الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيوتو (١)، هم الذين يطلقون سراح الشمس

منير المجيد
(Monir Almajid)

2018 / 12 / 17
سيرة ذاتية


حطّ قطار الشنكانسن في محطة كيوتو بعد ثلاث ساعات ممتعة قضيتها بصحبة كاي وشون والصامتة ميدوري.
ومحطة كيوتو صرح معماري مهيب وتحفة بديعة بمساحة تبلغ ٢٣٨ ألف متر مربع وتتألف من ١٥ طابقاً، منها ٤ تحت الأرض، تعمل على نقل عشرات الآلاف المسافرين ومئات القطارات طيلة الليل والنهار. أما بقية الطوابق فتضم أسواقاً تجارية متنوعة، مطاعم، دور سينما، فندق، سوبر ماركت، بالإضافة إلى عدد هائل من المحلات والدكاكين الصغيرة.
كل ما فعلته بعدئذ كان عبور الشارع العريض لأصل إلى فندق New Miyako مقابل مخرج المحطة Hachijo West Ext. على بوابة الفندق الواسعة وقف رجل قصير القامة بملامح غير آسيوية، يرتدي بزّة سوداء وقميصاً أبيض مثل البطارق، يُرحب بزوار الفندق.
عرفت فيما بعد أنه برازيلي الأصل، انتقل إلى اليابان منذ أكثر من أربعين سنة. كنت كعادتي فضولياً.
من نافذة غرفتي في الطابق السابع رأيت القطارات تمّر بلمحة بصر حاملة المُسافرين إلى كل مكان، وخلف المحطة ارتفع برج كيوتو الذي صارت أضواؤه تشع بقدوم ساعات المساء الأولى.
ظلّت المدينة عاصمة للإمبراطورية القديمة لأكثر من ألف عام، وهي تعني بكل بساطة «العاصمة»، إلى أن صارت مدينة «إيدو» في العام ١٨٦٨ عاصمة موحدة. حينها قام اليابانيويون بتغيير اسم إيدو إلى طوكيو، وتعني أيضاً ببساطة «العاصمة الشرقية».
خلافاً لطوكيو، أكبر ميتروبول في العصر الحديث، بأبنيتها الشاهقة وحركتها التي تُصيب أكثر الناس هدوءاً بدوار مُسكر، فإن لكيوتو وقع ونوطة خاصة، لا تجدها في مدن البلاد الاخرى. تحسّ أنك في قرية بالرغم من سكانها الذين يتجاوزون المليون والنصف. الأبنية العالية نادرة، ولا ناطحات سحاب. إنها عراقة وحضارة وثقافة وروح اليابان.
موقعها في سهل كانساي الواسع (يضم السهل مدناً هامة مثل اوساكا، نارا وكوبيه) تُحيطها التلال والجبال. والمعروف أن الأراضي الزراعية المُحيطة بكيوتو تنتج أفضل وأندر خضار اليابان، ومنها يصنعون المخللات الشهيرة التي تُقدّم مع كل وجبة طعام، والتي لا يُضاهيها في الجودة شيء.
بدأت بتقصي مرافق الفندق بعد استراحة وجيزة. حدّدت مواقع المطاعم والبارات، ووجدت نفسي في بهو واسع ينتهي بمكان عالٍ يتصدره مذبح كما في الكنائس. هذا البهو يُستعمل في مراسم الزواج.
اليابانيون يتزوجون على الطريقة المسيحية لأن مشاهد الأفلام الهوليودية أعجبتهم. الديكور والقس هم مجرد مسرح في طقوس ومراسم الزواج. وهم، بينما أتحدث في هكذا أمور، يحتفلون بمواليدهم الجدد في معابد الشنتو، ويدفنون أمواتهم، بعد حرقهم بطبيعة الحال، حسب الطقوس في المعابد البوذية. هذا لا يعني مطلقاً أنهم أمة مؤمنة. مجرد تقاليد وعادات، بعضها قديم قدم البلاد، وبعضها جديد جاء بتأثير من الأمريكان.
مازال الوقت مُبكّراً للذهاب إلى مطعم Hyotei بعد أن تأكدت من الحجز.
على الباب الخارجي تمنّي لي البطريق البرازيلي أمسية طيبة وانحنى مُقلداً اليابانيين.
ذهبت في جولة حول المحطة ووصلت إلى البوابة الشرقية حيث فصلتني فسحة وموقف حافلات عن برج كيوتو، التي صارت ألوان إضائته أكثر وضوحاً، ثم دخلت شوارع ضيقة دون أرصفة، مما يستدعي الحذر من الراجلين والسائقين معاً. محال تجارية صغيرة تتبعثر على كلا طرفي الشوارع، مطاعم بأبواب صغيرة غُطّيت مداخلها بستائر قصيرة عليها أسماء بشارات الكنجي ورسوم.
حان الوقت.
أوقفت سيارة تكسي وأريت السائق عنوان المطعم. «هاي» قال السائق. وكلمة هاي تعني نعم.
وصلت في تمام السابعة إلى شارع معتم، ووقفت السيارة أمام بناء بسيط، وهناك، تحت الإضاءة الشاحبة، وقفت ثلاث سيدات يرتدين الكيمونو. كنّ بانتظاري.
المطعم عمره يتجاوز الأربعمائة سنة بقليل، تملكه نفس العائلة، جيل تلو الآخر. وهو لا يشبه المطاعم التي ارتدّها من قبل، لأنه مُكّون من غرف منفصلة، لا بل شقق صغيرة لأنك سوف تحظى بحمامك الخاص. في وسط الغرفة طاولة دائرية سوداء منخفضة جداً، وأنت كضيف يجب أن تجلس على مخدة. الشباك الواسع يطلّ على حديقة منشأة على الطريقة التقليدية، بما في ذلك جداول تشبه أنهاراً صغيرة.
نسيت أن أقول أن ميشيلين منحت مطعم «هيوتي-اي» ثلاثة نجوم، هي أقصى ما يمكن أن يحصل عليه أي مطعم.
السيدات الثلاث رافقنني طيلة الأمسية، وتبادلن على تقديم الوجبات الإحدى عشر التي تألف منها عشاء هذه الأمسية، استطعت أن أحتسي معها نصف زجاجة ساكيه. وقبل أن تدخل النادلة تستأذن منك، وتقدم لك الطبق جالسة. النادل يجب أن يكون دوماً في وضعٍ تحت مستوى نظر الزبون. هكذا هي الخدمة اليابانية.
بعد ثلاث ساعات في النعيم، دفعت الفاتورة (لا يعرفون في هذه البلاد نظام البقشيش)، وكانوا قد طلبوا لي سيارة تكسي. رافقتني النسوة الثلاث إلى خارج المطعم، وانحنين لي. قاد السائق سيارته نحو مائة متر، ثم عاد. السيدات الثلاث كنّ مازلن هناك وانحنين حتى غابت السيارة في شوارع كيوتو الضيقة.
غداً أنا على موعد مع معابد المدينة.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس الأمريكي يقر مشروع قانون مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا


.. لازاريني: آمل أن تحصل المجموعة الأخيرة من المانحين على الثقة




.. المبعوث الأمريكي للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط: على إسرا


.. آرسنال يطارد لقب الدوري الإنجليزي الممتاز الذي غاب عن خزائنه




.. استمرار أعمال الإنقاذ والإجلاء في -غوانغدونغ- الصينية