الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاحتجاج بالموت حرقا.

فريد العليبي

2018 / 12 / 25
مواضيع وابحاث سياسية



يُواصل التونسيون حرق أنفسهم بشكل مُروع ، فالنيران لا تزال تلتهم الأجساد ، ‏و اللحم الآدمي المشوي ما زالت رائحته تتنقل من مدينة إلى مدينة ، و من قرية ‏إلى قرية ، و آخر ما سُجل إقدام كهل خمسيني في مدينة قرمبالية على ذلك ، و ‏قبل هذا بفترة وجيزة قامت فتاة قيروانية في العشرينات من العمر بالفعل نفسه ‏، فالانتحار حرقا أصبح ممارسة طقوسية يتمتع فيها الرجال و النساء ، و على ‏غير العادة ، بالمساواة التامة‎ .‎
و في غالب حالات الانتحار تلك ، هناك اختيار دقيق للمكان ، فمن البوعزيزى ‏المحترق أمام الولاية في سيدي بوزيد ، إلى كهل قرمبالية المحترق أمام المحكمة ‏، هناك بحث عن رمزية المكان لإبلاغ رسالة ، مضمونها في الحالة الأولى أن ‏الحكام لا يسمعون ، و في الثانية أنهم لا يعدلون ، و بين الحالتين هناك ‏رسائل دامية أخرى‎ .‎
و ما ينطبق على المكان ينطبق على الزمان أيضا ، فالانتحار حرقا يتم نهارا ‏غالبا ، أي في أوقات تكون فيها الرؤية ممكنة و العيون مفتوحة ، حتى ترى ‏المشهد الفظيع ، فالنار المشتعلة في الجسد المحتج سرعان ما تجلب إليها جموعا ‏من البشر، التي تتحلق حولها و قد اعتصر قلوبها الألم‎ .‎
الانتحار المشهدي مطلبه الاحتجاج ، و لا نجاح له إذا لم يؤثر في المحيطين ‏بالضحية ، التي بقدر ما تنجح في إبلاغ رسالتها ، بقدر ما تحول معها من هم ‏من جنس اضطهادها و قمعها ، من لحظة الإحساس الغريزي بالظلم ، إلى لحظة ‏الوعي الأولى بوطأته ، و هذا الدرس المجلل بالدم قد لا تنجح خطب الساسة و لا ‏كتب الفلاسفة في إيصاله للمعنيين به باليُسر المنشود. ‏
ربما كان الانتحار حرقا أقسي درجات الانتحار إيلاما ، و قد احتاج البوعزيزى ‏أياما بلياليها قبل أن ينجح في مفارقة العالم الذي احتج ضده ، أما الكهل في ‏قرمبالية فقد كان يتقلب في ألمه و الناس من حوله ، و هو عار إلا من تبان ، ‏شاكيا فقره و ظلم مشغله الذي اتهمه بالسرقة ، فالمقهور يجد نفسه على حافة ‏الهاوية فيلجها في لحظة غضب عارمة ، فهو يحتج على الظلم بالموت ، أي ‏بأعلى أشكال الاحتجاج الذي يمكن لفرد الإقدام عليه .‏
لم يصدر التونسيون إلى العالم خلال انتفاضتهم فقط شعارهم : الشعب يريد ‏إسقاط النظام و إنما أيضا الانتحار حرقا ، فقد غزت هذه الظاهرة بلدان كثيرة ‏أخرى ، أصبح لتونس فيها باع و أتباع ، و في أسطرة الانتفاضــة التونسية يسود ‏الاعتقاد أن كل شئ قد بدأ بعود ثقاب‎ .‎
و اليوم كما بالأمس القريب يزداد إيقاع طقس الانتحار ، حتى أن قرية العمران ‏البوزيدية هددت بتنفيذ انتحار جماعي يوم عيد الأضحى ، إذا لم يُطلق سراح ‏المساجين من أبنائها ، و لا شئ يفيد أن هذا الإيقاع الحزين سيتوقف قريبا ، ‏فبرميل البارود بما يحتويه من فقر و قهر و ظلم لا يزال يتجول في أرجاء ‏الوطن باحثا عن صاعق ، و غير بعيد عنه يشتعل عود ثقاب هنا و عود ثقاب ‏هناك ، فيولد حرائق جزئية قد تتحول إلى حريق عام و انفجار عظيم ‏‎ .‎
خلال الانتفاضة التونسية تحدث " علماء نفس " عن عدوى الانتحار و " رجال ‏دين " عن النفس التي يملكها الله وحده ، والتي لا يجوز لصاحبها التفريط فيها ‏بقرار، حتى أن البوعزيزى بعد الاحتفاء به كأيقونة للحرية ، و تمجيد بطولته ، ‏أصبح لدى البعض من هؤلاء كافرا يستحق اللعنات فمثواه جهنم ، و لكن طالما ‏ظل جرح الاستغلال و الفقر و الظلم مفتوحا فإن الاحتجاج بالموت حرقا ‏سيتواصل ، قبل أن يصبح ممكنا معرفة ما إذا كان ذلك كاف لمقارعة قبضة ‏الجلاد ؟ ‏
ملاحظة : كتبت هذا النص في 10 نوفمبر 2012 وهو وارد في كتابي : الربيع العربي والمخاتلة في الدين والسياسة ...بعد 6 سنوات تغير وضع تونس الى ما هو أسوء








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتساع رقعة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية للمطالبة بوقف فو


.. فريق تطوعي يذكر بأسماء الأطفال الذين استشهدوا في حرب غزة




.. المرصد الأورومتوسطي يُحذّر من اتساع رقعة الأمراض المعدية في


.. رغم إغلاق بوابات جامعة كولومبيا بالأقفال.. لليوم السابع على




.. أخبار الصباح | مجلس الشيوخ الأميركي يقر إرسال مساعدات لإسرائ