الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اوروبا تدخل في دورة للزلازل الاجتماعية

جورج حداد

2018 / 12 / 26
العولمة وتطورات العالم المعاصر


إعداد: جورج حداد*


هناك الكثير من المراقبين السطحيين الذين "فوجئوا" بالتحركات الاحتجاجية الشعبية الاخيرة في اوروبا، التي ـ حتى الان ـ اتخذت طابعا اكثر عنفا في فرنسا وفي باريس خاصة. وبعض هؤلاء المراقبين يعتقدون ان هذه التحركات ما هي سوى موجة عابرة ذات اهداف سياسية ـ انتخابية لا اكثر ولا اقل.
ولكن هذه الموجة هي اعمق بكثير مما يبدو على السطح. وقد لاحظ المحللون انها تتصف بثلاث مميزات هي:
الاولى ـ انها انطلقت بشكل عفوي مفاجئ بدون الارتباط بأي حدث سياسي بعينه.
والثانية ـ ان الدعوة اليها لم تتم من قبل اي حزب محدد او نقابة محددة او جبهة احزاب او نقابات. وان القائمين بها هم مواطنون من مختلف الاتجاهات والانتماءات السياسية والفكرية، من اليسار واليمين والوسط و"غير المنتمين"، انطلقوا بشكل عفوي للتعبير عن غضبهم.
والثالثة ـ ان القضية المركزية التي جمعت هؤلاء المحتجين هو التعبير عن الغضب ضد التدهور المعيشي بمختلف اشكاله.
كل ذلك يعني ان هذه الموجة ليست تعبيرا عن سياسة اي حزب معين، او عن ازمة سياسية معينة، بل هي تعبير عن ازمة النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ السياسي القائم.
وهي ليست ازمة جزئية وعابرة، بل ازمة شاملة ودائمة.
ويمكن التوقف عند النقاط التالية:
ـ1ـ ان النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ السياسي الغربي بمجمله يعيش على شفير الهاوية. وهو يستمر في العيش بفضل الاستمرار في نهب شعوب البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة السابقة في اسيا وافريقيا واميركا اللاتينية. وكانت بوادر الانهيار ظاهرة للعيان في اواخر القرن الماضي. ولكن انهيار المنظومة السوفياتية اعطى النظام الغربي "جرعة تغذية" جديدة تمثلت في قيام الاحتكارات الرأسمالية العالمية بنهب البلدان الاشتراكية السابقة بشكل وحشي لا سابق له. وتتوجت هذه العملية بتدمير وغزو صربيا في 1999. ولكن نهوض روسيا القومية ـ الاورثوذوكسية بقيادة فلاديمير بوتين وضع حدا لهذه العملية، واعاد الكتلة الغربية الى التخبط بالأزمة الوجودية لنظامها الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ السياسي.
ـ2ـ في 2008 انفجرت الازمة المالية ـ الاقتصادية في اميركا، وانعكست بشدة على اوروبا. ولكن اميركا استطاعت الخروج من الازمة المالية الخانقة عن طريق نظامها المالي ذاته الذي يسمح لها بزيادة الدين العام للدولة وطباعة كمية اضافية من الدولارات الورقية بدون تغطية ذهبية، وهي ميزة تتمتع بها اميركا وحدها في النظام المالي العالمي. اما اوروبا، التي انعكست عليها بشدة ازمة 2008، فإنها عالجت الازمة مؤقتا عن طريق القروض الكبرى التي قدمها صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الاوروبي والدولة الالمانية الى الدول الاكثر تضررا (وخاصة اليونان واسبانيا) حتى لا تنهار تلك البلدان وينهار خلفها الاقتصاد الاوروبي بمجمله.
ـ3ـ في 2014 وبعد وقوع الانقلاب الفاشستي في اوكرانيا، المعادي للروس ولروسيا، والمدعوم من قبل اميركا، انفجرت الازمة الروسية ـ الاوكرانية، التي انتهت باعادة ضم شبه جزيرة القرم الى الوطن الام روسيا والى انفصال مقاطعتين في جنوب شرق اوكرانيا هما دونيتسك ولوغانسك واعلانهما كـ"جمهوريتين شعبيتين" مستقلتين (غالبية سكان المقاطعتين هي من الروس والناطقين بالروسية). وحاولت اوكرانيا المستحيل لاسترجاعما بالقوة، ولكنها فشلت فشلا ذريعا امام بسالة المتطوعين الشعبيين في "الجمهوريتين".
وردا على هذا الفشل للسياسة الغربية المعادية لروسيا وللروس، عمدت اميركا الى سياسة فرض العقوبات الاقتصادية ضد روسيا. وقبل ان يتعافى الاقتصاد الاوروبي من الازمة المالية لعام 2008 اضطرت الدول الاوروبية مكرهة على السير كالتابع خلف اميركا ومجاراتها في سياسة العقوبات ضد روسيا. ولا شك ان روسيا تأثرت جزئيا بالعقوبات الا ان وضعها العام كان "يا جبل ما يهزك ريح". وقد ردت روسيا بتدابير جوابية، خصوصا على صعيد استيراد المواد الغذائية والمنتجات الزراعية مما اصاب الاقتصادات الاوروبية باضرار كبيرة اكبر بما لا يقاس من الاضرار التي اصابت الاقتصاد الروسي.
ـ4ـ وبعد مجيء ترامب الى البيت الابيض انسحب من "الاتفاق النووي" مع ايران واعاد فرض العقوبات الاقتصادية ضد ايران. وبالرغم من معارضة الحكومات الاوروبية للانسحاب من "الاتفاق النووي" الا ان الشركات الاوروبية الكبرى اضطرت الى مقاطعة ايران حتى لا تتعرض هي ذاتها للعقوبات الاميركية. والخاسر الاكبر في هذه العملية كان ايضا اوروبا والاقتصاد الاوروبي.
ـ5ـ بفعل هذه العوامل جميعا فإن الاقتصاد الاوروبي العام، ولا سيما القطاعات الانتاجية الصناعية والزراعية، بدأ في الانكماش والتقهقر، ولم تعد تنفع معه جميع العلاجات المالية المؤقتة.
والان تعمل الشرائح السياسية الاوروبية الحاكمة لمعالجة الازمة التي يشتد خناقها على الدول والشعوب الاوروبية.
وهذه الشرائح السياسية، بمختلف اتجاهاتها اليمينية والوسطية واليسارية، المحافظة والليبيرالية، انما هي تمثل مباشرة او غير مباشرة، الطبقة الرأسمالية الاحتكارية صاحبة السلطة الفعلية. ولهذا فإن الاجراءات الاصلاحية التي تقوم بها الشرائح السياسة الموجودة في الحكم، لمواجهة الازمة المالية ـ الاقتصادية، تحرص على ان لا تمس مصالح الطبقة الرأسمالية الاحتكارية، بل ان تصونها وتدافع عنها. وهذا ما يفسر السياسة الغبية، اللااجتماعية واللاانسانية، التي تنتهجها الشرائح السياسية الحاكمة لمواجهة الازمة، والموجهة بشكل عام ضد الجماهير الشعبية الواسعة وتتمحور حول زيادة الضرائب على الاستهلاك الشعبي، وتخفيض الاجور والمعاشات التقاعدية، وتقليص الميزانيات المخصصة للخدمات كالصحة والتعليم والبنية التحتية، والتوجه نحو خصخصة القطاع العام كالاستشفاء والاتصالات والمواصلات العامة والمياه والكهرباء الخ.
وكنتيجة منطقية لهذه السياسة اللاانسانية واللاوطنية، جاء اليوم الذي طفح فيه كيل الغضب الشعبي فانفجر بشكل عفوي وتلقائي بدون اعداد لا من حزب ولا من نقابة.
وبدأ الانفجار الشعبي في العاصمة الفرنسية باريس، ثم عم المدن الفرنسية الاخرى، ثم انتقل الى بلدان اوروبية اخرى كبلجيكا والنمسا واسبانيا واليونان وصربيا. ولكن اعنف الاحتجاجات جرت حتى الان في باريس. وبلغ عدد القتلى في فرنسا منذ اندلاع الاحداث 7 اشخاص هم ضحايا الرأسمالية المتوحشة. وفي احد ايام الاحتجاجات بلغ عدد رجال الشرطة والدرك اكثر من 90 الفا، وانزلت السلطات المصفحات لقمع المتظاهرين، وبلغ عدد الجرحى اكثر من 750 جريحا وعدد المعتقلين اكثر من 2000 معتقل في يوم واحد.
وليس هناك حتى الان اي اجراء يرضي الجماهير الغاضبة ويهدئ غضبها، بل ان السلطات تفكر في كيفية "تحسين" الاساليب القمعية وتفكيك صفوف الجماهير الغاضبة عن طريق الوعود الكاذبة والتضليل.
ان الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الاوروبية والشرائح السياسية التي تمثلها هي عاجزة عن حل الازمة المالية ـ الاقتصادية التي تعانيها. وقد دخلت اوروبا في دورة زلازل اجتماعية ـ سياسية. ولا احد يستطيع التنبؤ كيف ستتطور الاحداث في القارة العجوز بعد الان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أهلا بكم في أسعد -أتعس دولة في العالم-!| الأخبار


.. الهند في عهد مودي.. قوة يستهان بها؟ | بتوقيت برلين




.. الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تزداد في الجامعات الأمريكية..


.. فرنسا.. إعاقات لا تراها العين • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أميركا تستفز روسيا بإرسال صورايخ سراً إلى أوكراينا.. فكيف ير