الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشينكانسن، هم الذين يطلقون سراح الشمس

منير المجيد
(Monir Almajid)

2018 / 12 / 16
السياحة والرحلات


محطة قطار طوكيو الرئيسية (بدأ بناؤها عام ١٨٩٦ وانتهت عام ١٩٠٨ وتوسعت بأبنية مُلحقة تباعاً) تقع في «مارُنوچي» التابع لحي «غينزا» التجاري، على مسافة قصيرة، مشياً على الأقدام، من القصر الإمبراطوري، الذي لا تستطيع أن تراه إلا من الخارج، ويقع في منطقة شاسعة تحيطه البحيرات والأشجار. حتى الأبنية المجاورة قام اليابانونيون بتحديد إرتفاعها كي لا تزعج الأعين الفضولية خاصّية العائلة الإمبراطورية، التي ما تزال محاطة بهالة من القدسية والإبهام. مفارقات عجيبة في البلد الأكثر تطوراً، ليس من الجانب التقني فحسب، بل الإجتماعي أيضاً.
والمحطة هي الأعلى ازدحاماً في كل اليابان (أكثر من ٣ الاف قطار يومياً تربط العاصمة بكل مدن اليابان الرئيسية).
يمكن، حتى للمحليّين، التوه في ممرات وشارات المحطة من الداخل. الأمر يحتاج فقط إلى التركيز واتباع الإرشادات بدقة.

كنت، بطبيعة الحال، قد حجزت بطاقتي مسبقاً. وصلت إلى الرصيف. كان المسافرون الذين جاءوا قبلي قد وقفوا في صفوف متمايلة وفق الخطوط والأرقام على بلاط الأرضية. حينما وجدت رقمي وقفت كالآخرين.
يُقال إن لم يتطابق وقت وصول القطارات مع عقارب ساعتك، فيجدر بك أن تضبط ساعتك. وليس في هذا الكلام أي مبالغة. هكذا هم.
وحينما وقف االقطار على الرصيف، وقفت أيضاً العربة التي حُجزت فيها بطاقتي على نفس رقم بلاط الأرضية. لا حاجة للتنقل من عربة إلى اخرى وأنت تجرجر حقائبك وتتعثر ببقية الركاب وتُكثر من «آسف» و «اعذروني».
وضعت حقيبتي في المكان المخصص، ووجدت مقعدي بسهولة.

هذه أول تجربة لي في قطار الشينكانسن، الذي يقطع المسافة بين طوكيو وكيوتو في ثلاث ساعات (القطار العادي يستغرق ضعف المدة)، وبسرعة تبلغ ٣٠٠ كيلومتراً في الساعة. صدف أثناء زيارتي هذه، أن الخطوط الحديدية اليابانية قامت بتجربة قطار سريع جديد بلغت سرعته ٦٠٣ كيلومترات في الساعة، وتقرّر أن يدخل الخدمة الفعلية بدءاً من العام ٢٠٢٧.

كل ٤ مقاعد يمكن أن تجعلها متقابلة، لأنه بوسعك تحريكها بـ ١٨٠ درجة. المسافرون يقررون إن كانوا يريدون الإبقاء عليها بحيث تجلس بجانب مسافر وتتقابل مع مُسافرينِ، أو تُدير المقعد.
مقعدي كان بجانب فتاة شابة لها بشرة حليبية، ولاحظت عروق زرقاء شفافة في رقبتها وعلى وجهها. كانت تشبه لعبة من البورسلان.
رأسها كان في معظم الوقت مدفوناً في هاتفها الآي فون.
في الجهة الثانية شابان إبتسما لي بود.
- «كونّيچيوا»، قلت بثقة.
- «كونّيچيوا». ثم قال أحدهما شيئاً آخر.
- أعتذر (بقية الحوار تمّ بالإنكليزية)، لا أعرف اليابانية. فقط أربع أو خمس كلمات.
- آه، لا عليك.
الفتاة البورسلانية رفعت رأسها نحوي، انحنت بحركة خفيفة. إبتسمت وعادت بسرعة إلى هاتفها.
- أنا كاي، وهذا صديقي شون، وهذه ميدوري.
مدّ كاي يده للمصافحة، وكذلك شون (اليابانيون لا يتصافحون عادة)، بينما لم تكترث ميدوري إلا بهاتفها.
قدمت نفسي.
- هاجيمي ماشته (سررت باللقاء بك أو بكم).
ضحكا وأبديا إعجابهما بتلفظي بهذه الكلمة الصعبة. الفتاة البورسلانية إبتسمت مرة اخرى دون أن ترفع رأسها.
بسرعة، تحول حديثنا عن الدانمارك التي أسكنها منذ أكثر من ثلاثة عقود، عن سورية المفجوعة، عن اليابانيين اللذين أعدمهما داعش. ميدوري تابعت قليلاً الحوار حينما كان كاي يترجم لها باختصار شديد عمّا كنّا نتحدث عنه. عرفت فيما بعد أن ميدوري وكاي حبيبان، وميدوري تعرف من الإنكليزية ما أعرفه من اليابانية.

هدوء القطار كان مذهلاً. كنت أتابع مشهد الأرض في الخارج التي بدا وكأنها هي التي تسير بجنون وليس قطارنا، حينما أشار كاي إلى مرورنا بجانب جبل فوجي، الذي تُدثرّه ثلوج بيضاء وكأن جنية قامت بوضع شالها الأبيض على نحو فوضوي على مشجب على شكل كتلة رمادية. اختفى الجبل بسرعة وعادت السهول والمنحدرات المخوضرة تعكس لنا الضوء الخارجي على شكل شرائط.

«بينتو» هو إسم الأطعمة الجاهزة الموضّبة عادة بأناقة يابانية معروفة. أقرب تسمية لكلمة بينتو قد تكون زوّادة باللغة العربية. إشترى كل منا ما أعجبه من صناديق البينتو التي كانت تجول بها مضيفة القطار، مرتدية الزيّ الموحّد.

بعدها، تشعّب الحديث. ذكرت خبراً طازجاً عن اختيار الحسناء «أريانا مياموتو» لتمثل بلادها في مسابقة ملكة جمال الكون، والذي أثار موجة عنصرية بسبب دمها المختلط (الأب أفريقي والأم يابانية). نعم، هناك أيضاً عنصرية هنا. في الواقع لم يتعامل اليابانيون مع الأقليات العرقية في بلادهم بشكل لطيف. أخص بالذكر الكوريين، والـ «آينو» في هوكايدو، والـ «ريوكيوانس» في اوكيناوا. ومعروف أيضاً تاريخ اليابان الدموي أبان إحتلالهم للصين وكوريا ومناطق متفرقة في جنوب شرق آسيا في ثلاثينات القرن الماضي، والذي لم يتح علاقات طيبة بين اليابان والصين وكوريا حتى يومنا هذا، خاصة وأن اليابان لم تتقدم باعتذار رسمي.

عرفت أن كاي وشون وميدوري يقيمان في طوكيو، إلا أن كاي وميدوري جاءا من كيوتو، بينما شون من «ماتسوياما». وحدثني الأخير عن ماتسوياما التي لم أسمع بها قط من قبل. ما قاله عن حجمها، رتابة الحياة وقلة الزوار الأجانب أثار لدي الفضول.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفكيك حماس واستعادة المحتجزين ومنع التهديد.. 3 أهداف لإسرائي


.. صور أقمار صناعية تظهر مجمعا جديدا من الخيام يتم إنشاؤه بالقر




.. إعلام إسرائيلي: نتنياهو يرغب في تأخير اجتياح رفح لأسباب حزبي


.. بعد إلقاء القبض على 4 جواسيس.. السفارة الصينية في برلين تدخل




.. الاستخبارات البريطانية: روسيا فقدت قدرتها على التجسس في أورو