الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نارا (٣)، هم الذين يطلقون سراح الشمس

منير المجيد
(Monir Almajid)

2018 / 12 / 19
سيرة ذاتية


الإفطار «العضوي» في مطعم فندق «سوپر لوهاس» لم يكن مخيباً على الإطلاق. مثل كل فنادق البلاد، كان هناك أيضاً منوعات على الطريقة الغربية، وفيض من الوجبات اليابانية التقليدية. الجديد في الأمر كان الفرن الصغير المُطلّ بكوّة مكورّة تقوم سيدة هناك بخَبّز عدة أنواع من الخبز، لم أستطع مقاومة الرائحة الساحرة الفاتنة للخبز الساخن. رغم أنني اخترت الوجبات اليابانية، إلا أنني خطفت رغيفاً صغيراً.
لم أتذوق طيلة حياتي خبزاً أشهى.
ليلة أمس كنت قد أرهقت حاسوبي بالتفتيش عن مواقع خارج مدينة نارا، ووجدت مبتغاي.
استقليت الباص عوضاً عن القطار. موقف الباص كان تماماً في الساحة أمام الفندق. والرحلة استغرقت حوالي الساعة إلى معبد Hōryūji. غريب أمر هذه المسافات، التي دائماً تقترب من ساعة زمنية.
إذا أتممت مشواري، فانني، أيضاً بعد ساعة، سأصل إلى بلدة «تايجي». هذه البلدة تُمّول معظم سيركات الدلافين في العالم. هناك يصيد المحليون الدلافين التي تلعب وتلهو في مياه المحيط الهادئ كالأطفال. وهم يصيدون أعداد كبيرة منها لا تجد أحواض سيرك لها حول العالم، فينتهي بعضها في عبوات بلاستيكية في سوبرماركتات البلاد على أنها لحوم حيتان.
هذا الغش تحاول السلطات المحلية وضع حدّ له، إلا أن الأمر صعب بسبب توّرط المافيا اليابانية (الياكوزا) وبعض المتنفذين من السياسيين الفاسدين، علاوة على أنه يصعب على الزبائن التفريق بين لحوم الحيتان والدلافين لتشابهها.
لصيد الحيتان أيضاً متاعب. فاليابان تُنتقد من مجمل المنظمات البيئية العالمية وهيئات الحفاظ على البيئة، دون أن تتراجع، حتى الآن، عن منع صيدها.
يعود بناء معبد Hōryūji، إلى القرن السابع، والملحق البديع الذي بناه أمير الموقع Shōtoku Taishi لوالدته الذي يحمل إسم Chuguji، فيه تمثال الوالدة المعروفة بصاحبة ثاني أشهر إبتسامة في تاريخ الفن (بعد موناليزا بطبيعة الحال).
أمام المدخل الرئيسي جاء رجل متقدم في العمر وسألني، بإنكليزية سليمة مُطعّمة بلكنة يابانية خاصة، إن كنت أحتاج دليلاً. هذه اللكنة تُسبّب أحياناً مفارقات لغوية مُضحكة. حرف L يلفظونه R وبالعكس أيضاً. مثلاً كلمة ELECTION (إنتخاب)، تُصبح ERECTION (إنتصاب).
- نعم، شكراً جزيلاً. قلت له.
والرجل واحد من آلاف المتقاعدين الذين يجوبون المواقع السياحية، محمّلين بقواميس في أدمغتهم ومعلومات ويكيبيدية، تكفي للإجابة عن أي سؤال ذكي أو غبي يطرحه السائح، يرافقك لمدة ساعة. كل ذلك دون مُقابل.
خدمة أقوم بها وأنا في قمة السعادة. قال لي. 
وأنا، في الواقع اقتنعت بكلامه، بسبب حماس الرجل المُبهر.
كعادة المعابد القديمة، يفخر اليابانيون بطريقة البناء العبقرية التي، مازالت تُمارس حتى اليوم، حين يقومون بتحديث وصيانة إرثهم الغني. إستعمال الفائض الهائل من الأشجار في البناء دون إستعمال المسامير. هكذا بكل بساطة.
إلا أن ما لفت نظري أيضاً هو أن هذه البلاد لم تكن معزولة تماماً، كما يخطر على بال العديد منّا، فبعض المنحوتات التي تعود إلى تلك القرون، موضوعة في أطر هي مزيج مذهل من تمازج الحضارات: الإطار الأول يوناني، الثاني فارسي، النقوش على الأطراف هندية وصينية والباقي ياباني. هل كانت عولمة أم حوار حضارات؟ من يدري؟ أعتقد أنه كان تفاهم حضارت واحترام متبادل.
عدت إلى الفندق لأنفض عني إرهاق السير، وكانت الساعة تقترب من الرابعة. أردت تناول عشاء مختلف اليوم، وللمرة العاشرة، كان حظي جيداً، حين اتصلت بمطعم Gen فقالوا لي أن بعض الزبائن ألغوا حجزهم، لذا فأنني مُرحّب بي.
ذهبت بعدها في مشوار آخر باحثاً عن فندق «نارا» المشهور عالمياً، والذي يطلّ على بحيرة «آرا». جلست في إحدى بارات الفندق التاريخي الباذخ، الذي تجد صور لمشاهير العالم مُعلّقة في كل مكان. أمامي، وأنا احتسي كأساً من «كيرين» انتصب بيانو خمري اللون مُحاط بحبل، كما في المتاحف، وعلى لافتة صغيرة وبعدة لغات كُتب «رجاءً، ممنوع اللمس»، وعلى الحائط فوق البيانو، صورة بالأسود والأبيض لسلفادور دالي بشاربه المستدقّ المُقسّى بشمع النحل وهو يعزف على ذات البيانو.
خارجاً، كانت الشمس على وشك الإختفاء خلف قمم الأشجار والبيوت، عاكسة ألوانها الضاربة إلى الإحمرار على مياه البحيرة.
تابعت سيري بعد ذلك، بإنتظار موعد ذهابي إلى المطعم.
بالصدفة مررت بحانوت صنع سكاكين يابانية يدوية، وهي حرفة يقف العالم كله مشدوهاً بها. لفت نظري سلسلة من السكاكين تحمل إسم «داماسكوس»، وكما هو معروف فإنه الإسم المعتمد عالمياً لدمشق.
سألت شيخ الحرفيين، الذي كان يجلس على حصير (تاتامي) ويعمل على شحذ بعض السكاكين عن علاقة الإسم بسلسلة سكاكينه. الرجل روى لي قصة طويلة اختصرها كما يلي:
«منذ بداية الخلافة العثمانية (قبل حوالي سبعمائة عام)، وبعيد العلاقات التجارية بين اليابان واستانبول، وصلتنا سكاكين وسيوف أسماها العثمانيون بـ «الدمشقية»، لأن الدمشقيون كانوا قد ابتكروا طريقة عبقرية لتطويع الحديد وفولذته قبل ذلك بعدة قرون، ليس هذا فحسب بل نقشوا على الفولاذ أشكال ورموز خاصة. 
نحن، هنا في اليابان، تعلمنا الطريقة، ومازلنا حتى اليوم نستعمل نفس النقوش، ليس في صنع السكاكين فحسب، بل في السيوف أيضاً».
وصلت، في الوقت الصحيح، إلى مطعم Gen (واحد من قلة من المطاعم التي زيّنتها نجمة ميشيلين في هذه المدينة). هذه المرة المطعم مختص بتقديم وجبات Soba.
لست متأكداً من التسمية العربية التي تقول أنها الحنطة السوداء. في كل الأحوال الإسم الإنكليزي هو buckwheat، وهي متعددة الإستعمالات في المطبخ الياباني، لعّل أشهرها تلك التي على شكل السباكيتي، بمختلف المذاقات.
النوع المعجون بالشاي الأخضر هو المفضّل لديّ. 
يقع المطعم في زقاق ضيق بعيد عن المواصلات، في حي أشبه ما يكون بحي الميدان الدمشقي. وحالما «تسحب» الباب نحو اليسار، حتى يستقبلك كل من يعمل في المطعم. الشيف، زوجته، وثلاث فتيات ساحرات يرتدين الكيمونو، والجميع يجلس على حصير التاتامي بانتظار أن تخلع حذاءك. 
الجلوس على الحصير تقليد للتواضع الياباني: أنت السيد هنا، ولا أحد يحدثك واقفاً. 
هناك غرفتان فقط، كل واحدة تطل على حديقة صغيرة مثقلة بالنباتات والأزهار. بمعنى آخر، لا يسع المكان لأكثر من ثمانية زبائن على العشاء على الأكثر. هذا يعني أن المطعم سيستقبل أربعة زبائن في الغرفة المجاورة، وأنا فقط في هذه الغرفة.
بداية، جاء الشيف بصفحتين من الورق الياباني المصنوع يدوياً، كُتب عليهما بخط الكانجي البديع. واحدة لأصناف الساكيه، كل وجبة وأبريق صغير جميل الشكل يحمل قطرات مقدسة من المشروب الإمبراطوري، والثانية تحمل أسماء الوجبات.
استعمل الشيف وقتاً طويلاً يشرح فيه وقائع العشاء، الذي سيمتد لأكثر من ثلاث ساعات. وحالما انتهى، جاءت إحدى الساحرات وخرّت على ساقيها بعد أن سحبت الباب المنزلق وقدمت الوجبة الأولى، لتعود القهقري وتنحني قبل أن تُغلق الباب مرة اخرى. تماماً، كما كان يفعل الخدم والحشم في خدمة الإمبراطور. لا يُسمح لأحد بإفشاء حجم مؤخرته في حضرة السلاطين، صحيح؟
استمر الحال على هذا المنوال، بطقوس تُشبه تماماً تلك الأمسية المهيبة في مطعم Hyotei في كيوتو.
تألف العشاء من ١٠ وجبات مختلفة كان قوامها الحنطة السوداء في كل مرّة.
استقليت الباص هذه المرّة، في طريق العودة إلى الفندق. والسائق، إضافة إلى الكمّ الهائل من المعلومات التي تُبثّ من مكبرات الصوت، كان، في كل مرّة، قبل أن توقفه إشارات المرور الحمراء يقول: آسف، سأضطر إلى الوقوف قليلاً لإن الإشارة حمراء، هذا سوف يستغرق حوالي الدقيقة. وحين تخضّر الإشارة (في اليابان يقولون إشارة المرور الزرقاء رغم أنها خضراء كما في بقية أنحاء العالم). وقبل أن يقود باصه يقول: سأقود الآن.
أنا من جهتي، سأقود غداً إلى «اوساكا». لا، لن أقود، سأستقل القطار.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد