الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شيرين وفرهاد: الفصل السابع 4

دلور ميقري

2018 / 12 / 12
الادب والفن


أشجار الأرغانة، الخالدة الخضرة والبهية الثمار، عدّها الحدَ الفاصل بين العمارة الحمراء، المنتمية للإقليم الجهنميّ الحرارة، وشقيقتها البيضاء، التي لاقته وركاب السيارة الآخرين بعذوبتها ورطوبتها. الأبنية الناصعة، لاحت لعينيه من علٍ كأنها امتدادٌ للبحر المحيط، المحتضن هذه العروس الصغيرة، كاسياً جهاتها الثلاث بحلّة زاهية من زبد أمواجه. سيارتهم، وكانت فرنسية العلامة يقودها أيضاً أحد مواطنيها، راحت تتوغل بين الأبنية الحديثة، المترامية على جانبيّ الطريق الرئيس، قبل أن تنعطف إلى درب ضيّق، يشقّ مرتفعاً غاصاً بالأحراش الغابية. إنه الدرب المفضي للضاحية ذات الاسم الغريب، " الغزوة "، وكانت قديماً قريةً تعتلي مرتفعاً جبلياً ـ كما يلحظه المرء من بقايا بيوتها الطينية، المشرفة على وادٍ خصيبٍ منحدر باتجاه البحر المحيط.
وبينما السيارة ترتقي الأعالي المشجّرة، فكّرَ هوَ بغرابة الاسم بالإحالة إلى ما عرفه من تذكرة التاجر " جانكو "؛ مواطنه الكرديّ الدمشقي، وكان قد حلّ في هذه المدينة بعيد أعوام قليلة من محاولة لغزوها، قام بها الأسطول الفرنسيّ. تلك الإحالة، أثارت أسماءَ أخرى من السيرة المراكشية، المتعاقبة على حدَّي الخيال والواقع، لتشغل ذهنه فيما تبقى من دقائق الرحلة. بين فينة وأخرى، كانت اليد الرقيقة لرفيقة السفر، تحاول إخراجه من أفكاره عن طريق لمساتها الخفية من خلف ظهر الطفل " أميل ". المرأة الصغيرة، الطائشة اللب، كأنما كانت تبغي تأكيدَ إصرارها على استمرارية صلتهما المحرّمة وأنها لم تكن نزوةً طارئة وعابرة.
" لا شك أنّ الأخرى أعلمتها بانقطاع علاقتنا، وهيَ تريد أخذ مكانها "، خاطبَ داخله المشتعل مجدداً بذكرى اللهب الصباحيّ. ثم أنتقل للتفكير بأمر هاتين المرأتين، وكيفَ تبادلا الرجال مرةً بعد مرة دونما أن يهز ذلك صداقتهما. وتساءل قلقاً، ما لو ستقبل " لويزة " حقاً هذا الواقع الجديد؟ على أنه نحى الفكرة جانباً، ولم يعُد إلا ليحسب حسابَ المرأة الصغيرة، الجالسة الآنَ بقربه في سيارة العديل الفرنسيّ: " إنها على عكس الأخرى، الماكرة الكتومة، معرَّفة بالاستهتار والطيش حتى بوجود زوجها ". سحنة هذا الأخير، الجهمة الكئيبة، ما لبثت أن اقتحمت خياله مع كلمات امرأته " حسنة "، التي سمعها منها صباحاً: " لا تكترث بأمره، طالما أن شاغله الأوحد هوَ جمعُ المال ". ثم أكّدت أنه بنفسه يخونها مع نزيلات الرياض الأوروبيات، وقد استثارها أكثر من مرة بالحديث عن كرمهن معه. وألمحت حتى لشكّها في علاقته برجل فرنسيّ، تعرّف عليه أيضاً في نزل شقيقته وما عتمَ أن استضافه مع امرأته في المنزل: " أغلقوا على أنفسهم بابَ حجرة نومي، بحجة التداول في مشروع استثمار مقهى في مراكش. ولكنني تسللتُ إلى الدور العلويّ، لألصق أذني بباب الحجرة للتأكّد من صدق ظنوني. لقد سمعتُ عندئذٍ تأوهاتٍ لا تصدر سوى عن المرأة والرجل في خلال ممارسة الجماع الشاذ "
" وكيفَ عرفتِ أنه كذلك؟ "، كان قد سألها بنبرة خبيثة. فأجابته مبتسمة وقد أحمر وجهها الجميل: " أعرفُ أشياء من ذلك القبيل، بفضل جهاز الكومبيوتر! ". بيْدَ أن قولها، في المقابل، لم يخفف من شعوره بالإثم؛ كونه بنفسه متزوجاً من شقيقة الرجل، صاحب السحنة الجهة الكئيبة. وقال لنفسه، أنها مثل شقيقها لناحية التفكير بجمع المال، ولو أنّ الغيرة تجعلها أحياناً مسعورة مثل مجنونة. العجيب، من هذه الناحية، أنها لم تبثه مرةً قط بغيرتها من " حسنة " مع كل ما ذكرته له عن مسلكها. لقد قالت له يوماً، وكانت بعدُ عروساً: " شقيقتها ميرا، تجذبُ الرجال ببدنها الممتلئ المثير. ولذلك طلبتُ من الوالدة ألا تستقبلها في بيتنا، أثناء إقامتك لدينا! ". فأبدى تعجبه من كلامها، فتساءل كيف بوسع تلك المرأة أن تفكّر بزيارتهم بعدما خرجت تجر ذيل العار على أثر فضيحتها مع الرجل الحلبيّ. جوابها، فاقمَ من عجبه وجعله يفكّر ملياً فيمن عرفهم من ذوي الخلفية الريفية، المتشابهين عموماً في الطبع والمسلك مهما اختلفت هوياتهم. لقد ردت آنذاك ببساطة: " زارتنا أكثر من مرة، حاملة الهدايا من مكان إقامتها في باريس. إذ تزوجت مجدداً من رجل عراقيّ، يملك مطعماً هناك في العاصمة الفرنسية، وأنجبت منه ولدين ". ثم أضافت بنبرة مغيظة: " الحسرة على حظ شقيقتي، هند. ذلك الحلبيّ، المأفون، عاد إلى الاتصال معها عن طريق النت هذه المرة، على أثر تركه المغرب نهائياً! ". ثم أعلمته لاحقاً، أن شقيقتها ما تنفك متعلقة بالرجل وعلى الرغم من انقطاع أخباره تقريباً مع امتداد الحرب السورية إلى مدينته.
***
الحرب، عليها كان أن تغيّره أيضاً. أكثر من مرة، حوّل مواقفه إن كان على مستوى الفكر أو السياسة. وسيلاحظ ذلك أصدقاء " حامي "، الذين توطدت علاقته معهم في زيارته الأخيرة للمدينة قبل نحو العام ونصف العام. إنهم زملاء ابن حميه في الفندق السياحي، يعمل بعضهم معه هنالك في المطبخ كحلواني والبعض الآخر كطاهي. كانوا آنذاك، بمعظمهم، يشاركونه في تأييد ثورات " الربيع العربي "، وإن يكن من وجهات نظر مختلفة. الآن، مع تآكل الثورة السورية من الداخل، ومع انحسار التأييد الدوليّ لها، صارَ موقفه يميل إلى التشاؤم. زهده في متابعة أخبار التطورات في موطنه، السياسية والميدانية، جعله يؤوب إلى حصنه الأدبيّ ويدع الكتابة في الشأن العام. " بيير "، قائد رحلتهم إلى هذه الحاضرة البحرية، انتبه بدَوره إلى قلة حماس عديله السوريّ، المَوْصوف، وصار نادراً ما يفتح معه حديثاً في ذلك الشأن. مع ذلك، خذله الحصن الأدبيّ حينَ سلّمه للفشل على صعيد المهمة، المتعلقة بالسيرة المراكشية. فلم يكن بلا مغزى، أن يعوض فشله بالاندفاع في فتح الحصون النسائية واحداً بأثر الآخر. ابتعاده عن بؤرة مكان السيرة، أدخل في وهمه أنه سيكون في إجازة، تطول أو تقصر، وفق مزاج سيّدة الدار.
وهيَ ذي المرأة، المحتفظة بعدُ بقوة الشكيمة، تجمع أفراد الرحلة حول طاولة الفطور. في الأثناء، لاحظ أنها ترمقه بنظرة مواربة غير مريحة. إلا أن " حامي " أخرجه من تحت نير النظرات الثقيلة، آن بشّر الحاضرين بأن شقة ثانية سيتخلى عنها زميلاه في العمل لتكون في تصرفهم، وأنها تقع على مقربة من الأخرى. هنا، رجعت الوالدة للتحديق في صهرها السوريّ بنظرات صقر قبل الانقضاض على الفريسة، لتلتفت من ثم نحو امرأته قائلة بنبرتها الآمرة: " ستقيمون في تلك الشقة، ولتكن حسنة معكم أيضاَ! "
" الأفضل لو أن حامي ينضم إليهم، لأنه بحاجة لحجرة نوم بسبب تبكيره في الذهاب للعمل "، لاحظت الشقيقة الكبرى وهيَ تتكلف الابتسام. كان واضحاً لأكثر الموجودين، أنها كانت تريد الشقة الأخرى لأسرتها. ذلك أن شقيقها كان ينام غالباً عند زميلة في العمل، دأبَ على وصفها بخطيبته في حضور والدته. هذه الأخيرة، كانت تمتعض من الصفة وطالما أكّدت للبنات بلهجة شديدة: " لا أرغب بكنّة، تسمح لشاب بالنوم معها حتى قبل أن تضع خاتم الخطبة في أصبعها! ". على أيّ حال، مضت ملاحظة " أنغام " دون أن تتوقف عندها والدتها. ثم مضت الساعات على الصهر السعيد بين قيلولة قصيرة في الشقة الأساسية، وبين التجول من بعد في أنحاء المنطقة. بعد نحو الساعة، حينَ كان عائداً إلى الشقة، التقى مصادفة بصغرى البنات وكانت آتية من الدكان. حيته مبتسمة بود، كعادتها، وتمشت معه إلى مدخل البناء المكون من ثلاثة أدوار، أين تقع الشقة الأساسية في أعلاها. وفيما أرتقت الفتاةُ الدرجَ، عكف هوَ على مراقبة ابنه الصغير وكان يلاعب ابن خالته وعدداً من أطفال الجيران. ولكن صغيره سرعان ما زهد باللعب وأحب الصعود معه إلى الشقة: " أميل ليس لطيفاً، وأنا لا أحبه! "، قال لأبيه ببراءة عمره الغض. ثم استطرد متسائلاً بنبرة من فقد صبره: " متى سنذهب إلى البحر، بابا؟ ". كان يتكلم معه بالسويدية، فيما يستعمل الدارجة المغربية مع الآخرين.
في ساعة متأخرة مساءً، توجه مع عديله إلى مقصف " تاروس "، الكائن على طرف ساحة المدينة الكبرى، المعروفة بالاسم الأول للعاهل الراحل. هذا المقصف، يفضله لأن تراسه يُشرف على منظر لا يُضاهى؛ منظر بديع وفريد، يُستهل بالساحة وأسوارها وبواباتها وصولاً إلى الشاطئ الممتد حتى حدود الجبال، المترائية كما لو أنها أشباح متربصة بالعتمة. في حين أن عديله، من ناحيته، كان مواظباً على ارتياد المقصف لأنه مملوك من لدُن أحد معارفه الفرنسيين. هنالك على التراس، أوصى نادلاً بالشراب والمازة، ثم ما عتمَ أن راحَ يفرك يديه بحيوية وهوَ يتأمل سرب فتيات توزعن في أنحاء المكان: " يلوح من ملامح وأشكال كلَ منهن، أنها تسعى إلى زبون دسم! "، خاطبَ عديله بالمحكية الدارجة خالطاً إياها بمفردات فرنسية. بعد الكأس الثالث، المترع بكوكتيل الفودكا، شعرَ " دلير " بالنشوة. بعينٍ وادعة، راحَ يتفحصُ أولئك الفتيات، اللواتي كن يحمن بين حينٍ وآخر حول طاولتهن، المحاذية لسور التراس. فجأة، وعلى حين غرة، تهيأ له أنه يرى تلك المرأة الغامضة، ذات الثوب الأحمر البرّاق!
















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل