الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما الحداثة ؟ وهل يمكن لعرب اليوم أن يكون لهم حداثتهم المستقلة ؟

مجدى يوسف
(Magdi Youssef)

2018 / 12 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


يقف عرب اليوم فى مفترق الطرق بين تراث عريق، ومعاصرة لقوى غربية صارت مهيمنة على مقدرات الشعوب فى عالم اليوم. ولعل ذلك ما يبعث الكثيرين على البحث عن حل لهذه الإشكالية لاسيما وأن قضية الهوية متعلقة بتراث الذات الحضارية، بينما سؤال الحداثة متصل بالآخر الغربى المتفوق علميا وتكنولوجيا، والذى لا يمكن تجاهله أو الانغلاق عليه بحال من الأحوال. لذلك نتساءل: هل يمكن لعرب اليوم أن تصبح لهم حداثتهم دون أن يفقدوا خصوصياتهم الثقافية ويتوحدوا بالقيم الغربية فى الإنتاج وأساليب الحياة؟ وإذا كانت السياسات الاستعمارية الغربية تحرص على خلق تبعيات ثقافية لها فى عالمنا العربى طالما قوبلت بالرفض والمقاومة الشعبية، بينما كرسها ممثلوا الطبقات المهيمنة فى المجتمعات العربية ، والتى ظهرت على السطح منذ مطلع القرن العشرين فى مصر (طبقة كبار ملاك الأراضى)، وفى أواسط القرن الماضى فى سائر البلاد العربية ، بعد انحسار الاستعمارين الانجليزى والفرنسى الذين حرصا على اقتسام العالم العربى قبل أن يرثهما الاستعمار الأمريكى الذى صارت تدخلاته سافرة على نطاق دولى منذ الحرب العالمية الثانية ؟
يرى الكثير من مثقفونا أن المدخل للإجابة على هذا السؤال هو عرض التاريخ الحديث للآخر والذات على أنه تأريخ لتيارات فكرية، ولمنجزات علمية وتكنولوجية. ولعل كتاب صلاح سالم الذى أفاض الأستاذ صالح فرحان فى عرضه فى العدد الماضى من "الحداثة" نموذج لذلك التوجه الذى يرى أن تاريخ المجتمعات هو تاريخ الأفكار والتقنيات التى تمر بها. بينما نرى أن هذا التوجه بحاجة للمراجعة لأنه ينظر لما أفضت إليه التطورات الاجتماعية، أو بالأحرى المجتمعية ( الاجتماعية الاقتصادية والثقافية فى جدلية علاقاتها) على أنها نتيجة للتحولات الفكرية فى المجتمع ، وليس العكس. فإذا ما كانت الحداثة الغربية قد نشأت من خلال نضال الرأسمالية التجارية ضد العلاقات الإقطاعية فى أوربا، وذلك سعيا منها لتحقيق مشروعها الهادف لتعظيم الربح النقدى الفردى والاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الثروات الاجتماعية، فقد كانت بحاجة لأدوات وتقنيات تساعدها على تحقيق ذلك. من هنا كان دافعها لترجمة التراث الإسلامى فى العلوم والتكنولوجيا إلى اللاتينية ونقلها عبر طليطلة لمختلف بقاع أوربا لدعم مشروعها. لكنها فى الوقت ذاته لم تنقل تلك العلوم الإسلامية كما هى - على ذلك النحو الذى ينادى بعض العرب المحدثين عن حسن نية بالنسبة لنقل التكنولوجيا الغربية نقلا حرفيا لمجتمعاتنا العربية متصورين أن "بضاعتنا ردت إلينا" - إنما غيرت منها ابتداء من مشروعها هى، بأن فصلت منجزاتها العلمية عن النظام القيمى الذى كان مصدرا لتوجيهها فى العالم الإسلامى فى حقبة صعوده على النطاق العالمى . فقد كان ذلك النظام القيمى الإسلامى بمبادئه العامة متعارضا مع انطلاق بلا حدود لمشروع الرأسمالية التجارية الأوربية الرامى لتعظيم الربح النقدى الفردى. ولما كانت المعادن النفيسة التى يقوم عليها النقد الممثل للثروة قابع خارج أوربا فى القارات الثلاث : أفريقيا ، وآسيا ، والأمريكتين، فقد كان هذا هو الدافع وراء رحلات الكشوف الجغرافية للاستحواذ على تلك الثروات، حيث انطلقت من أسبانيا والبرتغال ، ثم تلتها سائر البلدان الأوربية. من هنا نشأت ظاهرة الاستعمار الأوربى لتلك القارات الثلاث التى ألحقت بها فى القرن العشرين كل من استراليا ونيوزيلانده. ومن هنا أيضا نشأت ثنائية الحيل الأوربية فى الحصول على ثروات شعوب القارات الأخرى، وحجب تلك الحيل عنها فى الوقت ذاته ، إلا بالقدر الذى يسمح بتبعيتها المعرفية والتكنولوجية لها. وفى حالات أخرى كان المستعمر الأوربى ينتهج سياسة تحديث جزء ملحق به من المجتمعات المستعمرة، وترك الجزء الآخر بعيدا عن أية عملية تحديث، كما فعلت فرنسا على سبيل المثال فى المغرب الأقصى بما عبرت عنه نظريتها الثنائية : المخزن والسيبا، أحدهما حديث متفرنس، والآخر تقليدى مستغرق فى تراثه . وغنى عن البيان أن كلا التنظيمين الاجتماعيين كان بالغ الضرر بالمجتمع المغربى، فهو لم يساعد فقط على انقسامه على بعضه، وإنما بالمثل على ابتعاده عن تحقيق ما هو بحاجة إليه من استقبال منجزات الآخر وتقنياته فى إطار تحديث حلول تراثه الخاص فى عملية تفاعل إبداعى لا يدعم الذات الحضارية وحدها، وإنما يحقق إمكان التفاعل المثرى للآخر الحضارى بالمثل من خلال تبادل الحلول النابعة من إعادة اختبار منجزات الآخر ابتداء من الاختلاف الموضوعى للذات فى ممارساتها الاجتماعية اليومية. وهذا هو على وجه التحديد ما دفعنا من خلال المشروع البحثى الجماعى بالضرورة نظرا لتعدد تخصصاته بحيث تشمل كافة المعارف الحديثة، لتقديم نموذج بديل للارتماء فى أحضان الغرب باسم الحداثة، أو التعامل معه ابتداء من اختزال الهوية الثقافية للذات إلى صورة معينة للتراث تبغى تثبيته وفرضه على نحو قامع للشعوب العربية ومجمد لقدراتها الإبداعية فى تشكيل حياتها على نحو متجدد.
وفيما يلى نعرض للخيار المنجهى البديل الذى اقترحناه فى شكل عمل بحثى جماعى يستهدف حلا عقلانيا لإشكالية العلاقة بين الذوات العربية المحلية، وتلك الغربية المهيمنة على عالم اليوم والمستحوذة بقدراتها التكنولوجية على معظم ثروات القارات الثلاث لاسيما عالمنا العربى المعاصر. وقد أثمر هذا المقترح المنهجى عن كتابنا الصادر هذا العام فى كمبردج بالمملكة المتحدة تحت عنوان: الإسهام العربى المعاصر فى الثقافة العالمية: حوار عربى – غربى ( بالانجليزية وبه فصل بالفرنسية). وفيما يلى عرض ملخص لهذا الكتاب الذى كان ثمرة مؤتمر نظمته ووضعت محاوره، واقترحت منطلقاته المنهجية حيث عقد فى مقر اليونسكو بباريس فى مارس 2009.
يستهل الفصل الأول من الكتاب بتقديم الإسهام العربى المعاصر فى مجال العلوم الطبيعية من خلال علوم الدواء، وهندسة الإنتاج.
وفى علوم الدواء لم يصدر الدكتورمحمد رءوف حامد فى أبحاثه بجامعة الفاتح فى ليبيا فى نهاية السبعينات ومقتبل الثمانينات من القرن الماضى عن "المعترف به دوليا" فى مجال تخصصه ، إنما عن اختلاف العادات الغذائية فى المجتمع الليبى ومدى تأثيرها على تمثيل الدواء غربى المنشأ . حيث تبين له أن عادة استهلاك الليبيين لمادة الهريسة الحارة بانتظام مع كل وجبة لا يفضى لما تروج له "إدارة الغذاء والدواء" الأمريكية من أن هذه المادة تحدث قرحا بالإمعاء والإثنى عشر ، إنما تقلل من إمكان حدوث تلك القرح ، بل تكسب صاحبها مناعة ضدها . وهو ما قدمه الدكتور رؤوف حامد مع طلبته فى مؤتمرات علوم الصيدلة فى كل من "فينا ،عاصمة النمسا ، و"مونترو" فى سويسرا وفى اليابان ، مما أثار الكثير من المناقشات فى هذا المجال. لذلك كان عنوان بحثه فى المؤتمر الذى عقدته فى باريس :
الخصوصية مصدرا للأصالة البحثية
ومع ذلك فقد رفضت الخارجية الفرنسية أن تمنحه تأشيرة لمدة ثلاثة أيام لدخول فرنسا لإلقاء بحثه هذا فى مؤتمرنا مع أنه سبق للدكتور حامد أن حصل أكثر من مرة على تأشيرة سياحية لدخول فرنسا ! ولعل السبب فى عدم تصريحها له فى هذه المرة يتسق مع القرار الصادر من قبل الجمعية التشريعية الفرنسية بالحث على الاعتراف ب" فضل الثقافة الفرنسية على مستعمرات فرنسا " (وهو ما احتجت عليه الحكومة الجزائرية آنذاك بشدة ) . والغالب أن ذلك الرفض دون إبداء الأسباب ، يرجع لكونى قد وجهت - بصفتى رئيسا للمؤتمر- الدعوة إليه بالفرنسية ذاكرا عنوان المؤتمر ، ظنا منى أن ذلك سيسرع من إعطائه التأشيرة ، بينما لم أفعل ذلك عن غيرعمد مع سائر الباحثين المدعوين للمؤتمر ذاته..
وقد جاء تعقيب الباحث النمسوى الشهير فى مجال الجهاز الهضمى بمعهد الدراسات الدوائية فى جامعة "جراتس" الطبية بالنمسا ، البروفيسور " بيتر هولتسر" ، مؤيدا تماما لما توصل إليه الدكتور رءوف حامد فى بحثه القيم ، ومشيرا إلى التاريخ العريق لعلماء العرب القدامى من أمثال ابن الهيثم ، وابن سينا الذين علموا الغرب الأسس التى يقوم عليها العلم التجريبى الحديث ، ناقدا الدوريات الغربية المعاصرة فى تحيزها أحادى التوجه لنشر أبحاث المشاهير من الغربيين دون الاهتمام بأبحاث المهمشين فى البلاد البعيدة عن دائرة الضوء فى الغرب ، بينما دراسات هؤلاء النابعة من الخصوصيات الثقافية الاجتماعية التى ينتمون إليها هى التى يمكن أن تثرى البحث العلمى وتضيف إليه على مستوى العالم.

أما بحث الدكتور حامد الموصلى فى هندسة الإنتاج فكان موضوعه : الموارد المادية المتجددة: أساس مادى للتنمية الذاتية المستدامة فى المجتمعات المحلية. عنوان طويل نوعا لبحث أكاديمى ، لكنه مع ذلك مبرر تماما . فتعريف الدكتور الموصلى يعرف هنا الموارد المادية المتجددة بأنها : " تأتى من أصول بيولوجية (...) خاصيتها الجوهرية أنها كانت ولازالت حية (...) أى تعكس شكلا من أشكال الحياة الطبيعية ، وبذلك تشكل نسقا إيكولوجيا صغيرا (...) لكنه لا ينفصل عن النظام الإيكولوجى الأكبر. مما يعنى أن هذه الموارد المادية المتجددة تحمل داخلها – وإن يكن فى صورة مصغرة – كل مكونات الشفرة الجينية للطبيعة "الأم" ، ومن ثم لتعاقب الحياة والموت فيها."
ويرى الدكتور الموصلى أن هذه الموارد المادية المتجددة " تتوفر بتكلفة زهيدة فى المناطق الريفية فيما يدعى "العالم الثالث" (مع ما لنا على هذا المفهوم من تحفظات – م.ى.)، وفى سياق اقتصاد المعيشة ترتبط هذه الموارد المادية المتجددة ، وعلى وجه الخصوص البواقى الزراعية منها ، بإشباع الحاجات الأساسية لقاطنى المناطق الريفية بخاصة حيث يعكس الموروث الثقافى والتقنى لهذه المجتمعات قدرة خلاقة على إبداع طرق جديدة لتوظيفها واستخدامها على المستوى المحلى (...) هذا بينما أدى الاعتماد المتزايد على طرق الحياة الغربية إلى إهمال متعمد للموارد المادية المتجددة والمتاحة محليا ، وما يرتبط بها من موروث تقنى وإبداعات ثقافية نابعة من بيئتها ... حتى تراجعت لتصير مصدرا للتلوث البيئى ، وعبئا اقتصاديا على مجتمعاتها المحلية. "
من هنا تقدم ورقة العالم الكبير الدكتور حامد الموصلى "نماذج متعددة تكشف دور العلم والتكنولوجيا فى تعبيد طرق جديدة لتوظيف هذه الموارد المتجددة فى إشباع الحاجات الأساسية لغالبية سكان الريف ، فضلا عن نشر صناعات منزلية صغيرة معتمدة على تلك الموارد المتجددة ومتناغمة ثقافيا وتكنولوجيا مع السياقات الريفية المحلية." وتقوم ورقة الدكتور الموصلى هذه على بحث ميدانى أجراه على مدى أعوام طويلة على النخيل فى المجتمعات العربية حيث يمكن الاستفادة من كل مكونات النخلة للغذاء والبناء وصنع مختلف المنتجات التى يحتاجها المجتمع المحلى . وقد استطاع الدكتور الموصلى أن يوفر بمعونة خارجية (!) لسيدات الريف فى مصر موتورا منزليا صغيرا يقمن به وهن فى دورهن بتصنيع تلك المنتجات القائمة على مخلفات النخيل ، وبيعها فى الأسواق مما يسهم فى تحرير المرأة الريفية من سطوة الرجل ويكسبها مكانة اجتماعية فى أسرتها ومحيطها .
وقد علق الدكتور "هانس فان فينن" (بتعطيش الفاء) ، أستاذ العلوم البيئية فى جامعتى "أمستردام" ، و"فينديسهايم" فى هولندا مشيدا ببحث الدكتور الموصلى الذى يقوم على الاعتماد على البيئة المحلية وتراثها المادى والثقافى فى استخدام التقنيات الحديثة الوافدة لتعظيم الاستفادة من تلك المواد المحلية بدلا من اللجوء للاعتماد على التقنيات الوافدة "المستحدثة" بعيدا عن التراث الخاص بكل منطقة. وبذلك فالدكتور الموصلى فى كلمات المعقب الغربى " يساعد على تعظيم دور المواطن فى المناطق الريفية فى عملية إنتاج واستهلاك الموارد المتاحة بيئيا ، مما يدعم دوره كمبدع وصانع للقرار فى مجتمعه المحلى."
وإذا كان الاقتصاد السياسى كعلم اجتماعى نقدى يعد العصب الرئيس لا أقول لكافة العلوم الاجتماعية وحدها، وإنما لفهم الأسس المجتمعية لكافة التخصصات الدقيقة بجميع مجالاتها ، فقد دعوت شيخ أساتذة هذا العلم فى عالمنا العربى ، الدكتور محمد حامد دويدار ( جامعة الاسكندرية ) ليقدم لنا فى هذا المؤتمر تفسيرا مختلفا عما هو شائع فى الكتابات الغربية فى مسعاها ل"شرح" أسباب الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى مرت بها أمريكا فى عام2007 ، ومن ثم الاقتصاد التابع للأمريكى فى مختلف القارات فيما عرف بأزمة الائتمان العقارى . فقد درجت معظم الأدبيات الغربية على توصيف هذه الأزمة بأنها "مالية" ، بينما أوضح الدكتور دويدار فى بحث قارب الخمسين صفحة أنها أزمة "هيكلية" ، وليست محض مالية لنمط إنتاجى صعد فى الغرب الحديث ليتجاوز النظام الإقطاعى السائد فى القرون الوسطى الأوربية رافعا راية رأس المال التجارى ، ليصير شعاره الأثير : دعه يعمل ، دعه يمر . وبذلك أصبح لغير الملحقين بالطوائف الحرفية التى احتكرت العمل فى القرون الوسطى الأوربية أن يمارس نشاطه الحرفى، وللتاجر المروج لإنتاجهم أن يمضى به عبر الحدود إلى مختلف أرجاء العالم بلا قيود. إلا أن نمط الإنتاج الجديد صار على "ثوريته" يحمل عوامل فنائه من داخله بافتئاته على الطبيعة الاجتماعية للإنتاج عن طريق الحافز الفردى لتحقيق الربح النقدى على طريقة "خصخصة المنافع وتعميم الخسائر". وعلى الرغم من مسعى "آدم سميث" لتبرير ذلك الطابع الصراعى للإنتاج الرأسمالى بما دعاه "اليد الخفية" ، إلا أن تفتيت العملية الإنتاجية فى ظل اقتصاد السوق الرأسمالية لم يفض وحسب لاغتراب المنتج عن منتجه ، ليصبح مجرد سلعة لا تحمل طابع صانعها فى الأسواق ، وجعله مجرد "مستهلك" لما ينتجه وسواه عبر آليات السوق ، قد جعل الإنسان مفرغا من حميمية علاقته بما ينتجه وما يستهلكه ليصبح مجرد "زبون" فى الأسواق لا غير. وهو ما يترتب عليه الفصل بين قيم الاستعمال التى تحمل ذلك الطابع الحميمى للإنتاج والاستهلاك فى آن ، وقيم التبادل التى تخضع لآليات السوق بما تكرسه من مسعى لتوسيع نطاقها بأى ثمن كى تحقق الربح النقدى للفرد على حساب المجموع . فليس المهم أن يكون منتجا ، وإنما المهم أن يكون حائزا على النقود التى تسمح له بشراء إنتاج الآخرين مسلوبى الهوية فى الأسواق.
وقد ترتب على الدافع الفردى لتحقيق أعلى ربح نقدى ممكن تقسيم العملية الإنتاجية لعدة وحدات منفصلة عن بعضها البعض، وفصلها عن المستهلك فى آن. فبعد أن كانت فى السابق موصولة كحالة صانع الأحذية الذى يصنع الحذاء يدويا، ويسلمه لمستهلكه فيتقاضى عليه أجره مباشرة ، إذ بهذه العملية التى لا فصل فيها بين الإنتاج والاستهلاك تصبح فى مصنع الأحذية "الحديث" مجزءة لسلسلة من العمليات المنفصلة عن بعضها البعض . بحيث يصبح كل منتج مباشر مختصا فى المصنع بإحدى تلك العمليات وحدها دون سواها ، لتجمع تلك الوحدات المنفصلة عن بعضها البعض فى النهاية فى شكل الحذاء المعروض للبيع على أمل أن يحقق صاحب المصنع ، أو المشاركين فى رأس ماله أعلى ربح نقدى ممكن فى الأسواق . وهو مايترتب عليه سلسلة من الانقطاعات تمثل بذرة الأزمة فى النمط الإنتاجى الحديث .فصاحب رأس المال بحاجة للحصول على قرض من البنك للقيام بمشروعه ، ثم شراء قوة العمل من الأسواق ، وتدريب العمال على ما سيقومون به فى المصنع ، وقد يمرض أحدهم أو يتوفى ، فيضطر لإحلاله بمن يقوم مكانه ، ثم طرح المنتج النهائى فى الأسواق على رجاء تحقيق الربح النقدى الذى هو دافعه الرئيس فى كل هذه العمليات الإنتاجية . كل ذلك ملىء بالمخاطرات والانقطاعات التى قد لا تفضى لما يرجوه صاحب رأس المال من تعظيم ربحه الفردى. وحتى يتغلب على أزمة عدم إمكان المنتج المباشر أن يدفع ثمن ما أنتجه دفعة واحدة ، غالبا ما يلجأ صاحب رأس المال لنظام التقسيط فى البيع عن طريق البنوك. وهو ما أدى مؤخرا للأزمة المروعة ل"نظام" الإئتمان العقارى فى الولايات المتحدة ، حيث أقبل الكثيرون على شراء الوحدات السكنية دون أن يمكنهم دفع أقساط تملكها ، مما أدى لانهيار أعتى بنوك التسليف العقارى فى الولايات المتحدة كما شاهدنا. وقد دأبت الكتابات الغربية على وصف هذا الانهيار بأنه يعبر عن أزمة مالية. بينما يكشف بحث الدكتور دويدار عن جذور تلك الأزمة فى نمط الإنتاج السائد الذى أنتجها ، وهو ما يدعونا للنظر إليها فى بعدها التاريخى كأزمة هيكلية لذلك النمط الإنتاجى ، وليس محض آنية.

لذلك يلزم النظر إلى الأزمات الدورية لنمط الإنتاج السائد فى العصور الحديثة من منظور تاريخى للتعرف على إيقاع ترددها الذى يشابه كبوة الحصان المتكررة ، وذلك بالرجوع للمائة أو المائة والخمسين عاما الأخيرة وتردد تلك الأزمات على مدى دورى قريب ، ومتوسط ، وبعيد بحيث صار عبئا على البشرية ، مدمرا لها فى صورة مجاعات ، كتلك التى أودت بحياة مليون أيرلندى فى منتصف القرن التاسع عشر، وأمثالهم فى الهند، وحروب شعواء على شعوبها المنتجة (أنظر الحرب العالمية الأولى ، ثم الثانية ، ثم الحرب على شعب أفغانستان وشعوب المنطقة العربية فى أواخر القرن الماضى وأوائل الحالى ).
ويتعلق بذلك التوجه العام الحرص على محو الذاكرة التاريخية للشعوب بوصفها تعبر عن هويات تلك الشعوب وخصوصياتها الثقافية ، وهو ما تمثل فى تيسير الاعتداء على المتاحف فى العراق، بوصفها من أقدم موروثات البشرية، وسرقة ونهب وتحطيم محتوياتها تحت مسميات "عقائدية" مبتسرة ، أو لمجرد بيع ما ينهب منها فى الأسواق وتحقيق ربح نقدى فردى على حساب تاريخ واحد من أقدم شعوب هذا العالم.

وإذا كنت قد توقفت لبعض الوقت أمام الاقتصاد السياسى بوصفه علما اجتماعيا ناقدا، فإنما لتوضيح ما سيلى ذلك من ورقات قدمت فى مجال التنظير للأدب والفن مختارا هنا العمارة باعتبارها جامعة لمختلف الفنون ، ثم اقتراح منهج بديل للمذاهب الغربية لدرس علاقة الأدب العربى المعاصر بالأدب العالمى.

ولعله من الواضح أن البصمة التى تركها حسن فتحى فى مجال العمارة تجيئ فى مقدمة الإسهام العربى المعاصر فى هذا المجال على مستوى العالم . وفى غياب هذا الرائد الكبير قدم ورقة بحثية فى المؤتمر "جيمس ستيل" ، أستاذ العمارة فى جامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكية ، تحت عنوان : عمارة الهوية عند كل من حسن فتحى وراسم بدران . وتقوم ورقة "ستيل" على فرضية أن عمارة حسن فتحى وتلميذه الأردنى من أصل فلسطينى بحكم الاستلهام راسم بدران هى نوع من مقاومة الاستعمارالغربى فى المنطقة العربية ، ورد فعل وطنى بإزائه فى صيغة معمارية . وهو ما يختلف معه فى تعليقه الباحث الألمانى الكبير "أندرياس فايلاند" بتعطيش الفاء (جامعة آخن التكنولوجية سابقا ) ، رائيا أن تفسير "ستيل" لظاهرة عمارة الفقراء عند حسن فتحى ، أو العمارة البيئية لدى راسم بدران لا يمكن أن تختزل لمجرد رد الفعل الرافض للهيمنة الأوربية فى الأوطان العربية ، وإنما هى فى الأساس ، فى حالة حسن فتحى، تحيز للنظام القيمى والعملى فى بناء دور الفلاحين فى قرى مصر بدلا من الانصياع لآليات السوق المدمرة لذلك النظام القيمى فى عقلانيته وارتباطه بمواد البناء وطرقه لدى عامة الفلاحين البسطاء . فهو على العكس مما يعنى المعماريون المحدثون لا يبحث عن صيغ وأشكال معمارية مجردة ، وإنما يصدر عن التعرف على عقلانية طرق البناء فى القرى المصرية ، ويسعى لتفعيلها بكل ما أوتى من معرفة علمية عصرية . أما بالنسبة لراسم بدران الذى قدم ورقة تحت عنوان : سرديات المكان ، بمعنى الكشف عن الراقات الحضارية لا للعمارة الدولية التى لا تعرف تلك الخصوصيات ، ولا يعنيها سوى أن تضع الإنسان فى معلبات سكنية سابقة الصنع لا يشعر فيها بتحقق خصوصيته الحضارية بحال من الأحوال . ويحضرنى فى هذا الصدد أنى شاهدت بنفسى ما ترتب على بناء جامعة بوخوم فى ألمانيا فى أوائل سبعينات القرن الماضى على نمط العمارة الوظيفية ، أو ما يدعى كذلك ، من انتحار الطلبة فى غرف دارهم الملحقة بالجامعة نظرا لما عانوه من إحباط نفسى شديد بسب التكرار الرتيب لتلك العمارة التى شيدت على نمطها الجامعة ، وتكلفت آنذاك مليارى مارك فى مرحلتها الأولى . ولم تكن تلك العمارة المحبطة سوى "رد فعل " لما سبقها من تصاميم معمارية محض شكلية . الأمر الذى يختلف جوهريا عما دفع حسن فتحى لتبنى وتفعيل عمارة الفلاح المصرى بخاماته المتاحة بيئيا ، وطرق بنائه المتوارثة عن الأجداد للقباب وملاقف الهواء ، فضلا عن النظام القيمى التضامنى فى الريف المصرى . فهو بهذا المعنى تحيز اجتماعى للمنتج الحقيقى للغذاء ومواد التصنيع التى يقوم عليها المجتمع المصرى ، وليس تكيفا مع آليات السوق العالمية التى تماهت معها الطبقات الطفيلية فى المجتمع المصرى التى غالبا ما كانت تقطن المدن ، وتعيش من فضلة خير الفلاح المصرى المنتج لأغلب القيم المادية والمعنوية فى بلاده بينما تغمطه أبسط حقوقه الإنسانية. كانت هذه هى النقطة الأساسية فى نقد الباحث الألمانى الكبير " أندرياس فايلاند" (بتعطيش الفاء) لما ذهب إليه "جيمس ستيل" فى ورقته . وإن لم يفند "فايلاند" بمنظوره الفكرى المثالى ، على الرغم من "مادية" توجهه المنهجى ، توصيف حسن فتحى لمشروعه ، وهو ما ردده من بعده مؤرخه "جيمس ستيل" ، بأنه "كان فاشلا" . فقد هجر الفلاحون قرية القرنه التى شيدها لهم ، ولم يقبل على دعوته ل"عمارة الفقراء" سوى الأثرياء ، وكبار المثقفين المصريين ، فضلا عن بعض الأمريكيين فى بلادهم.
وعلى درب حسن فتحى مضى راسم بدران فى مسعاه لمقاومة آليات السوق العالمية المدمرة للطابع المحلى الحميم للعمارة العربية المعاصرة باكتشاف خصوصياتها الثقافية والاجتماعية التى تشعر الساكن العربى أنه يسكن إليها ، وأنها ليست مجرد بهلوانيات شكلية لإرضاء غرور بعض ذوى المال ، وإنما تحقيقا لحاجة المواطن العربى فى أن يشعر بارتباطه بالمكان الذى يأويه .

وفى ورقتى التى أنهيت بها أعمال المؤتمر المذكور ، والتى تحمل عنوان : مدخل منهجى بديل لدرس العلاقة بين الأدب العربى المعاصر والأدب العالمى ، صدرت عما دعوته "سياق المجتمع المستقبل " – بكسر الباء - للأدب أو الآداب الأجنبية فى مقابل المناهج الغربية التى تصدر إما عن الدرس المحض فقه لغوى لإنتاج الأدب ، أو عن قارئ الأدب بالمعنى المجرد العام القائم على أساس هرمونيطيقى (تأويلى) بوصفه عاملا فاعلا فى استقبال وتقييم الأعمال الأدبية .
أما دراستى التى قدمت فيها منهجا مختلفا جذريا عن كلا التوجهين الغربيين ، فتقوم على أساس الاختلاف الموضوعى لسياق الاستقبال الاجتماعى عن السياق الذى أنتج العمل الأدبى فى إطاره . ومن ثم فإن استيعابه ابتداء من ذلك الاختلاف الموضوعى ، وليس امتدادا لرؤية الكاتب الأصلى فى إطار ثقافته الاجتماعية الخاصة ، يمكن أن يمثل عندى إضافة جوهرية للعمل الأدبى الأجنبى بفضل ما تتميز به الخصوصيات الاجتماعية الثقافية من تمايزات موضوعية على مستوى العالم ، وليس فقط على مستوى عالمنا العربى ، وإن كان الإعلام المعاصر بطابعه المتكيف مع آليات السوق العالمية يسعى لطمس تلك التمايزات لصالح عولمة مجردة بعيدة أشد ما يكون البعد عن حميمية الإحساس بالحياة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سؤال الحداثة
محمد البدري ( 2018 / 12 / 15 - 00:48 )
كان الدخول الي الحداثة في الغرب مشروط بفعل نقدي للذات، فعن ماذا تخلي الغرب من عناصر هويته وخصوصيتها حتي تمكن من الدخول الي الحداثة؟

تحياتي


2 - شكرا على المقال الضافي
محمود يوسف بكير ( 2018 / 12 / 15 - 19:20 )
أحييك د. مجدي على جهدك الكبير في عرض أورق البحث بهذا التمكن
مع تحياتي وتمنياتي لك بالمزيد من النجاح


3 - تعليق من كاتب المقال على تعليقين
أ.د. مجدى يوسف ( 2018 / 12 / 16 - 14:21 )
أشكر الدكتور محمود بكير على تعقيبه على هذا المقال.،، علما بأن لى مؤلقات بثمان لغات ، ست منها أوربية، أكتب مباشرة بثلاث منها هى الألمانية، والفرنسية ، والانجليزية، وقد ترجمت بعض أعمالى للغة الصيينة وصدرت عن دار نشر جامعة بكين. أما كثر أعمالى باللغات الاوربية فصادرة بالانجليزية نظرا لانتشارها الدولى. ،. وبالطبع أكتب أساسا لأهل بلادى بالعربية، وإن كانت وسائل
الإعلام السائدة تحرص على تجاهلى ولا تمنحىنى الفرصة للتواصل مع قرائى العرب بانتظا،،
أما بالنسبة لتساؤل الأخ الفاضل محمد البدرى
فتطور الحداثة الغربية لم ينشأ عن محض -نقد ذاتى- ، وإن كان النقد فى حد ذاته والنقد الذاتى شيمة أية تطور. ، وإنما من خلال أهداف وبرامج القوى التى كانت صاعدة فى المجتمعات الأوربية منذ قرابة الستة قرون، وهى الرأسمالية التجارية.، إلا أنها بعد أن تحولت إلى رأسمالية صناع
(ثم صارت مهيمن عليها مؤخرا من جانب رأس المال الما _،
المالى ، فقد كفت عن اجتياز أزماتها ، وتجديد نمطها الإنتاجى ، وصارت تمثل -تيتانيك- الاقتصاد العالمى الذى مع ذلك تمسك بتلابيبه بلادنا المحروسة كما يتشبث الطفل برداء أمه

اخر الافلام

.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة


.. قوات الاحتلال تعتقل شابا خلال اقتحامها مخيم شعفاط في القدس ا




.. تصاعد الاحتجاجات الطلابية بالجامعات الأمريكية ضد حرب إسرائيل


.. واشنطن تقر حزمة مساعدات عسكرية جديدة لإسرائيل وتحذر من عملية




.. قوات الاحتلال تقتحم بلدة شرقي نابلس وتحاصر أحياء في مدينة را