dans l’histoire). لقد فقه ماركس أن النمو الأسي (Croissance exponentielle) للرأسمالية لن يكون إلا مرحلياً لأن هذا النوع من النمو يشبه السرطان إلى حد بعِيد كما هو الحال بالنسبة لي: "ها أنا أُغادر كوكبكم الأزرق بعد معاناتي الطويلة من ورم خبيث في المُخ".

إلى اللقاء مع الحلقات القادمة من مقابلتنا بعد الوفاة مع المفكر اللامع سمير أمين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما التصريحات الجديدة في إسرائيل على الانفجارات في إيران؟


.. رد إسرائيلي على الهجوم الإيراني.. لحفظ ماء الوجه فقط؟




.. ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت فيه إسرائيل


.. بوتين يتحدى الناتو فوق سقف العالم | #وثائقيات_سكاي




.. بلينكن يؤكد أن الولايات المتحدة لم تشارك في أي عملية هجومية