الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في الثورات والمصائر (3)

منذر علي

2018 / 12 / 20
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


د) مصر
ثمة تماثل وتباين بين مصر تونس. ويكمن التماثل في أنَّ البلدين لديهما جيش موحد، لم ينقسم إبَّان الانتفاضة الشعبية، فيما التباين بين البلدين يكمن في أنَّ الجيش التونسي لم يكن حاكمًا، وإنما كان مساندًا لحكومة بن علي، وقبله لحكومة بورقيبة ، فيما كان الجيش المصري هو الحاكم الفعلي لمصر منذ 1952، وإنْ تغلف بزخرف مدني كاذب.

في تونس كانت هناك تقاليد مدينة راسخة ، وممتدة منذ عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وكان المجتمع التونسي مُنفتحًا على المجتمع المعاصر عن طريق التفاعل الثقافي والاجتماعي ، Cultural and social interaction ، مع الغرب ، وبخاصة مع فرنسا، بفعل اللغة الفرنسية، المنتشرة في المجتمع التونسي ، والهجرة الواسعة إلى فرنسا. وكانت الأحزاب السياسية التونسية ، بما فيها الأحزاب الدينية الكبرى ، كحزب النهضة الإسلامي، نشطة ومنفتحة على الأفكار والفلسفات الحديثة ، بما في ذلك تقبلها الصريح للعلمانية.

ولكن في مصر كانت الحياة السياسية مصادرة منذ 1952 ، وكانت مصر منفتحة هي الأخرى ، ولكن على منابع التخلف والفكر السلفي لدول الخليج، بفعل الهجرة الواسعة إلى السعودية ، عقب تصفية أرث عبد الناصر العظيم ، من قبل أنور السادات ، وتبني سياسة الانفتاح مع القوى الرجعية والامبريالية ، إبان سيادة الطفرة النفطية في مطلع السبعينيات ، وهيمنة سياسة البترو- دولار، Petro-Dollar Policy ، على المناخ السياسي في العالم العربي .

كانت الحركات الشبابية المصرية تكتنفها الرغبة المحرقة في التغير السياسي و الاجتماعي، ولكن ليس لديها الرؤية الواضحة للتغيير ولمضمون التثوير ، فضلًا عن أنها كانت ممزقة، لا تربط بين كياناتها المتعددة ، سوى وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة، كما لا حظ ، بحق المفكر المصري سمير أمين. وكانت الأحزاب اليسارية والقومية مضروبة و منهكة و مهمشة منذ عهد بعيد ، وكانت المؤسسات الثقافية مجوفة من الفكر التقدمي ، وكانت وسائل الأعلام تحت هيمنة الجهلة والمهرجين ، بعد التطويح بقوى اليسار من المؤسسات الأكاديمية والإعلامية، ومنابر الفكر الحر، كمجلة الطليعة والكاتب والفكر المعاصر وغيرها. وكان ثمة تدهور شامل على صعيد الثقافة والفن ، حيث انتشرت الخرافة والتجهيل ، مقابل تقلص الرؤى العقلانية التي بلورها جيل العظماء ، أمثال لطفي السيد وقاسم أمين ، وطه حسين، و زكي نجيب محمود ، وفؤاد زكريا ، ومحمود أمين العالم وغيرهم، وعشية الانتفاضة الشعبية في 25 يناير2011، كانت السيادة للعسكر والتيارات الدينية الغائمة والهائمة في المجتمع المصري.

في تونس ، وقف الجيش محايدًا بين الشعب الثائر والنظام العاثر ، الذي سقط بفعل الانتفاضة الشعبية الظافرة.. الأمر الذي أتاح للقوى السياسية المستنيرة والفاعلة أنْ تنظم نفسها خلال المرحلة الانتقالية ، وتدخل الانتخابات وتشكل حكومة ائتلافية، يسارية إسلامية ، بقيادة المنصف المرزوقي وراشد الغنوشي ، تعبر ، بهذا القدر أو ذاك ، عن إرادة الشعب التونسي ، بمختلف مكوناته السياسية والطبقية ، و وتفتح المجال لتدشين عملية طويلة ومعقدة ومؤلمة لدمقرطة المجتمع التونسي، Democratization of Tunisian society، والولوج في عصري الحرية والتقدم.


في مصر كان الأمر مختلفًا . لقد وقف الجيش مساندًا للسلطة العسكرية الحاكمة، بقيادة حسني مبارك. وحينما شعر الجيش أنَّ مبارك لم يعد مقبولًا في ظل الزخم الشعبي المتنامي ، تخلى الجيش عن مبارك ، و حاول أنْ يُنصِّب بدلًا منه اللواء عُمر سليمان ، رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية ، ولكن هذا الأخير رفضته الموجه الشعبية العارمة ، بسبب ارتباطه الوثيق بنظام مبارك المتهالك ، واضطرت المؤسسة العسكرية للخروج من السيطرة المُستترة إلى السيطرة الظاهرة ، وأوكلت المسؤولية للمجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة ، برئاسة وزير الدفاع ، المشير محمد حسين طنطاوي، بصفته رئيس المجلس العسكري خلال المرحلة الانتقالية ، بين 11 فبراير 2011 وحتى 30 يونيو 2012. كما عيَّن المجلس العسكري الدكتور عصام شرف رئيسًا لمجلس الوزراء ، وهو شخصية مدنية غير كاريزمية ، لإرضاء المنتفضين ، من 3 مارس 2011 وحتى 21 نوفمبر 2011، ثم تلاه كمال الجنزوري من 25 نوفمبر 2011 حتى 25 يونيو 2012.

وبعد المرحلة الانتقالية دفعت المؤسسة العسكرية بالفريق أحمد شفيق ، لدخول الانتخابات العامة ، ولكن هذا الأخير فشل في انتخابات بفارق ضئيل لصالح الدكتور محمد مرسي، القيادي البارز في تنظيم الأخوان ، المسلمين.

وهكذا آلت السلطة السياسية إلى القوى الدينية العمياء ، التي وعدت الشعب المصري أنها ستعالج كل أزماته العضوية، ولكنها ما لبثت أن تركت المشاكل الملحة ، كالجوع والمرض والعشوائيات ، والازدحام والتلوث، وأزمات السكن المتفاقمة في المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية والجيزة ، وسكان المقابر والأزمات المتصلة بالصحة و الاقتصاد والتعليم وغيرها ، و ركزت على حجاب المرأة و عفتها ، وغرقت في صدام شرس مع الفنانة إلهام شاهين ، والراقصة سما المصري، وشريحة واسعة من الفنانين والفنانات ، أمثال عادل أمام ولبنى عبد العزيز وشعبان عبد الرحيم وغيرهم.

فخُلقت أزمة لا مثيل لها ، فسقطت سلطة الإخوان المسلمين ، عبر انتفاضة شعبية أخرى في 30 يونيو 2013 ، تمت بترتيب مُحكم بين الجيش والقوى الرأسمالية الطفيلية التابعة لجماعة حسني مبارك ، ودعم القوى الليبرالية والقومية واليسارية، المناهضة لتوجهات الإخوان المسلمين ، وبإسناد قوي من التيارات الدينية السلفية الموالية للسعودية والإمارات ، وتُوجت بسيطرة الجيش على السلطة مرة ثانية في 3 يوليو 2013.

ولقد سار الجيش على نفس خطى الإخوان المسلمين في خدمة الرأسمالية الطفيلية ، مستعينًا بالقمع و بالدروشة السياسية ، المتلازمة مع الانتخابات المزيفة ، المظفورة بالخروق القانونية والفهلوة ، التي مارسها نظام مبارك والإخوان المسلمون من قبل ، فزعموا أنهم صنعوا "جهاز الكفتة" ، الذي من شأنه أن يعالج الغباء ، ويقنن الربا ، و يشفي مرضى الايدز والوباء، ولكنهم أخفقوا ، بشكل مضحك في حل أي مشكلة . وحينما فشلوا في إقناع الشعب عن طريق السحر والتهريج ، استعانوا بالكرابيج . وعندما أعترض الشعب المصري على السلطة العسكرية الجديدة ، فما كان منها إلاَّ أن قمعت الشعب وأودعت طلائعه النشطة في السجون واتهمت المعارضة الوطنية التقدمية بالمنكر، و غرقت السلطة في أزمة الزيت والدقيق و السكر ، فاضطرت إلى بيع جزيرتي تيران و صنافير إلى السعودية ، بالضد من إرادة الشعب المصري وسلطاته القضائية.

وهكذا فشلت الفورة المصرية التي شارك فيها عشرات الملايين، بسبب العامل الخارجي والعامل الداخلي. فالقوى الخارجية ، وبشكل خاص الأنظمة العربية الرجعية والقوى الامبريالية والصهيونية، المدركة لمركزية مصر في العالم العربي، عمدت إلى استغلال الانتفاضة الشعبية ، بشكل يتناسب مع مصالحها وتوجهاتها الإستراتيجية ، بالضد من مصالح الشعب المصري والأمة العربية، والقوى الداخلية التقدمية كانت متآكلة وشائخة وليس لها قاعدة اجتماعية بفعل القمع والتهميش، خلال عهدي السادات ومبارك، و لم يكن لديها مشروع ثوري واضح، ولم يكن لديها حامل سياسيي منظم ، من شأنه أن يجسد طموح الملايين من المصريين، التواقين للحرية والعدالة الاجتماعية والتقدم. وها هي مصر اليوم ، المنكوبة بالفقر والتبعية للمحور الرجعي السعودي الإماراتي ، والمحاصرة بالإرهاب الداخلي والخارجي ، تتلمس طريقها من جديد ، وفي ظروف غاية في الصعوبة ، من أجل كبح الإرهاب والتحرر من التبعية ، وإسقاط الفاشية العسكرية ، الحارسة الأمينة للرأسمالية الطفيلية ، ومن ثم النهوض بالشعب المصري العظيم، في تلاحم وثيق مع القوى التقدمية في العالم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله ينتقم لمقتل 3 من قادته وإسرائيل تحشد ألوية عسكرية ع


.. التصعيد الإسرائيلي الإيراني يسحب اهتمام الغرب من حرب غزة




.. الأردن يؤكد أن اعتراضه للمقذوفات الإيرانية دفاعا عن سيادته و


.. رئيس وزراء قطر: محادثات وقف إطلاق نار بغزة تمر بمرحلة حساسة




.. تساؤلات حول أهلية -المنظومة الإسرائيلية الحالية- في اتخاذ قر