الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النص التاريخي بين التنظير و سطوة الايديولوجيا

ايهاب نبيل

2018 / 12 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


النص التاريخي بين التنظير و سطوة الايديولوجيا
إن النص كبناء لغوي هو معبر عن رؤية المؤرخ و أسلوبه و روحه من خلال ما يكتبه في أي حقبة زمنية ، لكن يبدو النص كوحدة أشمل و أعم من مجرد تركيب لغوي – سهل أم معقد – اذ يظهر امامنا بنية متماسكة تحوي بداخلها مكوناته و مشتملاته ، أي بناء لغوي معبر عن واقع ملئ بالتناقضات في حالة جدلية دائمة من حيث هو مصدر للأخبار عن ذلك الواقع ؛ لذلك يعتبر المؤرخ الفرنسي هنري مارو" أن النص التاريخي هو كل مصدر للإخبار يتمكن من خلاله المؤرخ من استخلاص شئ ما من أجل معرفة الماضي البشري ، فهو وثيقة مكتوبة تساعد على قراءة و فهم الظروف التاريخية التي أفرزتها و تعبرعن نتاج فكري أصيل شاهد على فترة من فترات الماضي" ؛ لذا فكان على المؤرخ ليس فقط كتابته و طرح رؤيته بل تلك الرؤية تستلزم الولوج داخل واقع هذا النص و سبر اغوار مكوناته وهي البناء الاقتصادي الاجتماعي وآثاره السياسية و الثقافية و المعرفية ؛ لكي يتمكن من من حقيقة عمله وهي النفاذ ما وراء النص.
اذن من الضروري اولاً التفرقة بين مكونات النص التاريخي و مشتملاته ، فالمكونات هي الوعاء الحاضن او الظروف الموضوعية التي خلقت النص على هيئة تراكيب لغوية معبرة عنه حيث الواقع المادي الجدلي و ما يترتب عليه من بيئة تحمل سمات ثقافية و معرفية معينة ، أما مشتملاته فهي السمات العامة التي يتناولها النص من موضوعات سواء تناول موضوع سياسي أم حضاري.
لكن عندما نأتي إلى رؤية المؤرخ الفاحص للنص فإننا نتحدث عن صاحب ايديولوجيا فضلًا عن الجانب الابستمولوجي ، فهو يحاول قراءة النص و تفسيره مستخدمًا معطيات منهجه القائم على تلك الأيديولوجيا ، و كما نعلم أن مناهج تفسير التاريخ متعددة ما بين رؤية ماركسية متمثلة في المادية الجدلية التاريخية أو التفسير الديني أو التفسير الإثني القائم على الشعوبية ، أو مناهج الحداثة و ما بعدها في عصر سيادة الرأسمالية بأنماطها المختلفة التي تمثلها البنيوية أو التفكيكية و الظاهراتية ، فضلًا عن مدارس التحليل النفسي الداعمة في قراءة النص التاريخي و ابرز من مثلها فرويد و ألفريد أدلر و ايريك فروم ، و من ثم يظهر هنا دور الأيديولوجيا لتمثل اداة فاعلة لقراءة النص ، خصوصًا ان طبيعة الموضوع هي التي تحدد طبيعة المنهج مثلما أقر ميشيل فوكو .
عندما يتعرض المؤرخ لتناول النص التاريخي بالدراسة و التحليل فإن أول ما ينتبه إليه المؤرخ الفاحص النابه هو البيئة الحاضنة لذلك النص ، تلك البيئة هي مكونات النص أي الواقع المادي المتمثل في البناء السوسيو- اقتصادي و السوسيو- سياسي ، و يتخذه كمرشد له على حلحلة الاشكالية التي يواجهها أثناء قراءته للنص ، إلا انه عادة ما تظهر عدة مشكلات ، اعتبر اخطرها هي تلك المتعلقة بالأيديولوجيا التي سرعان ما تفرض نوع من السطوة المنهجية على المؤرخ ، فتنزلق به إلى مزالق تبعده تمامًا عن التناول الصحيح للنص التاريخي ، و تزيد من الاشكالية التي يقوم بمعالجتها ، الأمر الذي يترتب عليه آثار أخرى تقذف به إلى اللاتاريخية و الانغماس في أطر هامشية معزولة عن واقع النص ، و الاهتمام بالمصطلحات الحداثية المبهرة – التي عادة ما تتصل بالعلوم الأنثروبولوجية – على حساب الوقائع التاريخية المراد تناولها و تحليلها و الوصول إلى نتائج أقرب إلى الصواب نسبيًا ، و اعتقد أن مرد ذلك إلى اسباب عدة افند منها ما يلي :
أولًا) البعد عن التاريخية بمعنى أن يستغرق المؤرخ في الكشف عن السمات العامة التي يتحدث عنها النص ( المشتملات) عن طريق تبني المناهج الحداثية التي أفرزها نمط الانتاج الرأسمالي و هي المتمثلة في البنيوية أو التفكيكية و الظاهراتية و غيرها ، خاصةً اذا كان موضوع النص متعلق بنواحي حضارية أو سياسية ، فيتم تفكيك النص إلى افكار منفصلة ثم يعجز المؤرخ عن تجميع الأفكارمرة أخرى ، و يظهرها في سياق منعزل عن وعاءه الحاضن له و هو الواقع التاريخي.
ثانيًا) الانبهار بالمدارس الحداثية و ما بعدها في الغرب الرأسمالي وصف الفيلسوف و الناقد الأدبي الأمريكي فريدريك جيمسون ما بعد الحداثة بأنها المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة ، و ازدادت تلك الهيمنة الفكرية على المؤرخين – خصوصًا الشرقيين – بعد عولمة الرأسمالية كنمط للانتاج ؛ ليشيع منظروها المصطلحات المبهرة و النقدية التي توظف في قوالب تصلح للأدب و الثقافة و الأنثروبولوجيا و جعلها عن عمد بعيدة عن أطرها التاريخية ، غاضين النظر عن الواقع المشكل حتى لكل ذلك البناء الفوقي ؛ لذا اعتبر ذلك نوع من التآمر المعرفي و توجيه لحركة سير الأحداث التاريخية من الصراع الطبقي الاجتماعي إلى تهميش البناء التحتي و اعتباره ثانويًا ، تحت زعم و ادعاء زائف بأن العوامل الاقتصادية ليست هي الوحيدة المنوطة بتفسير التاريخ ، و وصفها بأنها الماركسية العتيقة البالية التي يجب تجديدها ، أو ما وصفه بورديو بالعوامل الرمزية و الثقافية التي تساهم في تغيير التراتبية الطبقية للمجتمعات!!!
ثالثًا) سطوة الأيديولوجيا و هي الأخطر و الأهم فمن الضروري أن يكون المؤرخ صاحب أيديولوجيا تعبر عن رؤيته و دوافعه لتناول النص التاريخي بالتحليل و القراءة ، لكنها في نفس الوقت تجعل المؤرخ أسيرًا لها ، غير قادر على ادخالها في مجال العقل الجدلي الواعي ، بل تجعله ان يقوم بأخطر عملية انحراف منهجيًا و معرفيًا و أكثرها حماقة وهي تطويع واقع النص ؛ ليتماهى مع ايديولوجيته حتى يثبت أنه توصل إلى نتائج علمية لا يقطعها الشك ، فضلًا عن أنه يلوي عنق النص و ينطقه ما لا ينطق به ، و هذا ما عبر عنه بول هاميلتون بوصفه الراديكالية التاريخية ، و مآل ذلك هو سطوة الأيديولوجيا من حيث تكوين رؤية مسبقة من قبل حتى قراءة النص جيدًا و تفنيد مكوناته و محاولة استقراءه ، بحيث تصبح الاستنتاجات مصبوبة في قوالب جاهزة تقدم للقارئ ، هذا الأمر يفضي بالضرورة إلى عدة نتائج خطيرة على المستوى المنهجي و الابستمولوجي ، منها اتصاف منهجه باللاتاريخية و البعد عنها ، و اعتساف الأحكام التاريخية الناتجة عن لي عنق النص و تطويع الواقع لخدمة أيديولوجيته ، التحريفية التي تؤدي إلى الوقوع في تهمة التآمر المعرفي .
فلنعط مثالًا على تلك الحالة عندما يقوم مؤرخ ماركسي بقراءة نص تاريخي يرجع إلى فترة تاريخ العصور الاسلامية ، فإنه قبل محاولة الاستقراء الفاحصة و الناقدة يكون قد كون رأي شبه نهائي و نتائج شبه نهائية ، عن طريق استخدام المادية التاريخية دون وعي كامل بالديالكتيك الخاص بها ، أي دون تشريح البيئة الحاضنة للنص في فترته الزمنية ؛ لأنه تعود أن يرجع كل الأسباب و العوامل إلى العوامل الاقتصادية فقط ، و عزلها عن المحيط الاجتماعي البشري و تطوره الذي هو أحد المكونات ، فضلًا عن الأوضاع السياسية و تأثيرها القوي على الأحداث التاريخية ، فنلاحظ تناوله للنص بشكل ميكانيكي لا يفرق بين المراكز و الأطراف في العالم الاسلامي ، و لا يضع في حسبانه انماط الانتاج المختلفة في أقاليم العالم الاسلامي ، خصوصًا أن تاريخ العالم الاسلامي اتسم بوجود اكثر من سلطة سياسية حكمته و هي الخلافة العباسية في بغداد و الفاطمية في مصر و المغرب و الخلافة الأموية في الأندلس ، و الدويلات المستقلة في المشرق و المغرب السنية و الشيعية في مختلف الفترات و الحقب الزمنية ، لكن هذا لا يعني القول بالقطيعة الابستمولوجية بين المشرق و المغرب ، بل على العكس دراسة العالم الاسلامي كوحدة واحدة تساهم في حلحلة اشكالية استقراء واقعها التاريخي ، إلا أن المؤرخ الأسير لدى ايديولوجيته الماركسية يخلط نمط الانتاج الأساسي بالهامشي دون محاولة التفرقة بينهما ، و استسهال الاستنتاج بدلًا من سبر اغوار الواقع المكون للنص و محاولة تشريحه وفقًا للمادية التاريخية في شكلها الديالكتيكي الحركي .
ربما يتساءل القارئ للمقال لماذا ضربت مثالًا بالمؤرخ الماركسي دون أي ايديولوجيا اخرى؟ لا لشئ إلا الموضوعية لكي لا أظهر بشكل المنحاز الدوغمائي للماركسية التي اتبناها منهجًا و رؤية للعالم و تاريخه ، اضافة إلى أنه بالفعل كثير من المؤرخين الماركسيين الأرثوذكسيين جعلوا من ماركس وثنًا و صنمًا لا يجوز الحيد عن عبادته ، و جعلوا من هذا البناء المنهجي الفلسفي التاريخي العظيم عقيدة جامدة و ادخلوا تمثال ماركس حجرة قدس الأقداس و السجود امامه ، فعلى سبيل المثال فماركس نفسه عندما نشر بحثه الخاص عن نظرية نمط الانتاج الآسيوي في الشرق ، فهو أخطأ بشأن تقدير ملكية الأراضي و جزم بانتفاء الملكية الخاصة بالأرض عند العرب في شبه الجزيرة العربية ، وهذا بالطبع راجع إلى عدم معرفته الكاملة بالمصادر العربية و الاطلاع عليها بشكل وافي .
هذا يجترنا إلى نماذج المؤرخين السوفييت في الحقبة الستالينية التحريفية ، و حقبة انتصار الرأسمالية و فرض انماطها فيما بعد الحرب العالمية الثانية و التي شهدت أيضًا صعود تيارالفلسفة البرجوازية لتفسير التاريخ ، الذين صاغوا النصوص التاريخية في شكل سكولائي مدرسي اشبه بكراسات طلاب الثانوية العامة في وقتنا الحالي ، بالاضافة إلى بعض المؤرخين و الباحثين الماركسيين العرب الذين ينتقون و يجتزئون نصوص مختارة عن أبي ذر الغفاري و علي بن أبي طالب ومقتل الحسين بن علي و حركة بابك الخرمي الأذربيجانية التي حدثت في عصر الخليفة المعتصم العباسي ، و تصوير كل تلك النماذج على انها حركات اشتراكية رافعة لواء الثورة الاشتراكية ؟!! ، و كأنهم رفعوا شعارات المطرقة و المنجل !! ، فالانتقائية في النماذج التاريخية المختلفة و تطبيق عليها نفس الظروف الموضوعية ، يؤدي إلى الوقوع في فخ التزيد والتعميم ، ثم الآفة الأخرى و هي الظاهراتية في تفسير النص الأمر الذي يفضي إلى أحكام و نتائج مبتسرة شكلًا و موضوعًا .
خلاصة القول فالنص التاريخي هو معبر عن الماضي ، اذن فيجب تحليله في ضوء ظروف الماضي لا في ضوء ظروف الحاضر ، و بمنهجية علمية قائمة على دراسة مكونات البيئة الحاضنة له و هو الواقع المادي ، و تناوله بشكل جدلي اعتمادًا على التراكم الابستمولوجي الذي انتجه هذا الواقع التاريخي ، و تم تسجيله في الوثائق و المصادر و على العملات و المسكوكات و الكتب ، التحرر من سطوة الأيديولوجيا – أي عدم جعلها دوغما - هي عامل أساسي و مهم في عدم تحريف سيرورة و صيرورة الحركة التاريخية ، فماركس الأمين الذي رصد واقع العالم بصدق و منهجية علمية رصينة رأى بأن الايديولوجيا هي كل فكر لا يستجيب لواقعه ؛ لأن الأيديولوجيا وحدها بمعزل عن الواقع هي ليست علمية ، و ليست واعية طالما لم تستعرض نشاط الانسان و عملية تطوره المادي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحقيق مستقل يبرئ الأنروا، وإسرائيل تتمسك باتهامها


.. بتكلفة تصل إلى 70 ألف يورو .. الاتحاد الفرنسي لتنمية الإبل ي




.. مقتل شخص في قصف إسرائيلي استهدف سيارة جنوبي لبنان


.. اجتماع لوكسمبورغ يقرر توسيع العقوبات الأوروبية على إيران| #م




.. استخراج طفلة من رحم فلسطينية قتلت بغارة في غزة