الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 4

دلور ميقري

2018 / 12 / 21
الادب والفن


وكانت " حسنة " قد أتت إلى المقهى، منتهزةً فرصة ساعة الغداء. بمجرد دخولها، أشارت له إلى الجهة الأخرى من الصالة، أينَ الواجهة الزجاجية، المطلة على رصيف الشارع العام. وكانا معتادين على الجلوس في تلك الجهة، كونها مأمونة أكثر من الأخرى، المشرفة على الكورنيش. لأنه ترك باقي الجماعة في الضاحية، وكانوا يتجهزون للتوجه إلى الشاطئ الرمليّ، الكائن في نهاية هذا الكورنيش. لقد برر عدم مرافقته لهم، قائلاً كالعادة أنه سيتوجه إلى المدينة كي يواصل تسجيل انطباعاته عن معالمها.
فلما حدثته " حسنة "، هنا في المقهى، عن سرّ إجهاضها نفسها، فإنه طفق يدوّر المعلومة في رأسه. إذ سبقَ أن أبلغته " لويزة " بكلام مماثل، وكان ذلك عقبَ كلامه عن ضرورة إنهاء علاقتهما المحرّمة. على ذلك، لم يتمكن من إخفاء ابتسامة متهكمة، لما بادرَ الأخرى بهذا السؤال: " هل فعلتِ ذلك لأجلي؟ ". حدّقت فيه قليلاً، قبل أن تنقل بصرها إلى المشهد الخارجيّ، المقفر من الحركة في ساعة الظهيرة هذه. أدرك من ملاحظته لملامحها الجميلة، التي غشيها شيءٌ من الانزعاج، أنّ سؤاله لم يكن له معنى. بلى، عليه كان أن يتذكّر بأنها هيَ، " حسنة "، مَن كانَ الحارس الأمين لخلواته بعشيقته الأولى. قبل أن يهمّ بالاستدراك، بغيَة إصلاح ما أفسدته عبارته الطائشة، إذا بعينيه تتسعان ارتياعاً: هنالك على رصيف الشارع، كانت صغرى بنات الأسرة تتمشى بخطى بطيئة بينما صفحة وجهها متجهة بإصرار نحو الواجهة الزجاجية للمقهى، حيث الطاولة الوحيدة المأهولة بالروّاد.
طبطبَ على يد العشيقة مطمئناً، مخاطباً إياها بسرعة وهوَ ينهضُ من مكانه: " سألحق بها حالاً. ما عليكِ سوى تأكيد كلامي، بأن للّا منيفة طلبت مني الاجتماع معك لمحاولة حل مشكلتك مع زوجك! ". كانت سحنتها ما تنفكّ ممتقعة، آنَ ردّت بعبارة مقتضبة: " حسناً.. ". ولكنه ما عتمَ أن وجدها مستعيدةً رباطة جأشها، لما عادَ مصطحباً تلك الجاسوسة الخرقاء. حيّت " حسنة " ابنةَ حميها، ما أن استوت هذه إزاء الطاولة، ثم شرعت تقول بنبرة ضاحكة: " تعالي أجلسي، وشاركي أنت أيضاً بالوساطة بيني وبين أخيك "
" كنتُ أتمشى على الطوار، حينَ فاجأني مِن ينادي باسمي "، أجابتها الجاسوسة متكلّفةً بدَورها نبرة مرحة بريئة. وتدخل الوسيطُ المزعوم، ناقلاً بصره بين الغريمتين: " آه، كأنما ثمة اتفاق مشترك بينكما على العبث بأعصابي! "، قالها متضاحكاً. عادت " حسنة " للقول، محذرة إياه بإصبعها: " ربما الأمر كذلك. فأنت سبقَ وأكّدتَ، أنّ لديك ثلاث بنات؛ كبراهن لمى، وأنا الوسطى، فيما الصغرى بيننا مقيمة مع طليقتك في السويد! ".

***
ذلك القناع من البراءة، المنتقل من وجه إلى آخر، لم يكن في وسعه طي صفحة الفضيحة تماماً. ما خففَ من وطأة الأمر، أنّ " للّا منيفة " ساندت رواية صهرها السوريّ، بل واعتبرت نفسها مسئولة عما نتجَ عنها من سوء فهم. ووقفت امرأته أيضاً إلى جانب الوالدة، تشدّ من أزر قناعتها. فقالت قدّام الآخرين، مستخدمة طريقتها المكشوفة في الكلام: " لو كان يبغي غرضاً آخر غير التوسّط، لانفرد معها في الشقة وليس في المقهى! ". عندئذٍ بالكاد استطاع كبت ابتسامته، الساخرة من سذاجة ما سمعته أذناه.
إلا أنه ابتسمَ اليومَ للذكرى، مثلما يفعل المرء أمام كاميرا التصوير. ذلك جدَّ، حينَ وجدَ نفسه في المقهى الآخر، المعتاد على الجلوس فيه نهاراً مع أفراد الأسرة، والذي تصطف طاولاته وكراسيه بانتظام في صدر ساحة المدينة. ولكنه كان وحيداً، يرسل بصره تارةً باتجاه مدخل الزنقة الضيقة، المحتفي في بدايته بمقصف " تاروس "، وتارةً أخرى نحوَ مشهد البحر، المتلاطم الأمواج بين صخور الشاطئ السوداء. قبل قليل، غادره الآخرون من العائلة إلى تلك الناحية؛ إلى سوق السمك، الكائن في المرسى الأثريّ. وكان من المفترض أن يتسوقوا هنالك المزيد من الثمار البحرية، كي تُحمل إلى مراكش بسيارة الصهر الفرنسيّ. لأنّ هذا قرر العودة في صباح الغد إلى المدينة الحمراء مع أسرته، بسبب قرب وصول غروب سياحيّ من فرنسا لديه حجز مسبق في الرياض. " حياة "، سترافقهم بما أنها ستبدأ العمل هناك كطاهية. هذه المسكينة، المنكودة الفأل، قررت العمل عند رجل شقيقتها لقاء أجر زهيد، بالمقارنةً مع ما كانت تحصل عليه في نزلٍ مملوكٍ من لدُن مقيمة من مواطناته.
بالأمس القريب، كان يُظهر عجبه أمام زوجته بشأن قبولها العمل في رياض صهرهم الفرنسيّ ـ كطاهية ـ وبأجر يقل كثيراً عما كانت تتقاضاه من عملها السابق. فشاركته امرأته الامتعاض، مضيفةً: " ويقيناً أنّ ذلك الكَاوري، الجشع، سيجعلها تلم ملاءات السرير وحتى تنظف المراحيض! "
" الحق ليسَ عليه، بل على أنغام... "، قالها دونما أن يتمكن من إكمال الجملة. ففي اللحظة التالية، فتحت " حياة " باب حجرة النوم بطريقة الاقتحام، وطفقت تنقل نظرات كامدة بين الزوجين قبل أن تتمتم: " سمعتُ أشياء لا تعجبني عن أختي أنغام! ". فهدأتها شقيقتها بالقول، أنها ربما لم تسمع جيداً الحديث.

***
في حقيقة الحال، أن تلك لم تكن المرة الأولى، التي يلاحظ فيها تصرفات هذه الفتاة السعيدة بعبوديتها ومذلتها. كان يُمكن التفكير، ولا شك، بنوع من العقدة النفسية الملازمة منذ الصغر فتاة لا تمتلك حظاً من الأنوثة. فلما تقدم بها العُمر، فأضحت عانساً، صار عليها أن تلعب بسرور دورَ الأم الثانية في الأسرة. أسوأ ما في هذه الدورة من حياتها، أن تضع أمام الأغراب قناعَ الأخت المحبة لأفراد أسرتها حتى مَن يستغلون عقدتها لمنفعة خاصة أو يتعاملون معها بتحامل. النوع الأول، عرفناه للتو. وكان على الصهر السوريّ أن ينفض ذاكرته، ليستعيد واقعة جرت على الطريق إلى الصويرة قبل بضعة أعوام. كان الوقت ساعة متأخرة من ليلة صيف، فروا فيها من جهنم المدينة الحمراء. النجوم في الأعالي، كانت تنظر باسمةً إلى طريقة " لوحا " المربكة في قيادة أول سيارة اشتراها؛ وكانت مستعملة، بطبيعة الحال. كان صهره الفرنسيّ يطير أماماً في سيارته الحديثة، آنَ ظهرت بغتة سيارة بوليس واعترضت سبيله. وقفت السيارة الأخرى أيضاً، بغيَة متابعة الموضوع. ثم دلفت " أنغام " بخفة من سيارة زوجها، لتتجه نحو رجل البوليس. الصهرُ الآخر، كان يراقب أيضاً الموقفَ وهوَ جالسٌ لِصْقَ ابن حميه؛ قائد الرحلة. هنا، بادرت " حياة " ضاحكةً من مكانها في المقعد الخلفيّ: " الآن نزلت أنغام، وستحل المشكلة بلمحة واحدة! ". لقد قالتها بطريقة مُداهنة، تثير الغثيان أكثر مما يفعله جامعُ الروث قدّام شخصٍ يهمّ بتناول طعامه.
النوع الثاني، كان يُمثله " لوحا " نفسه، بدرجة أساسية، لكثرة مشاداته مع " حياة " منذ صغرهما . كاتب هذه الأسطر، يتذكّرُ يوماً كان فيه مع أفراد الأسرة في سوق السمك. وكان الجمبري، يومئذٍ، مرتفع السعر على غير العادة. إلا أن " أميل "، الغلام اللجوج، راحَ يلح على والدته كي تشتري ما أسماه بالفرنسية " كروفيت رويال "، حدّ أن أخرجها عن طورها فضربته. وإذا بخالته، العبد السعيدة، تنبر للقول: " لوحا، حينَ كان هنا قبل بضعة أشهر، أشترى الكروفيت وكان سعره أغلى مما هوَ الآن! ". أيدتها والدتها، راسمة على شفتيها ابتسامة رضا عن الابن الفحل.. عمن يأكل الجمبري، لأجل شحن بطارية الفراش الليليّ، فيما هوَ يضن على امرأته بثمن سروال داخليّ!

***
بينما كان يحتسي شراب عصير البرتقال، الذي جاءت به تواً نادل شابة، فكّرَ أنها أيضاً تعمل ربما براتب زهيد، على الرغم من كون ربة عملها امرأة إيطالية. ولعل هذه الأخيرة، المتأقلمة ولا شك مع الظروف المحلية، تنتزع أيضاً البقشيشَ من المستخدمات لديها. أكثر من مرة، تتبعَ الحركة الحذرة لتلك النادل حينَ كان يناولها البقشيش. فقد كانت تلقي نظرة مواربة على ردهة مدخل المقهى، ثمة حيث اعتادت معلمتها على الوقوف لمراقبة المستخدمات. مع سنّها المتقدمة نوعاً، بدت المرأة الأجنبية نشطة لا تكاد ترتاح طوال وقت العمل. كانت تتكلم الفرنسية مع عاملاتها، وجميعهن مغربيات. تراقب بابتسام مشية إحداهن بين الطاولات، مهتزة الردفين بإيقاع مثير: بدا أنها بنفسها من أختار لباس العمل هذا، المكوّن في جزئه العلويّ من بلوز أبيض قصير الأكمام. أما الجزء السفليّ، فمن بنطال أسود، ضيّق، ينسدل عليه من الأمام مريولُ الخدمة ذو الجيب العريض، فيما ربطته تتدلى من وراء إلى شق الردفين فتلطمه طوال وقت الحركة!
ثم أخذ يقلب صفحات الدفتر الكبير، المُسَجلة كلماته بالخط المنمنم والجميل لعشيقته الصغيرة. وكانت " حسنة " قد سارت بجانبه على الكورنيش، تقود عربة طفله، وذلك من لحظة وصولهم مع الموكب العائليّ قادمين من الضاحية في سيارتين أجرة علاوة على سيارة " بيير ". أثار الأمرُ ضيقه حينئذٍ، بالنظر لتفسيره إياه كمحاولة من الأم الكبيرة لإظهار ثقتها به. الأدهى، ما كان من التصرّف الطائش للعشيقة. إذ رداً على قوله هامساً، أنّ المارة قد يظنون أنهما زوجان مع ابنهما، فإنها توقفت فجأة كي تلصق خدّها بخدّه في حركة حنان وامتنان. فكّرَ عند ذلك مرتاعاً، ما لو أنّ أحد أفراد الموكب العائليّ قد التفت إلى الخلف في نفس اللحظة الحميمة.
هكذا آبَ إلى الدفتر، لعله يعثر بين قصصه ما يُساعده على فهمٍ حقّ لشخصية المؤلّفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/