الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوساكا (٢)، هم الذين يطلقون سراح الشمس

منير المجيد
(Monir Almajid)

2018 / 12 / 20
سيرة ذاتية


في طريق العودة إلى منطقة «اوميدا»، استعدت، على نحو غير متوقع، أحداث الزلزال وما تبعه من تسونامي مدّمر أودى بحياة الناس والمدن في فكوشيما، مُحدثاً شروخاً في مفاعل الطاقة النووي، ليكون ثاني أكبر كارثة عالمية بعد تشيرنوبل.

الزلازل والتسونامي (يعني حرفياً الموجة الكبيرة) ليست جديدة على اليابانيين، الذين عاشوا وتعايشوا مع هكذا كوارث طبيعية، إلا أن المفارقة هي أن تتحوّل إلى كارثة نووية، في بلد هو الوحيد الذي تعرّض إلى هجوم بالقنابل النووية عشية إنتهاء الحرب العالمية الثانية، مؤدياً إلى قتل مئات الآلاف وأعداد مماثلة من مختلف أنواع السرطانات الفتاكة.
مأساة فكوشيما لم تنته منذ عام ٢٠١١، وحتى الآن تُعدّ مساحة كبيرة في المنطقة المحيطة بالمفاعل ملوّثة بالإشعاعات، علاوة على تلويث مياه المحيطات التي وصلت إلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية.
ورغم أن النقاشات المحتدمة حول إغلاق المفاعلات النووية صارت أشد حدّة، فالحكومة اليمينية لا تجرؤ على إتخاذ خطوات فعّالة، في بلد يخلو من البترول.
أنصار البيئة يُنادون بالإستفادة من الطاقة الشمسية على نطاق أوسع، وثم طاقة الطواحين الهوائية وتعاون أوثق مع الدانمارك، الرائدة عالمياً في هذه التقنية.

أذكر جيداً أن فريقاً صحافياً مزوداً بعشرات الكاميرات الثقيلة ربط، تماماً في اليوم التالي للكارثة، مراقباً سيلاً بشرياً من مختلف الأعمار، مصطفين يسيرون بهدوء وهم يحملون قصعات وكأنهم في معسكر اعتقال، إلى مقر يقوم موظفوه بتقديم الطعام لهؤلاء الذين فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم. في الجهة التالية من الشارع الضيق تحطمت واجهات المحال التجارية، بينها سوبر ماركت كان بوسع هؤلاء مشاهدة الأطعمة والمعلبات التي لم تلحقها الأذية ومازالت على الرفوف.
بعد ٢٤ ساعة، لم تُمسّ هذه الأطعمة. لماذا نثق بالمعلومة؟ بسيطة! خبأ الصحفيون الخبثاء كاميراتهم، علّهم يلتقطون صورة لجائع مشرد يسرق علبة غذاء ما.
مقارنة بسيطة مع ما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية من نهب وسرقات إبّان الكوارث، لنتعرف على الفارق الحضاري بين دول الغرب واليابان.

سلكت طريقاً آخر للعودة إلى محطة القطارات «اوميدا»، في شوارع المدينة المزدحمة بالحافلات والناس، ومن هناك استقليت الباص نحو قلعة اوساكا المهيبة في «تشوكُ».
شعرت، وأنا أجتاز المدخل المُحاط بخنادق مائية، بعرق، سرعان ما بَرَدَ، يسيل تحت قميصي من جهة الظهر، بفعل الشمس القوية.
أهمية هذه القلعة ليست بسبب فخامتها فقط، بل بالدور التاريخي الهام الذي لعبته في توحيد البلاد في القرن السادس عشر بسبب ميول صاحبها، جمال عبد الناصر اليابان «هيديوشي تويوتومي» الوحدوية (بناها عام ١٥٨٣) في فترة «أزوتشي موموياما».
عدت إلى المحطة حينما بدأت الشمس تعبث بمزاجي وصعدت، مستعملاً مصعداً درجياً صُمّم مثل أفلام الخيال العلمي، إلى أعلى البناء الرئيسي حيث قام المهندسون والحدائقيون الاوساكيون ببناء حدائق عجيبة فيها ورود وأزهار وخضروات.. وحين نزلت إلى الساحة الخلفية المُحاطة بأبنية شاهقة تزخر بالمحلات التجارية والمطاعم والمقاهي والمكاتب، هناك أيضاً بوسعك الإستلقاء، مع بقية المتنزهين، على الحصر المفروشة برحابة. وحينما فُتحت صنابير البخار هرع الكبار قبل الصغار باللهو، بينما تلصّصت عليهم بالتقاط بعض الصور.

كنت في الحقيقة أنتظر حلول العتمة كي أذهب إلى «اوميدا سكاي بيلدينغ» (هكذا هي التسمية اليابانية أيضاً، لكن بتلك اللكنة الخاصة)، الذي كنت أراه وأنا مستلق هناك.
يتألف البناء من برجين تربطهما الطوابق العلوية، وفي منتصفها فتحة شفافة عملاقة على شكل كعكة. والبناء الذي يُثير الدهشة بسبب الهندسة المتقنة، هو مزار مغناطيسي للمقيمين قبل السياح، خاصة في ساعات الليل، حيث يمكن رؤية المدينة العائمة على ألوان الشوارع والقطارات والأبنية.
إرتفاع المبنى (من تصميم المعماري هيروشي هارا) يبلغ ١٧٣ متراً، وعلى السطح الأعلى تُتاح الرؤية بـ ٣٦٠ درجة. في العام ١٩٨٨ تقرر بناء أربعة أبراج، إلا أن الأزمات الإقتصادية المتتالية التي عصفت بالبلاد قلّصت المشروع الطموح إلى برجين أُنهيا في العام ١٩٩٣.
في المناطق المحيطة بالبناء بُنيت حدائق تخرخر فيها شلالات صغيرة وجداول عليها جسور، بعبورها ترى أسماك «كوي» تتمختر عارضة ألوانها البهية.

بعد الإفراغ من ذاك الصعود إلى سقف المدينة، كدت أموت شوقاً لبيرة مثلّجة.
اخترت السوشي لعشائي، بالرغم من أنني حاولت عدم الإنجراف والوقوع في فخ الكليشيهات.
والسوشي يُتناول في المطاعم، تماماً كما يجب مشاهدة الأفلام في دور السينما. ولهذا تفسير ياباني، قد يبدو مجنوناً قليلاً.
الناس هنا لا يُحضّرون السوشي في البيت، بل فقط لفائف الماكي (أرز وحيوانات بحرية وخضار ملفوفة بصفائح الأعشاب البحرية). لماذا؟ المعروف أن السيدات هنّ اللواتي يطبخن الطعام، وأن درجة حرارة أجسادهن أقل بدرجة من أجساد الرجال، لذا فإن الرجل هو دائماً شيف السوشي. لماذا أيضاً؟ لأنه ينقل درجة حرارة جسمه إلى كتلة الأرز التي يدحرجها بيديه. هكذا!
انتظرت خارج المطعم أكثر من عشرين دقيقة، بعد أن سجّلت اسمي لدى النادلة. وحين حاولت، متلعثمة، قراءة اسم في قائمتها، عرفت أنني المقصود.
بدأت بكأس بيرة أساهي سوبر دراي المصنوعة في اوساكا. وحين جاء الطبق المليء بقطع السوشي والساشيمي المزخرف بطريقة لا يتقنها سوى اليابانيون، طلبت ساكيه محلية أيضاً.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيقاد شعلة دورة الألعاب الأولمبية بباريس 2024 في أولمبيا الق


.. الدوري الإنكليزي: بـ-سوبر هاتريك-.. كول بالمر يقود تشيلسي لس




.. الصين: ما الحل لمواجهة شيخوخة المجتمع؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. إسرائيل تدرس -الأهداف المحتملة- للرد على الهجمات الإيرانية




.. سلاح الجو الأردني ينفذ تحليقًا استطلاعياً في أجواء المملكة م