الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد المفاهيم

خالد العارف

2018 / 12 / 14
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


نقد المفاهيم أو الأسلوب المتأخر
الكتاب: نقد المفاهيم
الكاتب: عبد الله العروي
الناشر: المركز الثقافي للكتاب، 2018. 157 صفحة.
عن المركز الثقافي للكتاب صدر للمفكر المغربي عبد الله العروي مؤخرا كتيب صغير بعنوان نقد المفاهيم. يقع الكتاب في 157 صفحة توزعت على ثمانية فصول قصيرة ومركزة، تتطرق إلى قضايا مختلفة منها علاقة الفلسفة وعلم الكلام وتأصيل العلوم الاجتماعية ومفاهيم مثل العلمانية والمواطنة وإشكالية الحداثة والتحديث إضافة إلى إرث النهضة وكيفية التعامل معه، وهي كلها تقريباً مواضيع سبق للكاتب أن فصل القول فيها في كتب سابقة. إن هذا الكتاب هو نوع من استئناف القول في المفاهيم من وجهة نظر المؤرخ؛ ففي الفصل الأول، الذي نقرأه تحت عنوان الفلسفة وعلم الكلام، يؤكد الكاتب على مركزية النظرة التاريخانية لكل المنتجات الفكرية المرتبطة بالفلسفة وعلم الكلام. فالمؤرخ هو الوحيد القادر على إدخال مفهوم "التطور في الاعتبار" الذي هو عصب "مجال التاريخانية" (ص. 12). ومعنى ذلك في نظر عبد الله العروي هو تجاوز النظرة إلى الفلسفة وعلم الكلام باعتبارهما "يتأسسان على رفض التطور والتاريخ" و"على طمس الزمان في اللازمان." (ص.12) وعلى هذا الأساس يحاول عبد الله العروي التوفيق، من خلال نظرة تاريخانية تطورية، بين الفلسفة وعلم الكلام في إطار نظرة تستحضر "الهاجس الفقهي" في التعامل مع المتكلمين و"الهاجس الاجتماعي" في التعاطي مع الإنتاج الفلسفي. (ص. 9) وهكذا فإن الكلام عن الفقه والمجتمع هو، في آخر المطاف، عصب الكلام عن التاريخ. (ص.10)
وفي إطار هذه النظرة يقرّب عبد الله العروي بين المرحلة الثيولوجية في قانون المراحل الثلاث كما استنتجه أوغست كونت (المرحلة التيولوجية والمرحلة الميتافيزيقية ومرحلة العلم الموضوعي) وبين علم الكلام كما عرفه التاريخ الإسلامي، كإجراء تمهيدي؛ أي عمليا بين طوما الأكويني في الغرب من جهة، في مقابل الأشعري وابن سينا والطوسي وابن حزم وابن رشد وابن خلدون من جهة أخرى، ليخلص الكاتب إلى أن قانون أوغست كونت "محتمل على أقل تقدير" بالنظر إلى أن "الحق عند ابن حزم" هو "أساساً من الوحي وعند ابن رشد من العقل" الذي "لا يعارض الوحي" وعند "ابن خلدون من العقل والوحي مدعومين بالتجربة." (ص. 11) فالتحليل التاريخاني في هذه الحالة المخصوصة ينتج الحقيقة التالية التي يمكن إجمالها في "وجود إنتاج فكري غزير سابق على التيولوجيا" (ص. 13)، والذي ساهمت في تطوره الأفلاطونية الجديدة لتجعل من هذه المرحلة خليطا "تداخلت فيه المؤثرات الغربية والشرقية، اليونانية والسامية، الفلسفة الطبيعية والفلسفة الإلهية؛ أو بعبارة أخرى، الفلسفة وعلم الكلام." (ص. 15) وبعد ذلك يقارب عبد الله العروي مفهوم مرحلة العلم الموضوعي عند أوغست كونت في إطار منهج تاريخاني هو وحده القادر على الخروج بالبحث من النسق القصير إلى نسق أطول لينتهي إلى تعديل النسق الثلاثي لأوغست كونت فيصبح الأخير على الشكل التالي: ميثولوجيا، ففلسفة طبيعية، ففلسفة إلاهية، فثيولوجيا، فميتافيزيقا، فعلم موضوعي. ويورد العروي عن ذلك ملاحظات منهجية مهمة ترتبط أولاها بالتشابه بين الوضع الحالي والوضع الهيلينستي؛ وثانيتها بأن التناسب لا ينفي التعاقب؛ وثالثتها (وهي الأهم في نظره) ترتبط "بالتساكن بين المنظورات العامة في المجال الفكري الحالي" وهو ما يؤدي "إما إلى التسامح، وإما إلى العدمية، أو إليهما معاً." (ص.20) وهذا يؤدي حتما إلى المشاكلة، لا المعادلة التي تؤدي بدورها إلى تعدد أشكال الوعي (الإيديولوجيا العربية المعاصرة مثلا، حيث تتساكن ثلاثة أشكال للوعي) أو منطق الفعل ومنطق القول (مفهوم العقل مثلا الذي يخضع فيه المرء تلقائيا، بحسب الظروف، "لما يفرضه عليه العقل") أو المقابلة بين الفقيه والمحدث (الإسلام والتاريخ مثلا)، أو تعدد التواريخ وتعدد شواهده (مفهوم التاريخ مثلا). هكذا ينتصر العروي لمقولة التعدد في تمرين المقابلة بين المفاهيم، ليخلص في نهاية الفصل الأول إلى أنه "لا يوجد اليوم إلا شغلان جديدان: العلم والخيال العلمي." ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: ما معنى الجدة ههنا؟ هل يعني ذلك، تبعاً لمنطق التجاور والتعدد الذي قال به من قبل، أن العلم والخيال العلمي منفصلان كلياً عن ما سبقهما؟ أم يعني ذلك أن الخطاب العلمي (الكوسمولوجي) والخيال العلمي متضمنان في هذه السيرورة المنظورية التطورية للمنهج التاريخي؟
أما في الفصل الثاني فيتعرض عبد الله العروي بالتحليل لعمليّات الوصف والمقارنة والتأويل ودورها جميعاً في تأصيل علوم المجتمع. وعلوم المجتمع في تعريف العروي تشمل الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والسياسة والجغرافية البشرية وعلم النفس إضافة إلى التربية. (ص. 25) وفي هذا الفصل يعرج العروي على مواضيع سبق أن بسط القول فيها، منها مقارنته، في إطار فهم شاسع للمقارنة هذه المرة بما هي تأرجح بين المعادلة والمماثلة والمعارضة والمفارقة، لمفكرين مسلمين مع مفكرين غربيين (مكايفيلي وابن خلدون في الإسلام والحداثة، مثلا) ليقارن بشكل سريع بين فكر ابن خلدون وفكر مونتيسكيو ويخلص إلى نتيجة مفادها أن الفكر الخلدوني محدود بسبب محدودية مسنده الذي لم يقارن فيه بين ما أتيح له معرفته من نظم الحكم عند العرب والبربر والترك من جهة، ونظم الحكم في روما القنصلية أو الإمبراطورية أو البيزنطية؛ ولذلك كله فإن ابن خلدون لم يتجاوز، بحسب العروي، أبداً "طور تأسيس الحضارة." والمطلوب من أجل تأصيل علوم المجتمع هو الانتباه إلى أن مجال المقارنة ما يفتأ يتوسع عن طريق الحفريات والإثنوغرافيا والعلوم التكنولوجية. إن المطلوب ليس هو النزعة الإحيائية للنظريات السابقة(الخلدونية، الماكيافيلية، الماركسية إلخ) لأنها "مناقضة لروح ما كتبه مؤسسو تلك النظريات" في نظر العروي.
إن الوصف يحمل المقارنة في طياته وتحمل الأخيرة التأويل، الذي يفهمه العروي من وجهة نظر تاريخية في إطار تقابلي مع التنزيل. والتأويل بذلك نكوص من حيث كونه معاكساً لحركة التاريخ في كلتا حركتيه من أجل استرجاع المعنى: استحضار المحيط الأول للمعنى أو المفهوم أو "تطويع المعنى الأول حتى يتطابق مع المحيط الجديد فيحصل من جديد الفهم ثم التصديق." (ص. 35)؛ وهي مواضيع سبق للعروي أن تطرق إليها في كتاب مفهوم التاريخ. ما يستنتج من كلام العروي إجمالا هو الدعوة إلى التمييز بين "التأويل في إطار الفلسفة التعليمية الاستنباطية والتأويل في إطار العلوم المجتمعية الاستقرائية" (ص. 40) لربط الأخيرة بالمشكلات الكبرى للمجتمع مثل تحرير المرأة والديمقراطية، من بين مشكلات أخرى، في أفق إيجاد حلول ناجعة باستعمال التأويل الاستقرائي وهو ما يصعب في غياب التعاضد والتلاقح بين هذه العلوم المشتتة في معاهد عديدة، وكذا في ظل هيمنة التأويل الذي يتغيى استحضار المعنى المتواتر عوض التسلح بالتأويل الذي يضع نصب عينه ربط الفكر بمشكلات العصر والمجتمع.
المؤرخ والقاضي ومسألة الحكم
ينطلق العروي في هذا الفصل من مسلمة مفادها أن هناك دائما عقلية معينة، أو عقلية عامة تسيطر على المجتمع في مرحلة من المراحل التاريخية. ويدور الحديث في هذا الفصل حول مفهوم الثورة في القرن السابع عشر الاوروبي، الذي أدى، من بين ما أدى إليه، إلى تعميم المنهج المتبع في دراسة الظواهر الطبيعية على سائر الظواهر الأخرى التي تهم الإنسان. وهكذا أضحى في إمكان القاضي أن يجتهد في مجال اختصاصه ويعيد النظر في مفهوم الدليل القاطع أو الحجة الدامغة ليعوضهما بالشواهد المادية، وهذا بالضبط ما يفعله المؤرخ إزاء محاولة "إثبات صحة الحقائق." (ص. 50) وإذن، فإن القاضي والمؤرخ يحرران آرائهما من الذاتية وهو التحرر الذي حصل نتيجة التحول "من الشهادة البشرية إلى الشاهد المادي." (ص.56) لكن هذا التحول قد يعود على أعقابه في مراحل معينة مثلما حصل في تاريخ الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين، أو إزاء مواضيع معينة مثل مسألة الإعدام. لكن رأي العروي في المسألة يبقى منفتحاً إزاء استعمال شهادة البشر تاركا الاختيار بين يدي المؤرخ والقاضي.
في المواطنة والمساهمة والمجاورة
يبدأ عبد الله العروي تحليله هنا بالعروج على المعنى الاشتقاقي لكلمة المواطن في اللغة العربية والفرنسية والإنجليزية. فأما المواطن فتحيل على الإقامة، وكلمة وطن تحيل على الأرض القارة في حين تعني كلمة citoyen "صفة قانونية مرتبطة بالإنسان حل أم ارتحل." (ص. 66)، لكنه يلاحظ مع ذلك أن معنى citoyen متضمن في الاستعمال اليومي للفظة مواطن وهو ما يجب الانطلاق منه في أي دراسة للمفهوم. وهكذا، فحينما يقابل العروي بين مفهوم المواطنة ومفهوم الولاء، فإنه يعمل على تأويل الولاء باعتباره نوعاً من المواطنة لأنه يدخل ضمن خانة الحقوق الخاصة التي "لا تعارض الولاء بقدر ما تستدعيه" (ص. 71) اعتمادا على استقراء لمعاني المفهوم في الفكر السياسي الغربي ووصولا إلى حالة مخصوصة هي حالة ابريطانيا التي تطورت فيها الحقوق المدنية في غير تعارض بين كلمتي citizen وsubject ما دامت "الحقوق المسطرة هي امتيازات أبناء الغزاة المنتزعة بالقوة من الملك الذي هو واحد منهم ويحاول باستمرار الانفراد بالسلطة." (ص. 69) وهنا لابد من توضيح بسيط مفاده أن ما يسميه العروي ميثاق هنري الثالث ليس هو بالضبط الميثاق الأعظم/الماغنا كارطا الذي صيغ سنة 1215 في عهد الملك جون؛ بل إن "ميثاق هنري الثالث" (ص. 69) يعد صياغة أخرى لوثيقة الماغنا كارطا (الماغنا كارطا هي في الواقع عدة وثائق) في 1216 حاولت التخفف من بعض الالتزامات الصعبة.
وبعد ذلك ينتقل العروي إلى المقارنة بين مفهوم حقوق الإنسان والمواطن في التقليد الفرنسي من جهة وبين الحقوق في التقليد الإنجليزي، ليشير في هذا الصدد أن وثيقة حقوق الإنسان والمواطن المصادق عليها في المجلس الـتأسيسي الفرنسي سنة 1789 لا تميز بين المواطن الأصلي والوافد لأنها تهم المواطن-المساهم وليس "المواطن-المجاور"، بخلاف التقليد الإنجليزي الذي تطورت فيه الحقوق الفئوية من خلال سيرورة انتزاعها من يد الملك على مر التاريخ. التطور الآخر الذي لحق مفهوم الحقوق يتعلق بالوثيقة الصادرة عن الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية، وهي وثيقة لا تقوم إلا بتعميم ما ورد في وثائق سابقة، غير أن الجديد فيها هو "أنها تتجاهل ضمنيا سيادة الدولة الوطنية" (ص.73) لإنتاج مواطن عالمي. وما يهمنا نحن في هذا الباب هو ما يقوله عبد الله العروي من أن روسو، رغم محدودية نموذجه، "قلب مفاهيم ثيولوجية إلى سياسية" (ص.79) بينما يكتفي خصومه بالقيام "بقلب مضاد، أي بربط الحقوق السياسية بمجال غير سياسي." أما العروي فيحاول النظر إلى مفهوم المواطن من أوجه نظر خمسة وهي الجانب القانوني والسيكولوجي والتكوني-الجينيالوجي والأخلاقي وأخيرا الجانب الفلسفي في أفق التوصل إلى النظرة التوفيقية-التجاوزية-التأصيلية التي "تتوحد فيها الإرادة البشرية والمشيئة الربانية." (ص. 89)
العلمانية تاريخيا
يسلم العروي بصعوبة التأصيل الاشتقاقي لكلمة "علمانية"، ولكنه يلاحظ أن "المرادَفة المفترضة بين لفظي علماني و(laïque) تزيغ بنا إلى فهم خاطئ لنصوص نستشهد بها كثيراً." (ص. 93) بعد ذلك يتعرض العروي بالتحليل لمقولة "أعطوا لقيصر ما لقيصر وما لله لله" المنبنية على تمثل مضمر يحاول مواجهة وحدة السلطة، أي السلطة التي كانت في يد الكنيسة، وكذلك مقولة "الإسلام دين ودولة" التي يناقشها بعين المؤرخ، أي بالنظر إلى آثارها الملموسة في الواقع من حيث كونُها تنبني على ثنائية السلطتين الدينية والدنيوية كما هو الحال في الدولة الإمامية مثلا، وهي ثنائية حاضرة بشكل مضمر في متن الشاطبي من خلال التفريق بين الأحكام المكية والأحكام المدنية. يتتبع العروي هذه الثنائية تاريخيا فيجدها حاضرة في المرحلة الاستعمارية في المغرب وكذا في الدول التي لم تتعرض للاستعمار حيث "قام الحكام الوطنيون بإصلاحات كثيرة لا تناقض الشرع صراحة ولكن لا تستمد منه مسوغاتها." (ص. 98) وهكذا، فإن العروي يخلص إلى نتيجة مهمة مفادها أن لا وجود لوحدة السلطة حتى في الغرب في بعض الحالات المخصوصة. إضافة إلى ذلك، يُخضع العروي مفهوم العلمانية إلى الحرية الفردية، فهي التي يجب أن تضطلع بتبرير الاختيار المصلحي في إطار التوافق الاجتماعي، ويجعل من العلماني ذلك الشخص الذي "يريد إكمال الإصلاح وتغليب منطقه في المجال الذي لا يزال يخضع لقواعد الشرع." (ص. 101) غير أن العلمانية باعتبارها واقعا سوسيولوجيا هي التي تسمح بالاعتراف "لكل ذي حق بحقه، الدولة، المجتمع، الفرد." (ص. 107)
إرث النهضة وأزمة الراهن
في هذا الفصل يحدد العروي مهمته في تأويل النهضة باعتبارها حدثا تاريخيا، وهو ما يعني القيام بتأويل للتأويل مادات حركة النهضة هي نفسها تأويل لأحداث وطنية وأجنبية؛ والتأويل يعني ههنا التقييم والحكم. وكما جرت العادة في هذا الكتاب، يبدأ العروي بتمحيص المفهوم لغويا مشيرا إلى مرادفات لها استعملت في نفس المرحلة ككلمة إحياء وتجديد وانبعاث إلخ. ثم يشير الكاتب إلى حركات نهضوية أخرى كالنهضة التركية التورانية ( يطلق عليها الطورانية أيضا) وحركة الوحدة الإيطالية في القرن التاسع عشر (1815-1871) والتي يطلق عليها العروي كلمة الريزنجيمنتو (المترجمة من الكلمة الإيطالية Risorgimento) التي تتجاوز اللحظة التوحيدية للدولة إلى حركة إحيائية أوسع شملت الشخصية الوطنية الإيطالية وتاريخها المجيد وكذا استعادة ما حققته النهضة )، Tim Chapman, The Risorgimento: Italy1815-71, p.7. (. والمهم هنا بالنسبة إلى العروي هو أن حقيقة النهضة تختلف باختلاف ما نقارنها به؛ فيمكن أن يكون الفارق سياسيا (حالة النهضة التورانية) أو زمنيا (حالة الريزوجيميينتو الإيطالي)، أو جغرافيا (حالة بلدان الشرق الأقصى). إضافة إلى ذلك، يميز العروي بين فكر النهضة السابق على مرحلة الاستعمار وبين الفكرة الوطنية التي انبثقت في وقت لاحق ذاهبا إلى أنه يمكن استشفاف ثلاثة أنماط في تطور الفكر الاجتماعي الإصلاحي وهي: فكر النهضة، وفكر المقاومة الوطنية وأخيراً فكر عهد الاستقلال السياسي.(ص. 114) أما حكم العروي على فكر النهضة فيمكن تلمسه بالنظر إلى الموقف الحالي من النهضة باعتبارها إرثا والمتمثل في حضور مبدأ حرية الرأي عند مفكري النهضة؛ ففكر النهضة بكلمات العروي اتصف "قبل كل شيء بحرية الرأي والاختيار، بالجرأة على الاجتهاد واعتباره واجبا دينيا وطنيا أخلاقيا،" (ص. 115) وهو ما كان غائباً في مرحلة الاستعمار وما يزال غائباً في مرحلة الاستقلال، خصوصاً مسألة الجرأة الفكرية. إجمالا، يمكن القول إن العروي يؤول فكر النهضة من منظور أخلاقي فكري دون الالتفات إلى الاختلافات التي أنتجتها هذه النهضة في كل قطر عربي على حدة، ذلك أن ما يهم ليس هو مضمون فكر أعلام النهضة في حد ذاته ولكن المهم والحاسم هو موقفهم من التقاليد ومن التاريخ؛ من الماضي ومن المستقبل، في تمييزهم في الموروث مثلا "بين النافع والمضر والحي والميت، والمقبول والمرفوض" إلخ (ص. 118)
أما في ما يخص الشق الثاني المتعلق بأزمة الراهن فإن العروي ينطلق من تساؤل محدد: هل يمكن الحديث عن أزمة بالمفرد أم عن أزمات قطرية، مشيرا إلى أن من يرفض الحديث عنها بالمفرد يرفض ضمنيا التموقع الإيديولوجي الذي يرهن المقولة انطلاقاً من أن الإيديولوجيا هي أصل البلاء. لا يرفض العروي الرأي الأخير ولكنه مع ذلك لا يعتنقه كليا لأنه يميز بين النهضة كمفهوم محدد تاريخيا وجغرافيا والنهضة كمفهوم عام باعتبارها مقولات لها آثار بعدية ليس أقلها شأنا الموقف الفكري والأخلاقي لأعلام النهضة. أما المشكل في نظر العروي فهو مشكل سياسي أساسا بالنظر إلى عقلية الزعامة عند الحكام العرب الذين يتخذون "مبادرات فردية تصاغ في شكل يوحي بأنها تعبر عن هم قومي" (ص. 121)، أي عمليا التخبط بين واقع القطرية وحلم القومية، إضافة إلى رؤية الغرب للعرب (صمويل هانتنغتون وجون جونسون). وكل ما سبق يبرر بطبيعة الحال الحديث عن أزمة عربية بالمفرد دون نفي وجود أزمات قطرية. ليست المشكلة في التخلف العلمي والتقني بحسب العروي؛ إن الأزمة "ذات طابع تاريخي مقارن، تشير إلى علاقة نسبة بيننا كمجموعة مرسومة على واجهة الممكن المتوقع وبين مجموعات أخرى واقعة أو متوقعة أيضاً، ومن وراء ذلك إلى علاقة أخرى بين ما هو قائم اليوم في ربوعنا وما كان يكون لو تم عندنا ما تم في اليابان أو الصين أو حتى في الهند أو أندونيسيا." (ص. 124) هكذا، لا يمكن الاستفادة من إرث النهضة إلا بالأخذ بمبدأ الحرية في إطار "المصلحة المجتمعية" ضمن تصور تطوري يسبق فيه المجتمعُ الدولة، وهو ما لم يحصل في أي قطر عربي لأن الدولة دائما متقدمة على المجتمع. ولذلك فإن الليبيرالية، أي "إخضاع الدولة" لأهداف المجتمع ومصالحه (ص. 126) من جهة الإجماع حول فلسفة حقوق الإنسان، تبقى دائما حاضرة. والنتيجة هو أن الدولة تحقق السبق على المجتمع، بل نحن نعززها "رغما عنا ونحن نخصها دائما بالخطاب. ننتظر منها كل خير بقدر ما نلصق بها كل شر." (ص. 130) ويختم العروي هذا الفصل بإعادة التأكيد على ما سبق وأشار إليه، من أن ما يهم اليوم ليس هو مضمون النهضة—الهم الاجتماعي، قضايا المرأة، التربية والتعليم وما إلى ذلك، ولكن المهم هو "الموقف المعرفي والأخلاقي، الإيمان بإمكانية وضرورة الترقي، لا مجرد التطور والتحول، العقيدة الراسخة بأن الأمثل يوجد أمامنا لا وراءنا" (ص. 130) من أجل التصدي لأخطر "مشكلاتنا، وهو ضعف النسيج المجتمعي." (ص. 131)
عوائق التحديث
إن الحداثة أمر قائم في الواقع إن على مستوى مفاهيمها أو صيغ عيشها وتصريفها في الواقع المعيش. ولكن السؤال الذي يطرحه العروي هو التالي: كيف يمكن مجاوزة الحداثة؟ والجواب: لا يمكن مجاوزة الحداثة إلا عن طريق استيعابها. ولأن "الحداثة موجة، العوم ضدها مخاطرة" فإن ما يمكن فعله هو "الغوص حتى تمر الموجة فوق رؤوسنا فنظل حثالة، وإما نعوم معها بكل ما لدينا من قوة فنكون من الناجين." (ص. 144) وعوائق التحديث يجملها العروي في العائق الفكري الذي يعتمد على التفنيد الماكر للحداثة وكذا في العوائق المرتبطة بأحد مكونات الحداثة، أي بالفرد والحريات السياسية والديمقراطية والعقلانية. إن التحديث في آخر المطاف لا يمكن أن يحصل خارج إرادة الأفراد، فكل "واحد منا يستطيع أن يذكر أمراً يقلقه أو يستفزه، قد يسميه غباوة أو سفاهة أو جهالة أو بداوة أو ظلما أو تعديا." (ص. 145)
يختم العروي كتابه بفصل عنونه ب"شكر على تكريم" وهو التكريم الذي أقيم في مطلع هذه السنة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. وفيه يعرج الكاتب باقتضاب على مفهومي الإصلاح والصلاح ويؤكد مرة أخرى أن المشكل يرتبط بالسياسة بمفهومها العام، من بين مفاهيم وأفكار أخرى، ليس أقلها هو أن "السياسة العامة تعني التعامل مع الغير المنفصل أو البراني،" ولذلك فلا مشكل في التعامل مع الثقافة التقليدية باعتبارها "نغما" يخص الذات في ليلها بينما يبقى "الرقم" هو المدخل إلى الثقافة العلمية والتقنية؛ الرقم والنغم. هذه هي الروح التوفيقية التي تسم الأسلوب المتأخر للعروي كما قال إدوارد سعيد في سياق آخر. فالعلاقة بين الرقم والنغم لها أوجه أخرى في هذا الكتاب من بينها "التساكن بين المنظورات العامة" و"التعدد" و"المجاورة" من بين أوجه أخرى.
( 6Edward Said, On Late Style(Bloomsbury: London, 2006), p.)
خالد العارف








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان: متى تنتهي الحرب المنسية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الولايات المتحدة: ما الذي يجري في الجامعات الأمريكية؟ • فران




.. بلينكن في الصين: قائمة التوترات من تايوان إلى -تيك توك-


.. انسحاب إيراني من سوريا.. لعبة خيانة أم تمويه؟ | #التاسعة




.. هل تنجح أميركا بلجم التقارب الصيني الروسي؟ | #التاسعة