الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


والفوضى نصفها الآخر

علي دريوسي

2018 / 12 / 22
الادب والفن


حدث في إحدى المرات، والشتاء يمارس طقوس جنونه المعتادة، أن اتفق أحمد مع صديقه أمير لزيارة صديق مشترك لهما في قرية "بيت الخطّاب" لتهنئته بعيد ميلاده. كان أحمد قد تعرّف إلى أمير في السنة الجامعية الأولى، رآه مصادفة قرب مدخل الجامعة، حيث كان أمير يستند بقامته الرشيقة الناحلة إلى الجدار الزجاجي لموقف الباص، لم تكن ولادة صداقتهما أمراً هَيِّناً بل كانت عسيرة، بعد عدة لقاءات وأحاديث كثيرة في مقاصف الجامعة اكتشفا مقدار انسجامهما في الكثير من الرؤى والمواقف الإنسانية والمعرفية.

هناك في غرفة صديقهما شرعا، وهما ما يزالا على لحم بطنيهما، بشرب النبيذ الأحمر المز كأساً تلو الآخر، بين الرشفة والرشفة تهف النفوس للتبغ، فتدور السجائر وتحترق الشفاه، وتسخن الدماء ويتغلغل الخمر في العروق، وتشتعل الرؤوس الخام بالغضب، وتنسحج الأسنان قهراً، بين الجرعة والجرعة تنتفض الأحزان من أفرانها على أنغام الشيخ إمام وخالد الهبر وآهات النوّاب، والكلمات الشعرية الأولى التي راح ينطق بها صديقهما، وعلى صدى الحكايات الثورية الحامية التي تعبق بحرارة عميقة لا يحسها إلا من عاش في رحم تلك الأجواء أو على مقربة من نبعها.

مضت الساعات بسرعة وصوبا الحطب في ذروة اللهب والاشتعال، والشاي الأسود يجيش ويتخمّر في الأبريق المعدني الكبير، والبخار المتصاعد يفعم الأنوف برائحته الطيبة ويعبق في جو الغرفة، فجأة هجم المساء الأسود كئيباً، واشتدَّ العويل الذئبي للريح مصحوباً بالبرد والرعد والمطر، تماماً في تلك اللحظة وقد أثملهم الخمر جميعاً قرّر أحمد وأمير مغادرة المكان الدافئ والعودة للنوم في المدينة الجامعية ولو مشياً على الأقدام، كان الوقت قد تأخَّر فعلاً كي يحظيا بوسيلة نقل تقلهما من تلك القرية النائية التي تبعد أكثر من ساعة سفر عن مشارف المدينة.

أبى رأساهما الدائخان المعاندان الانصياع لنصيحة الصديق في البقاء وإمضاء الليل في غرفته، نهضا مترنحين مبلبلين والسغب قد هدّهما ومشيا باتجاه مفرق ضيعة "بيت الخطّاب"، هناك وقفا بانتظار سيارة عابرة على أمل أن يرضى صاحبها بأخذهما في طريقه، مرّت بضع ناقلات زراعية وسيارات خاصة، كان معظمها متخماً بالركاب، مرّت أكثر من ساعة تقيَّأا خلالها أكثر من مرة، ازداد إعوال الريح ومعه ازدادت حاجتهما للطعام والنوم والدفء، ثم حصلت المعجزة حين فرملت على محاذاتهما سيارة بيك أب، حكومية بيضاء تابعة لإحدى مؤسسات الدولة، فتح السائق نافذته ودعاهما للصعود إلى جانبه.

في السيارة شعرا بالدفء ينفذ إلى خلايا جسديهما، ما هي إلا دقائق معدودات حتى أشعل أحمد سيجارته وطفق يلعن ويسب الرجعية العربية والإمبريالية، ثم انتقل لانتقاد الفقر والخوف والجوع وكم الأفواه والسجون دون مناسبة، تطوَّر مونولوجه فانتقد سياسة التعليم ورئاسة الجامعة وسرقات رئيسها ومكاتب المخابرات والهيئات الحزبية والإدارية فيها، في الوقت الذي راح فيه أمير يلكز بكوعه خاصرة أحمد كي يقفل فمه ويخرس، بل وصل به الحال أن وشوشه بأذنه بأن علائم الانزعاج والقلق بادية على وجه السائق الخمسيني وأنه قد يسلّمهما في أية لحظة إلى أقرب فرع استخباري. لم يأبه رأس أحمد المُلَبَّد بالنبيذ المُسكِر بكلمات أمير، تجاهله وأشعل سيجارته الثانية وبدأ بانتقاد الدولة والاستهزاء بالنظام الحاكم والاستبداد المُطبق، بقي السائق صامتاً، كانت عيناه مصمغتين على الطريق المحفّر.

خمَد لهب النار في رأس أحمد دون أن ينطفأ جَمْرُها، هدأ غضبه لما بانت أضواء المدينة وتلك اللافتة المشعة بالكلمات الأربع "لاذقية العرب ترحب بكم"، كان أمير في قرارة نفسه قد استكان للأمر الواقع وقطع الأمل بالوصول الآمن، ولعله لعن في سره فوضوية أحمد الرخيصة التي قد تقضي عليهما في هذا المساء البارد، وراح يستعد في مخيلته لتحمل أوجاع الكابلات الرباعية التي ستهوي بعد قليل على جسديهما دون رحمة، وصلت السيارة إلى دوّار فوّاز بالقرب من السكن الجامعي، طلب أمير من السائق أن ينزلهما على الرصيف، شكره وسأله عن أجرته، أغفله السائق، لم يعطه اهتماماً وكأنّه لم يسمعه بفعل هدير المحرك.

مضت السيارة مسرعة باتجاه دوّار هارون وسومر، ثم انعطفت يساراً باتجاه محطة القطار، حينها استيقظ أحمد من سكرته، راحت السكرة وجاءت الفكرة، حاول فتح باب السيارة والقفز منها لكن بابها بقي موصداً، صار مهموماً ساهماً، تغيّر لونه إلى الأصفر وراحت عيناه ترجوان السائق ألا يفعلها، كان قد خمَّن بالأمر العظيم القادم، ها هي السيارة تتمهَّل في مسارها، ها هي بوابة فرع الأمن الدولي المرعبة بادية للعيان، ها هي السيارة تتجاوز البوابة دون أن تتوقف وتندفع بسرعة عالية نسبياً باتجاه مركز المدينة، ها هو قوس النصر في حارة الصليبة قد بان، فرمل السائق سيارته ثم طلب منهما النزول، نزلا غير مصدّقين، أخرج أمير جزدانه من جيبه وسأل السائق عن أجرته، ارتّسمت ابتسامة خفيفة على وجهه المتعب وقال لهما بصوتٍ حزين: لا أريد منكما مالاً، أريد فقط أن تنتبها إلى شبابكما، الحياة جميلة وبيضاء رغم السواد، والحرية أجمل.

فيما بعد ظنَّ أحمد نفسه قد اتَّعظَ من الدَّرْس الذي أملاه السائق عليهما، واعترّف في قرارة نفسه بفوضويته اللامحتملة، لكنه لم يندم على فعلته تلك أبداً، مرّت السنوات وارتكب المزيد من الأغلاط الخفيفة ولم يندم، فقد كان ما يزال في طور التعلم وجمع التجارب التي سيحتاجها في حياته لاحقاً.

لكن أحمد لم يتعلم من جيبه كما يقولون، فقد اقترف الحماقة ذاتها تقريباً في بلد آخر وبظروف مشابهة. لم يكن قد مضى على وجوده في مدينة دورتموند أكثر من سنة حين دُعي من قبل زميل له لحضور حفلة مسائية صغيرة، سيقيمها في غرفته الطلابية في السكن الجامعي، بمناسبة نجاحه في دورة اللغة الألمانية.

يومذاك كان شتاء مُثلّجاً، وصل أحمد في الموعد المُحَدَّد حاملاً بيده زجاجة نبيذ كهدية رمزية اشتراها من من محطة وقود مجاورة للسكن الطلابي، ولم ينس أن يموِّن نفسه بعلبة سجائر إضافية، لم يكن بحوزته إلا خمسين ماركاً، دفع الحساب وبقي معه تسعة وثلاثين ماركاً، كانت الحفلة دافئة والشراب متنوعاً ووافراً، شربوا جميعاً وتمازحوا وتضاحكوا وتضاموا وثرثروا حول أشياء تافهة، استمعوا إلى موسيقى أجنبية إلكترونية غير مفهومة ورقصوا على أنغامها مسرورين، انتصف الليل وما زال مزاجهم رائقاً وشهيتهم للشرب والسجائر والرقص في تصاعد.

كان أحمد محبوراً باللَّمَّة المختلطة، في الساعة الثانية ليلاً تفرَّق المدعوّون، كان معظمهم يعيش في السكن ذاته أو في البنايات الطلابية المجاورة، جرع أحمد آخر ما في الكأس، كان رأسه مصدّعاً، أشعل سيجارة واِستأذنَ من زميله في الذهاب إلى الكوريدور لاستخدام الهاتف العام كي يطلب التاكسي الذي قد يقله إلى الطرف الآخر من المدينة، ودَّع صاحب الحفلة وخرج من السكن لينتظر التاكسي، في الخارج لفحته الريح الباردة، شعر بثقل رأسه وفقدانه لتوازنه، أصابه دُوار ورغبة شنيعة بالتقيؤ.

وصل التاكسي، صعد إليها، تمنَّى للسائق صباحاً جميلاً ورجاه التوجُّه إلى عنوان غرفته في ضاحية هيردي، جلس دون أن ينبس بكلمة، بينما أخذت عيناه تتابعان قفزات عدَّاد السيارة الملعون بقلقٍ لا مُسوِّغ له، تذكّر أن في جيبه مبلغاً لا يتجاوز الأربعين ماركاً وحسب، ها هو عدّاد إظهار أجرة الرُّكوب يسابق هواجس أحمد، عشرة، خمسة عشر، عشرون، خمسة وعشرون، ثلاثون، اثنان وثلاثون ... والسيارة تنهب الارض وما زالت بعيدة عن هدفها والطرقات تعانقها من الطرفين غابات موحشة غير مأهولة، تتمايل أشجارها العالية تحت سياط الريح، خمسة وثلاثون، سبعة وثلاثون، ثمانية وثلاثون ... وقبل أن يقفز العدَّاد اللئيم إلى المبلغ الحرج "تسعة وثلاثون"، صرخ أحمد: توقف فوراً من فضلك.

هلع السائق من هول المفاجأة، فرمل سيارته بلطف وهمس قائلاً: لم نصل بعد إلى العنوان يا سيد، المنطقة هنا قَفْر لا أُنْس فيها والمطر لا يرحم. أجابه أحمد: لا عليك هذا شأني. تناول من جيبه المبلغ المتبقي، حشره في يد السائق وتابع طريقه مشياً على الأقدام، مشى مترنحاً دائخاً وفخوراً بقراره، مشى لأكثر من ساعة والبرد ينخر عظامه قبل أن يصل إلى غرفته، وهو يحثّ خطاه لاحت على شاشة تأملاته ما حدث معه في ضيعة "بيت الخطّاب" قبل سنوات، زنخر بابتسامة بائسة: لا أصدّق ما يحدث معي أحياناً، لكني لن أندم طالما أني لا أؤذي أحداً، سأندم فقط إذا ما ضيَّعت سبيلي. ومع جلجلة الرَّعْد المخيف جلجل هو الآخر بضحكته وكأنّه قد أمسك أخيراً طرف الخيط الذي دأب يبحث عنه، هجس في سره: إذا كانت ممارسة النظام هي نصف الحياة كما يقول لنا معلم اللغة الألمانية، فإن الفوضى بالتاكيد هي نصفها الآخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا