الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شيرين وفرهاد: الفصل السابع 5

دلور ميقري

2018 / 12 / 14
الادب والفن


ثم تبعها مفاجأة أخرى، عندما تصاعدت إلى سمعه أصوات موسيقى، صاخبة ومرحة، آتيةً من الساحة الممتدة تحت يده المستلقية على حافة سور التراس. كذلك ترددت من هنالك أصداءٌ جماعية لهتافات وتصفيق، ضخّمها مكبّر صوت ما. فكّر عندئذٍ، متسائلاً: " أيّ شيءٍ هذا، ومهرجانُ الغناوة قد أنقضى منذ شهرين؟ ". ولكن عينيه لم تحيدا عن مراقبة المرأة الغامضة، وقد أدهشه أنها ما تني محتفظة بصباها وتألقها وثقتها بنفسها. طفق يتابع حركاتها، بينما هيَ ترتقي طاولة محتفية بسرب من فتيات الليل ـ بحَسَب ما عرّفهن قبل قليل عديله الفرنسيّ. تغلغلت عيناه بين فخذيها البهيين، المنحسر عنهما فستانها ذي اللون الشهوانيّ. ثم ألقى نظرة على القدحين الفارغين، المتقابلين أمامه على الطاولة: " أيعقل أنّ يكون قد جرى وراء إحداهن، ذلك الكَاوري الملعون؟ "، تمتمَ محتاراً حانقاً. المشهد المُغري للمرأة وصاحباتها، أمتزجَ في رأسه الثمل وسط هذا التراس المحدود المساحة، دونما أن يُقدم في المقابل على أيّ فعلٍ غير مداعبة القدح الفارغ. كان يترقبُ عودةَ رفيق السهرة، متقلّبةً مشاعره في الأثناء على حبليّ الإثارة الجسدية والعقلية. وهوَ ذا يقعُ مباشرةً في مرمى عينيها المقتحمتين، اللتين قرأ قبلاً عن قوة تأثيرهما الطاغي.
" حسناً، لأفترض أنها هيَ؛ المرأة المفقودة الأثر، التي شغلت بسرّها جيلين من شخصيات السيرة المراكشية. فما شأنها بي، أنا مَن ليست له صلة قط بالسيرة سوى لناحية تحقيقها؟ "، ثابَ إلى إشغال داخله بسؤال آخر. تمنى لو أنها تكلمُ إحداهن، بغيَة تمييز صوتها على خلفية المعلومات ذاتها، المستقاة عن شخصيتها. وإذا بها تميل رويداً بكفلها الكبير، لتنزلق برشاقة من فوق الطاولة وتنتصب على قدميها. ومثل ساحرة الأساطير، اندفعت داخل الزحام باتجاه مدخل الترّاس بينما ثوبها الأحمر يرفرف بساقين عاريتين. دونَ تردد هذه المرة، تبعها شاقاً طريقه بأثرها. لينسابَ من المدخل عبرَ الدرج إلى صالة المقصف الرئيسة، وكانت غاصة بالرواد وأغلبهم من الأوروبيين، يرقصون على أنغام فرقة محلية اكتسى أفرادها باللباس التقليديّ. تسمر عند الدرجة الأخيرة، شاملاً الصالة السماوية بنظرة سريعة إلى أن حطت على المرأة وكانت تقاوم الزحام أمام المدخل، المفضي للباب الرئيس من خلال درجٍ آخر. حتى إذا خرجَ من باب المقصف، هاله أن يرى حشوداً بشرية تملأ الساحة للفرجة على ما يُشبه استعراضاً أو كرنفالاً: فرقٌ مختلفة، يغلب عليها الحضورُ النسائيّ، المبهرجُ بشتى الألوان والأشكال بما في ذلك أقنعة للوجوه. زغاريدٌ وهتافات، ترتفع عالياً من المتفرجين. أطفال، بالوسع رؤيتهم يلوحون بالعلم الوطنيّ ذي النجمة الخضراء. رجلٌ مجذوب، كأنما خارج للتو من رحم الأرض، يخترق الجموع بأسماله الرثة وعلى وجهه لاثة ممزقة، يتهدد الناس بيده مردداً اللازمة الصوفية، " حَيْ، حيييييي.. ". وآخر يلوحُ كمهرّج، مصبوغ الوجه بدهان أبيض، يلاحق ذلك المجذوب مقلداً حركاته وصوته بطريقة طريفة.
ما أن أستردَ بصرَهُ من ذلك المشهد الاحتفالي، إلا وأيقنَ هَلِعاً أنه أضاعَ أثر المرأة. يائساً من إمكانية العثور عليها بين الحشود، همّ بالتحرك نحو الجهة الأخرى من الساحة، شبه المقفرة، الغارقة في الظلال الليلكية، ثمة أين تنتصب نصف دزينة من أشجار الكاوتشوكة ذات الأوراق الصقيلة واللامعة كالكريستال. تسمّر بصره عندئذٍ عند الجذع الرشيق لإحدى تلك الأشجار، ليميّز ثانيةً هيئة المرأة وكانت تحمل، ويا للغرابة!، طفلاً رضيعاً مهدهدة إياه بحنو. كان يقترب من موقفها بخطى بطيئة مترددة، آنَ ظهرَ من منحنى مسجد القصبة، الكائن خلفها مباشرةً، موكبٌ جديد من الراقصين والعازفين بأشكالهم المختلفة الألوان. في منتصف الموكب، ظهر رجلٌ راكب فوق هودج وقد أبرزته غبشة العتمة كأنه معلّق في الفراغ. توقف الموكب إزاء المرأة، والتي ما لبثت أن مدت الطفل إلى الفارس. بدا واضحاً عند ذاك أنه موكبُ احتفال بختان الطفل، وكان هذا مكتسٍ بملابس المناسَبة مع الطربوش الأخضر المرقش الحواف بالقصب البرّاق.
" آه، يا إلهي، إنه ابني..! "، هتفَ داخله بمزيد من الدهشة. ولكنه تركَ الموكب يجتازه إلى ناحية الساحة، طالما أن المرأة سارت إلى الزنقة المقابلة موقفها. أندفع بأثرها، ماراً من تحت المدخل ذي القوس الحجريّ المزخرف، ليتوغل في الزنقة المسقوفة والضيقة الشبيهة بالقبو. ثم انتبه إلى كون هذا مجردَ ممرٍ مظلم، في غاية الطول، تقطعه أضواءُ لمبات كهربائية مثبتة في فجوات السقف وكما لو أنها أعينُ عفاريت العالم السفليّ. لم تلتفت المرأة إلى الخلف مرةً قط. على أنها توقفت على غرّة عند نهاية الممر، المفتوح على زنقة رحبة منارة بسماء مزركشة بنجوم متوهجة. لبثت جامدة في مكانها، كأنما تدعوه إليها. فلما صار وراءها، فإنه أدرك معنى دعوتها: ثلاثة شبان، كانوا مستندين هنالك على جدار، ترتعشُ أبدانهم لمرأى الحسناء، المنبثقة أمامهم مثل حورية قذفها البحر، الذي يُمكن سماع صدى زمجرة أمواجه. ما أن حاذى موقف المرأة المسحورة، حتى أمسكت بيده وجعلته يتحرك معها أماماً وبخطى مطمئنة. إلا أنها تركت يده بعدما سارا معاً أمتاراً قليلة، ثم اندفعت في طريقها وحيدةً كالسابق. وكان يشحذ همته بالحنق، كي يلحق بها، آنَ صدرت خلفه أصواتُ مطاردةٍ ما. ظهر أنهم أولئك الشبان، وكان أحدهم يركض بجنون وراء رفيقه صارخاً مُشهراً مديةً، فيما الثالث يترنح ملتوياً بألم ممسكاً خاصرته بيده. بدَورها، صرخت المرأة مذعورةً وهيَ تلتفت برأسها إلى جهة الأصوات، معتقدةً أن ثمة من يُطاردها.
" مرحبا..! لا بأس؟ "، واجهه ثلاثة أشخاص آخرين وإن كانوا أكبر سناً نوعاً. وكانوا قد ظهروا فجأة قدام عينيه، لحظة خروجه من ذلك الزقاق المرعب. حقّ له إذاً أن يفزع، قبل أن يهدئ روعه حُسن أشكالهم وستراتهم المنمقة. أرادَ أن يجتازهم، ماضياً نحوَ هدفه غير المرئي، حينَ خاطبه أحدهم بنبرة صديقة: " من هنا.. تفضلوا، تفضلوا! ". قالها الرجل، مشيراً إلى مدخل فخم لبناء منيف يقوم خلفه. وفيما كان المدعو يستدير نحو المدخل بحركة آلية، تصاعدت من الداخل أصوات موسيقى تبعها غناء كلاسيكي باللهجة المحلية.
" أهوَ حفلُ الختان، هذا؟ "، تساءل في نفسه مرتاباً. على أيّ حال، كان قد صارَ وسط قاعة كبيرة على شيء مبالغ به من الزخرفة البديعة للسقف الخشبيّ العالي والجدران الملبسة بالزليج. ثم ما عتمَ أن دُعيَ إلى طاولة مستديرة، يملأ كراسيها رجالٌ متجهمو الوجوه. أدهشه أن يرى بينهم " لوحا "، وكان يرمقه بنظرة مواربة وربما ابتسمَ أيضاً بخبث. صخبُ الموسيقى، اطّردَ مع حركة دبّت في صدر القاعة. رأى هنالك أربعة فتيان، وكانوا يشرعون بوضع فتاة على المحمل الخاص بالعُرس ( العمارية ). أجتاز المحملُ نصفَ القاعة، مركوناً على أكتاف أولئك الفتية إلى أن وصل حَذاء مجلسه. مبهوتاً، ميّزَ وجهَ المرأة الغامضة وكانت ترتدي فستان العرس التقليديّ، وكان برّاقاً وبلون الأرجوان!
من مكانها على المحمل، لوحت له العروسُ المزعومة يدَها بما يُشبه إشارة الوداع. على الأثر، أطبق عليه كل مَن في الحفل، نساءً ورجالاً، وراحوا يغمرونه بحفنات من السكّر الأبيض. أصوات التهنئة والضحك، تحوّلت على حين غرة إلى صيحات وعويل. مرتاعاً، رأى أقنعة تسقط على التوالي عن وجوه فتية المحمل، ليحل محلها وشمُ اسمِ كلّ منهم؛ " سيمو "، " غني "، " محو " و" آلان ". وسط الهرج، المحتدم في القاعة، تناهى لسمعه صوتٌ مألوف يصرخ باسم الرجل العراقيّ هذه المرة، قائلاً بنبرة وعيد: " هاكَ نتيجة العبث بالأعراض، أيها الزاني المنحل! ". بعدئذٍ ذوت الأصواتُ هوناً وعلى مهل، فلم يبقَ من تلك الدوامة سوى الفراغ والعتمة المطبقة على الخناق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما