الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 6

دلور ميقري

2018 / 12 / 25
الادب والفن


" سنلتقي هنالك، في برج السقالة "
استدركتُ قائلاً قبل أن تستديرَ هيَ نحوَ مدخل الزنقة، المحصورة بين السورين البحريّ والداخليّ، والمشكلة ممراً للقلعة الأثرية. لم أتأثر خطوها، وذلك بهدف إضفاء المزيد من الحذر على اللقاء. بعد دفع الحساب، نهضتُ سائراً باتجاه السوق كي ألتف من هناك إلى الجهة المقصودة. لما أضحيتُ تحت ظلال شجرات الكاوتشوكة، أصدى في داخلي أصواتُ موسيقى وجلبة مهرجان الحلم ذاك، وكان قد رقد بين طيات الذاكرة منذ صبيحة اليوم التالي لوصولي إلى الصويرة. رافقتني الأصوات، وكانت هذه المرة جزءاً من واقع المكان: من صف المقاهي العتيقة، الضاجّة بالأغاني المحلية؛ من الأفواه الضارعة للمتسولين المحترفين والمتشردين شبه المجانين؛ من الألسنة اللاذعة للمدمنين وأضرابهم المنحرفين؛ من خلطة اللغات، الصادحة بها جموعُ السيّاح والمقيمين الأجانب.
ثم تابعتُ السيرَ عبرَ الدروب الضيقة والملتوية، المزدحمة بالمتسوقين والمتسكعين والجوالين، لأراني في قلب القصبة، أينَ مسجدها وأبنيتها المنيفة. في منتصف الزنقة الرحبة، المتصلة بين السوق وقنطرة السقالة، كان يقوم ذلك الرياض، " دار الكردي "، الذي لفت اسمه نظري قبل ما يقارب الخمسة أعوام، ليغدوَ لاحقاً بؤرة الحدث في التذكرة الأولى للسيرة المراكشية. هنا أيضاً، كانت الجدران تختزن أصوات الخلق الآتية من زمن آخر: صياحُ التجار في المزادات اليومية، المشرف عليها ممثلو المخزن؛ صراخ النساء من خلف نوافذ بيوتهن، المقتحمة من لدُن جنود الباشا ومرتزقته؛ أنين العبيد الأفارقة والأسرى الإفرنج، المترنحين فوق الأرضية الحجرية مع أثقال أرجلهم الحديدية؛ دبيبُ أخفاف الجمال، المحمّلة ببضائع البلد وهيَ في طريقها للمرسى كي تُحمل من هنالك على ظهر السفن المتجهة إلى بلاد الكفار، أو أخواتها القادمات تواً من ذلك المرسى ناقلةً بضائع السفن الواصلة للتو.
ولجتُ السقالة من خلال تلك القنطرة، المفضية للقصبة، لتزكم أنفيَ رائحةُ مخلفات السكارى ممن يقضون حاجتهم هنا ليلاً. ما أن جاوز خطوي المدخل، إلا ومشهدُ زنقةٍ مفتوحة من السور الداخليّ تعيدني ثانيةً إلى أجواء الحلم نفسه، طالما بدت كالقبو بالسقف الواطئ والجدران المتسعة الجوانب علاوة على العتمة المطبقة. ثم ما لبثتُ أن تنفست بارتياح، بتلقيّ هواء البحر المنعش علاوة على ضوء الشمس، المتغلغل في السقالة اعتباراً من مدخلها الآخر، الأشبه بمنزلق حدائق الأطفال ( الزحليقة ). ثمة، في أعلى المدخل، كانت " أميرة " متكئة على الحافة الحجرية الواطئة، تتأمل لوحات مسنودة على الجانب المقابل لموقفها. حينَ صرتُ في محاذاتها، نقلتُ نظرةً شاملة على اللوحات وصاحبها. مع أنه كان في حدود الأربعين من عُمره، فإنه ذكّرني باليهوديّ؛ مساعد " مسيو جاك "، ومَن آل إليه الجانب الأكبر من أرثه الفنيّ.
" هلم ندخل بسرعة، لأن الوقتَ يدهمنا "، قالت لي قبل أن تمضي لتجتاز قنطرة مدخل البرج. سارت إذاً، مهتزة الردفين على وقع خطواتها الواثقة وطبول داخلي الخفية. حق لي أيضاً التساؤلُ سراً، ما لو كان بنطالها المثير قد خُصِصَ لمناسبة هذا اللقاء الطارئ. وكأنما شاءت الإجابة، حينَ توقفت فجأة داخل الردهة الضيقة، المؤدية إلى سطح القلعة عبرَ بضع درجات. كدت أن أصطدم بها من وراء، ما جعلها تبتسم بمكر. هكذا خرجنا إلى النور مجدداً، ليواجهنا مشهدٌ مهيبٌ آخر وهذه المرة لمجموعة كبيرة من المدفعية المضادة للسفن بسبطاناتها المتآكلة، المتجهة نحوَ البحر خِلَل فتحات السور. في نهاية الممشى، كان ثمة حجرة أسطوانية الشكل لاحَ أنها كانت مخصصة لمناوبة الحراس قديماً.
" سأجلس في الداخل، لأنها لا تتسع سوى لشخص واحد..! "، قالتها بشيء من الغنج. حتى اللحظة تلك، لم أستطع التكهن بلغز هذا اللقاء. فخاطبتُها في داخلي، متشككاً: " وماذا بعدُ، يا نسيبة المستقبل؟ ". أخذتُ مكاني على طرف الردهة الأخرى، المغلق مدخلها بسياجٍ حديديّ. على الأثر، مضت الثواني ببطء دون أن تصدر نأمة عن أيّ منا. صرنا كما لو أننا جزء من لوحة الطبيعة الصامتة، المرسومة بريشة الشمس. بينما النسيم البحري يتلاعب بشعر كل منا، ليشكله حسبما شاء. ولكنها قطعت الصمت، لتقول في رصانة: " لما رأيتك بغتة ثمة، في تراس المقهى، أحسستُ كأنما كنتَ بانتظاري كي تُساعدني "
" دعيني أشاركك أيضاً ذلك الاعتقاد! "، أجبتها بلا وعي تقريباً. تلاشى حماسها، أو هكذا خيل إلي، آن تمتمت بصوت هامس: " حسناً ". عاد السكون للمكان. تشاغل كلانا بالنظر بعيداً إلى الأفق، المقابل لموقفه. ثم أدرت صفحة وجهي باتجاه الردهة الأولى، وكأنني أتوقع أن يظهرَ منها رأسُ شخصٍ ما. وهذا ما حصل، فعلاً. فما عتمَ أن دلفَ من ذلك رجلٌ قاتم السحنة، عظيم الهامة ـ كعملاقٍ بدائيّ في أحد التماثيل الخشبية، المصبوغة بالغراء البنيّ الغامق، والتي يبيعها المهاجرون الشبان الأفارقة في سوق المدينة.
" نعم، سوف أدخل في الموضوع رأساً "، قالتها بعجلة وهيَ تنحني أماماً لتحملق في عينيّ. ثم استرسلت بعدئذٍ في الكلام، إلى أن أوقفها ذلك التمثال الأسود: " أعذرني، لو أنني سأتحدث بشكل سلبيّ عن شخصٍ أعرفُ مقدار اعتزازك بصداقته. ويعلم الله، أنّ ‘ حامي ‘ عزيزٌ عليّ أكثر. وإلا لما كنتُ قد وثقت فيه، بل وما سمحت للآخرين أن يعدونه بمثابة خطيبي. العيوب، قد تتسلل للإنسان من ثغرة وحيدة في خلقه. وأعرفُ ألا أحد من الناس خالٍ من العيوب، لأنها مشيئة الله في خلقه. وعيب صديقنا، مع الأسف، هوَ الجشعُ وحب المال. إننا أصدقاء منذ قرابة العامين.. أعني، أنا وهوَ! وطوال تلك الفترة، دأبَ على كنز المال، مستغلاً طيبة من تثق فيه وتعدّه خطيباً! بالأمس، أعلمني أنني غير مرغوبة من قبل والدته وأنه لا يستطيع مخالفة إرادتها.. أوه، ماذا جاء به الآنَ؟ ". ثم سكتت، ملوحةً يدها في انزعاج واضح. أخذتُ بدَوري بالمفاجأة، معتقداً أنّ الخطيبَ الهاربَ قد أضحى في مرمى بصرها. وكان عبثاً إدارتي وجهي إلى ناحية المدخل، كون المعنيّ الحق قد هيمن بجرمه فوق خلوتنا.
" هذا الشيف سيمو، زميلنا في العمل بالفندق "، قدّمت لي الرجل بنبرة مهزوزة. ثم عقّبت، بأن الرجل عليّ: " دلير، نسيبُ حامي، وهوَ سوريّ يعيش في السويد.. ". أحنى الرجلُ رأسه بحركة مسرحية، فيها الكثير من التبجيل. فكّرتُ، أنه ربما يود التعبير بذلك عن تضامنه مع شعبنا في محنته، المستمرة منذ ما يزيد عن العامين. ولكنه سألني بحذر: " السيّد، نصراني؟ "
" لا، إنني كرديّ الأصل "، أجبته بوضوح. إلا أنّ المفاجأة الكبرى، التي جعلت فمي فاغراً لنحو دقيقة، تمثلت في تعليقه المرفق بابتسامة متكلّفة: " آه، كرديّ من سورية؟ يال لها من مصادفة غريبة! فإنّ ربيبتي، المقيمة الآنَ في ألمانيا، هيَ من أبٍ سوريّ كرديّ ". دوّرت في الأثناء كلامه في ذهني، قبل أن أنطق في صعوبة سؤالي: " أظنها ابنة فرهاد، مَن حضرتكَ عنيتها؟ ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة