الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with Samir Amin الحلقة الثالثة

ابراهيم منصوري

2018 / 12 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


بعد الحلقة الثانية، يُسْعِدُ مجلة "فك الارتباط" (Deconnection Journal) أن تواصل حوارها بعد الوفاة مع الاقتصادي والمفكر القدير سمير أمين.

• رئيس المجلس العلمي: مرحباً بك من جديد، دكتور سمي. ختمنا الحلقة الثانية بالبيتين الشعريين الذين اقتبستهما من قصيدة كعب ابن زهير الشهيرة "بَانَتْ سُعَاد"؛ وقلْتَ حينها إن دراسة الدواوين الشعرية القديمة تفيد في معرفة التاريخ الاقتصادي والسياسي للمجتمعات. كيف استطعت أن تمزج بين لُغات متعددة رغم أن أمك فرنسية اللسان كما زوجتك؟

• سمير أمين: إن كنتُ رضعتُ الفرنسية من أمي فقد رضعت العربية من ثدي مصر رغم أن لغة أجدادي الأقباط ليس فيها من الضاد شيء. للأسف، ماتت اللغة القبطية كما ماتت لغات شعوب كثيرة ولا من أحد اراد أن يحييها كما أحيت إسرائيل اللغة العبرية التي اغتيلت منذ زمن بعيد. أما اهتمامي باللغات الأخرى فقد أملتها علي ضرورة البحث العلمي الذي يحتم على كل باحث حقيقي أن يتقنها. أتذكر أني عندما كنت صغيراً أحرجتُ أمي المسكينة لما قلت لها بالفرنساوي: "La francofolie ne me suffit pas" ؛ وكنت أعني طبعاً "La francophonie". على كل حال، بالنسبة لي، لا يجب التفريق بين اللغات واللهجات (Langues et dialectes)، بل بين لغات مُقَعدة (Langues standardisées) وأخرى مُهمشة (Langues marginalisées)؛ وفي كل الأحوال، أعتقد أن من له مَلَكَة تعلم اللغات يكفيه إتقان لغة واحدة لكي يتعلم أُخريات.

• رئيس المجلس العلمي: لِنَعُدْ إلى الماركسية الجديدة (Néomarxisme) ونموذج "المركز-المحيط" (Centre-périphérie). قلت في الحلقة الثانية لهذا الحوار الشيق إن التهامك لمؤلفات كارل ماركس وقراءاتك الدقيقة في فكره مكنتك من استشراف الروابط بين بلدان المركز والمُحيط على أسس ماركسية. كيف تأتى لك ذلك؟

• سمير أمين: نعرف أن كارل ماركس، خاصة في كتبه القيمة "نقد الاقتصاد السياسي" (Critique de l’économie politique) و "الرأسمال" (Le capital) بأجزائه الثلاثة و"بؤس الفلسفة: رد على فلسفة البؤس (Philosophie de la misère) عند برودون" (Proudhon)، قام بتحليل عميق للنظام الرأسمالي وعلاقات الاستغلال بين مختلف طبقاته الاجتماعية وذلك بالاعتماد أساساً على المفهوم المركزي لفائض القيمة (La plus-value : Surplus Value). إن أهم فكرة صاغها كارل ماركس في هذا الصدد تتمثل في أن استغلال الرأسمال المتغير (Capital variable) أو قوة العمل (Force de travail) من طرف الرأسماليين (Les capitalistes) لا يستفيد منه كل أرباب الرأسمال بالتساوي؛ إلا أن توزيع الكعكة على المستوى الكلي يعطي نتيجة مفادها أن سعر الإنتاج (Prix de production) يساوي مجموع فوائض القيمة (ٍSomme des plus-values) بالتمام والكمال. ويعني هذ بالطبع أن الاستغلال ظاهرة اجتماعية قبل أن تكون فردية. لنعمم هذا التفكير على الصعيد العالمي مما يذكرني بأطروحة دكتوراه الدولة التي أنجزتها حول تراكم الرأسمال على الصعيد العالمي (L’accumulation à l’échelle mondiale)؛ وطبقا لهذا التعميم، فإن الرأسماليين في بلدان المركز لا يستغلون البروليتاريا هناك فحسب، بل يستغلونها على الصعيد العالمي: ألم يقل كارل ماركس "يا برولاتيريي جميع أقطار الدنيا، اتحدواْ" (Prolétaires de tous les pays, unissez-vous !: Proletarier aller Länder, vereinigt euch! )؟". هذه هي الجملة التي ختم بها ماركس وإنجلس "البيان الشيوعي". إن علاقات الاستغلال البشع بين المركز والمحيط والتي لا يمكن التفقه فيها إلا بالرجوع إلى فكر ماركس هي التي تولد عنها ما أسميه بالتنمية اللامتكافئة (Développement inégal : Unequal Development) التي تميز بين مراكز النظام الرأسمالي ذات الأنظمة الإنتاجية المتطورة والتي تتمكن فيها شرائح من البروليتاريا من اللحاق بالطبقة المتوسطة (Middle Class) ذات القدرة الاستهلاكية الكبيرة والمنتجة للنخب (élites) ومحيطاته (Périphéries) التي تنتج السلع ذات القيمة المضافة الضعيفة والتي لا يمكن للطبقة العاملة فيها أن تكتسب الاستقلال المادي الذاتي (Autonomie matérielle) ولا أن تكون طبقة وسطى فاعلة. ولهذا فإن المصير التنموي لبلدان المحيط يمر بالضرورة عبر فك الترابط (Déconnexion) بين ذلك المحيط ومركز النظام الرأسمالي الاستغلالي؛ وأذكر القارئ هنا أن عبارة "فك الترابط" عنوان لأحد كتبي؛ ويشرفني أن تُنعت مجلتكم الموقرة باسم "Deconnection Journal". ومن هذه الأفكار سلكتُ مساراتٍ فِكريةً متعددة، خاصة في إطار ما يسمى عامة بالعولمية المُضادة (Antimondialisme) والآلتر-عولمية (Altermondialisme)، كما قمت بأبحاث متعددة حول أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية في بلدان المُحيط، خاصة في أفريقيا والشرق والأوسط بالإضافة إلى أعمالي المتعددة حول التحليل النقدي للعلاقات الجيوسياسية لحقبة ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.

• رئيس المجلس العلمي: يُسعدني أن أُبين هنا أن اسم مجلتنا العلمية استمددناه بكل صراحة من عنوان كتاب سمير أمين "La déconnexion" والذي تُرْجِم إلى عدة لُغات بما فيها لغة شيكسبير (Deconnection). كما قلتُ في الحلقة الأولى من هذا الحوار، إذا أراد المرء أن يحصي مؤلفات الأستاذ سمير أمين فسيحتاج لا محالة إلى وقت طويل؛ وقد لاحظتُ من خلال تصفحي لمواقع التواصل الاجتماعي على المِشْباك العنكبوني أن الناس تفننواْ في إنجاز لوائح لعناوين كتب الدكتور سمير ومقالاته العلمية ولا أحد منهم أتم العمل على أكمل وجه. أليس من المجحف حقاً ألا تظفرَ بجائزة نوبل في الاقتصاد عن هذه الأبحاث الغزيرة المِدْرَارة بينما نالها أناس لا يفهمون في الاقتصاد إلا النزر القليل؟

• سمير أمين: لو كانت اللجان العلمية التي تقاطرت على ستوكهولم عبر السنين والأعوام تملك مثقال ذرة من النزاهة العلمية والأخلاقية لاقترحت ضمن اللائحة الأولية للمرشحين لتلك الجائزة اسماً يزن قناطر مقنطرة من الجائزة نفسها، ليس كفائز على بياض ولكن كمرشح غير محتمل وكفى! هذا الاسم الذي يُكهرب النظام الرأسمالي كلما لاحت بوادر أزمة في الأفق هو "كارل ماركس" الذي وشحه المُعارضون قبل المُوالين حتى بعد مماته بأحزمة من شتي الأوسمة والميداليات والنياشين: "مفكر الألفية الثالثة"، "أعظم شخصية ألمانية هامة VIP على مر الأزمنة"، "الشبح العائد"، "أعظم فيلسوف في التاريخ"، "قمة الموسوعية"، الخ، الخ... لقد سألوا السياسي والليبرالي الميسور جورج سوروس عن ماركس فقال دون تردد: "لقد قرأت عنه الكثير فنهلت منه حقائق شتى!".

• رئيس المجلس العلمي: سؤال أخير في هذه الحلقة، أستاذ سمير: ماذا عن تاريخ الاستقلال السياسي لبلدان المحيط في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا في علاقته بمفاهيمك في الاقتصاد السياسي؟ هل تعتقد أن انعتاق هذه البلدان من نير الاستعمار تمخضت عنه نتائج إيجابية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافياً؟ كيف ترى هذه النتائج خاصة في أفريقيا التي جُلتً فيها طولاً وعرضا؟

• سمير أمين: لقد عشت في أفريقيا ومن أجل أفريقيا سنوات طويلة قبل وفاتي، بل درست في كثير من جامعاتها وأطرت أطروحات طلابها حتى صرت أكثر أفريقياً من الأفريقي نفسه، وكان بإمكاني أن ألتحق بجامعات أرقى في قارات أخرى مع كل الامتيازات التي توفرها لأساتذتها الزائرين ! لقد آثرت أفريقيا على الدنيا كلها لأنها عانت وما زالت تعاني رغم كل إمكانياتها اللانهائية؛ إنها قارة المستقبل بكل امتياز. أما بالنسبة لسؤالك حول آثار الاستقلال السياسي لبلدان أفريقيا على وضعيتها بالمقارنة مع فترات الاستعمار، فأود أن أقول إن كل شيء نسبي كما قال آينشتاين في إطار نظريته المعروفة؛ فما تحقق بعد استقلال هذه البلدان أحسن بكثير مما كان عليه الحال تحت رحى الاستعمار. أعطيك مثالا أكثر تعبيرًاً: قبل استقلال ما اعتدنا تسميته بالكونغو البلجيكية أو جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو ما يعرف هزلاً عند البعض باسم Doctor Congo، أي DR.Congo (Democratic Republic of Congo) (يبتسم)، كان عدد الخريجين من معاهد الدراسات العليا يعد على رؤوس الأصابع: تسعة رهط فقط، ومن بينهم ستة متضلعين في علم اللاهوت ومُحميان اثنان وطبيب واحد، أما الآن فعدد الخريجين هناك يعد بمئات الأُلوف وفي شتى الميادين. إلا أنه لا ينبغي أن ننكر أن الاستعمار قد ترك وراءه في تلك البلدان محاسن شتى كالبنية التحتية والتي ربما لن يستطيع الحكام المحليون المرتشون أن يبنواْ أقل منها كما وكيفاً. وسأرجع إلى هذه النقطة وإلى سؤالك الوجيه حول تحرر بلدان المُحيط في الحلقة القادمة إن شئت.

• رئيس المجلس العلمي: شكرا جزيلا أستاذ سمير، على سعة صدرك وإجاباتك القيمة على مختلف أسئلة هذا الحوار الشيق؛ وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتساع رقعة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية للمطالبة بوقف فو


.. فريق تطوعي يذكر بأسماء الأطفال الذين استشهدوا في حرب غزة




.. المرصد الأورومتوسطي يُحذّر من اتساع رقعة الأمراض المعدية في


.. رغم إغلاق بوابات جامعة كولومبيا بالأقفال.. لليوم السابع على




.. أخبار الصباح | مجلس الشيوخ الأميركي يقر إرسال مساعدات لإسرائ