الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طوكيو، هم الذين يطلقون سراح الشمس

منير المجيد
(Monir Almajid)

2018 / 12 / 16
سيرة ذاتية


قد يتعلق الأمر بالبعد الجغرافي الفاصل بين الدانمارك واليابان، هو الذي جعلني أترددّ بزيارة هذا البلد الأعجوبة. البعض صار يسميه «كوكب اليابان»، ولست أدري إن كنت أوافق على هذه المبالغة اللغوية.
علاقتي باليابان بدأت، على الأغلب، بعد مشاهدة أول فيلم لـ «أكيرا كوروساوا» في صالة «سينما فؤاد» في القامشلي منذ نحو خمسين سنة. «الساموراي السبعة» من بطولة البديع «توشيرو ميفونه».
نقرة واحدة كانت تفصلني عن حجز البطاقة على الخطوط الإسكندنافية، ولتنهي ترددي، وهذا ما فعلته بعد أن تلقيت دعماً «أخلاقيا» من بعض أفراد عائلتي، رغم صعوبة وسوء الإتصال بسورية.

تستغرق الرحلة قرابة إحدى عشر ساعة، معظمها في أجواء شمال روسيا وسيبيريا الممتدة أبدياً. ثبوتية تُرسخ مبدأ كروية الأرض، التي تُناقش أحياناً حينما يُثير حولها الشكوك بعض دُعاة الدين من الفضائيين والمُفسبكيين.
في مطار «ناريتا» خضعت لبعض الطقوس اليابانية، من تسجيل البصمات وتصوير الوجه، حتى تسليم الإستمارات والمرور بالجمارك. وكنت قبلها، على متن الجمبو جيت قد ملأت إستمارتي الدخول والجمارك. استوقفني سؤال مضحك، ضمن العديد من الأسئلة: هل تحمل أسلحة ممنوعة؟ هل في متاعك مخدرات وعقاقير ممنوعة؟

هناك عدة خيارات للوصول إلى قلب طوكيو، التاكسي يتطلب ثروة صغيرة، ومن ثمة القطار، أو الباص الذي اكتشفت أنه سيوصلني إلى بوابة فندق «واشنطن» الذي حجزت فيه خمس ليال. بداية موفقة كما يبدو.
طوكيو هي عاصمة اليابان منذ عام ١٨٦٨، وحينها كانت تُسمّى بـ «ايدو»، ثم أُعتمد إسم طوكيو (العاصمة الشرقية) فيما بعد. امتدّت، مبتلعة المدن المجاورة والقريبة لتغطي مساحة تزيد عن ١٠ آلاف متر مربع، ولتشكّل أكبر حضرية في التاريخ.

لا بأس من صدمة أولية تجعلك تتنكّه الجانب المجنون من طوكيو، فالفندق يقع في «أكيهابارا»، أو المدينة الألكترونية كما يسميها البعض. منطقة يرتادها عشرات الآلاف من الشبان، وتعجّ بمئات الحوانيت والمقاهي، ويجمع هذا الحشد العجيب شئ واحد: الألعاب الألكترونية والمانغا (رسوم الإينيمي اليابانية). في المقاهي يحق لك إستعمال الألعاب وتناول الطعام والشرابات المنعشة كما يحلو لك، لمدة ساعة إلى ساعتين، كل ذلك بما يعادل أربع إلى ثماني دولارات، ويخدمك جيش صغير من الفتيات اللواتي يرتدين أزياء تُمثّل شخصيات المانغا والألعاب، واضعات طبقات كثيفة من المكياج، وينادونك بـ «سيدي».

للهروب من هذه الأجواء عليك بحجز بطاقة قطارات ومترو طوكيو، من أجهزة منصوبة تملأ محطات القطار في كل مكان، أو تسير مهتدياً بخرائط مفصلة وبلغات لا حصر لها.
فكرة التجوال في باصات السياحة ليست سيئة أيضاً، ففيها يمكن التعرف على المناطق الرئيسية، مثل أساكوسا، او-اينو، اكيبوكورو، شينجوكو، شيبويا، روپّونغي وشيمباشي.
إن أردت أن تتعرف على طوكيو في خمسة أيام، فإنك لن تتعرف إلا على الجزء اليسير منها. لذا فقد خططت لمشاهدة الأماكن التي أردت دوماً التعرف عليها والإقتراب منها.

استديوهات «جيبلي» التي أسسها «هاياو ميازاكي»، مقدماً للبشرية أجمل وأرقى أفلام الأنيمي (مرسومة باليد دائماً) منذ سبيعينات القرن الماضي، وحتى آخر أفلامه عام ٢٠١٣ (the wind rises). ميازاكي قرر الإعتزال والإهتمام بشيخوخته، تاركاً الدفّة لإبنه وزملاء آخرين، ثم عاد عن قراره مؤخراً ومُصرّحاً أنه تلوّث بهذا العمل ولا يعرف كيفية قضاء أوقاته بعيداً عنه.
والحلقة لن تكتمل أن لم أقم بزيارة المنزل الذي كان يقيم فيه «أوسامو تيزُكا» (توفي العام ١٩٨٩)، وهناك رسم مجلدات المانغا الخارقة، مثل المجلدات الـ ١٢ من «فينيكس»، والمجلدات الـ ٨ من «بوذا»، علاوة على عشرات الكتب المرسومة بريشة ساحرة جعلته المعلم الأكبر لهذا الفن الياباني الجميل.
ذهبت لمشاهدة أعمال الفنانة «يايوي كوساما»، التي تعدّ من أشهر فنانات البوب-آرت في العالم، وتسكن الآن في مشفى للأمراض العقلية وذلك بمحض رغبتها.
زرت حديقتين عامتين إعتاد «هاروكي موراكامي» ممارسة رياضة الجري فيهما.
زرت محطة طوكيو الرئيسية مستحضراً ذكريات الهجوم الإرهابي الفظيع الذي قام به جيش الخلاص في تسعينات القرن الماضي. على فكرة جيش الخلاص حُلّ وانتهى أمره، إلا أن المافيا اليابانية (الياكوزا) مازالت قوية. رغم هذا، فإن اليابان تُعد من أكثر بلاد العالم أماناً، ونسبة الجريمة فيها منخفضة كثيراً.

قرب محطة «شيبويا» وقفت أتأمل النصب البرونزي للكلب المشهو عالمياً «هاچيكو». ووقائع القصة جرت حينما قام البروفسور «هيديسابورو او-اينو» برعايته كجرو ضعيف مهمل عام ١٩٢٣، وحينما اشتد عوده صار يرافق البروفسور إلى عمله في محطة القطار شيبويا، ويعود لينتظره بعد إنتهاء العمل. في أحد الأيام لم يعد البروفسور لأنه توفي في مكان عمله، إلا أن هاچيكو ذهب إلى المحطة وانتطره هناك عدة سنوات حتى مماته العام ١٩٣٥. قصة هذا الكلب التي دارت العالم كرمز للإخلاص والوفاء، تحولت بدورها إلى أعمال أدبية وسينمائية. أولها كان الفيلم الياباني الشهير «قصة هاچيكو» من إخراج «سايجيرو كويوما» عام ١٩٨٧. وفي العام ٢٠٠٩ قام المخرج السويدي الأصل «لاسه هالستروم» بأمركة الفيلم وترك «ريتشارد غير» يؤدي دور البروفسور.
مؤخراً (عام ٢٠١٥) قامت سلطات بلدية طوكيو بوضع نصب جديد يجمع هاچيكو والبروفيسور هيديسابورو مرة اخرى.
كان لا بد أيضاً من زيارة موقع ثكنة ««إيشيغايا» بينما كنت أجول في منطقة «شينجوكو». هناك وقف أشهر كتّاب الأدب الياباني الحديث (يوكيو ميشيما) في صبيحة يوم ٢٥ نوفمبر عام ١٩٧٠ على شرفة قائد الثكنة العسكري ملقياً خطاباً وطنياً فاشياً أثار ملل جمهرة الجنود المجتمعين في الساحة، منادياً بإعادة أمجاد اليابان العسكرية وتأليه الإمبراطور، بعد أن قام مع أربعة من عتاة اليمينيين اليابانيين بتقييد قائد الثكنة العسكري. إنتحر بعد إلقاء كلمته بخمس دقائق.

زيارة شوارع حي «غينزا» الفارهة، تجوب بك العالم كله. فمعظم العلامات التجارية العالمية، إن لم تكن كلها، ممثلة بأبنية تنافست كي تظهر بحلّة بهيّة وجذّابة. والأمر يتعدى الأزياء والعطور بكثير، ليصل حتى إلى ماركات السيارات.
في المواسم السياحية، تقوم السلطات بإغلاق الشارع الرئيسي في وجه الحافلات لعدة ساعات يومياً، كي ينعم الزوار الكثيرون بالتجوال، أو حتى بالجلوس على الكراسي، التي تُسارع المقاهي بنصبها والطاولات في عرض الشارع.

في كل شارع وطأته تمنيت لو أن أكيرا كيراساو، الذي غادر دنيانا، تمشّى فيه أيضاً. أو حتى تاكيشي كيتانو بوجهه الذي شوهته حادثة سير مروعة، لكنه مازال يُخرج ويُمثّل أفلام عصابات وأكشن لا يتحدث فيها إلا ما ندر، ولا يبتسم مطلقاً. اليابانيون لا يحبون أفلامه كثيراً، ويفضلون برامجه الكوميدية في التلفزيون. لم أستوعب، في الحقيقة، كيف يمكن أن يكون كوميدياً في التلفزيون، وآلة قتل فتّاكة كاتمة في السينما!

خمسة أيام في طوكيو ولم أفق من الدوار. هذا الميتروپول أكبر من الدانمارك بسبع مرات (عدد سكان المدينة يبلغ أكثر من ٣٨ مليون نسمة). كيف أذلّل الوقت لأتحدث عن هذه المدينة-الأعجوبة، وفي ذات الحين أجدني هارباً أود اللجوء إلى مكان أكثر رتابة وأقل جنوناً؟

لملمت أشيائي ووضعتها في حقيبة السفر، نزلت إلى بهو الفندق، وبعد إنحناءات يابانية عديدة استقليت سيارة التاكسي إلى محطة طوكيو الرئيسية.
على سيرة الإنحناءات اليابانية، تذكرت أن الرئيس أوباما أثار حنق العديد من مواطنيه الأمريكان، حينما كان في زيارة لليابان، لأنه بالغ بالإنحناء حينما زار الإمبراطور.
كان سائق تاكسي التويوتا، التي مازالت تُصنع هياكلها على نحو تقليدي يشبه حافلات السبعينات، كما معظم زملائه، يرتدي كفوفاً بيضاء ويرتدي زيّاً موحداً ويعتمر قبعة زرقاء، صامتاً ككهف من العصور الغابرة. حينما وصلنا نطق شيئاً ما باليابانية وفتح الباب آلياً بلمسة زر، ثم خرج ليُنزل حقيبتي. سلمتّه الأجرة فانحنى وانحنيت. إنه الأدب الياباني الجمّ والخدمات التي تلقاها في كل مليمتر من البلاد.
كانت تفصلني دقائق عن تجربة السفر بقطارات الشينكانسن، أو القطار الطلقة حسب تسميته العالمية.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر