الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في الثورات والمصائر 4

منذر علي

2018 / 12 / 26
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


هـ) سوريا


سوريا تشغل موقعًا هامًا في الإستراتيجية الدولية والشرق أوسطية. فسوريا مُتصلة بريًا بالعراق وعبره بإيران ، و متصلة جغرافيا بالأردن وعبره بالسعودية والكويت وقطر والإمارات وعمان واليمن ، و متصلة بريًا بتركيا وعبرها بأوربا ، و هي متصلة جغرافيًا بلبنان والكيان الصهيوني، بكل ما يترتب على هذه الأبعاد الجغرافية من أهمية اقتصادية و سياسية وعسكرية.


يمكن لدول الخليج أن تقرر ، بالتوافق ، و تمد أنبوبًا للغاز أو للنفط ، من قطر الغنية بالغاز ، أو من السعودية الغنية بالنفط ، عبر الأراضي السعودية والأردنية إلى سوريا، ومنها إلى تركيا ، ومن تركيا إلى الأسواق النفطية في الدول الأوربية، الشرقية والغربية ، وكسر ظهر روسيا الاتحادية ، المُعاقبة اقتصاديا من قبل الغرب ، والمحاصرة عسكريًا من قبل حلف الناتو التوسعي.


ومن جهة أخرى ، يمكن أبقاء الوضع كما هو عليه ، أي إتاحة الفرصة لروسيا تسويق غازها ونفطها إلى الغرب دون منافسة قاتلة من الدول الخليجية ، المرتبطة بشكل بالإستراتيجية الغربية. كما يمكن، في الوقت ذات ، توصيل أنبوب للغاز وآخر للنفط ، من إيران ، الغنية بالغاز، والعراق، الغنية بالنفط، إلى سوريا ، ومنها إلى لبنان وتركيا ، ومن تركيا إلى أوربا ، بالضد من رغبة روسيا في ظروف سياسية مختلفة، أو بالتنسيق مع روسيا الاتحادية ، الغنية هي الأخرى بالغاز والنفط ، والحارسة والمساندة للنظام السوري والإيراني ، والمتحالفة مع الصين والهند في قارة آسيا.


وبالتالي التحكم بسوق النفط والغاز في أوربا والعالم ، ومحاصرة الأنظمة الخليجية ، ولجم النفوذ الأميركي على الغرب الأوربي، وتقليص تمدده في الشرق الأوربي ، وخاصة في بولندا ودول البلطيق و أوكرانيا . هذا فضلًا عن إمكانية تدفق السلاح بيسر من دول الخليج إلى الأردن وعبره إلى القوى المناهضة للنظام السوري ، وفي ذات الوقت تدفق السلاح من إيران عبر العراق إلى سوريا ومنها إلى حزب الله في لبنان ، بكل ما يمثله ذلك من خطر ماحق على الكيان الصهيوني التوسعي.


هذا هو الأمر الجوهري، الذي حدا بالقيادات السياسية الصهيونية إلى التفكير الجدي بتقويض الدولة السورية، باعتبارها الحلقة الواصلة بين إيران وحزب الله في لبنان، وخاصة عقب انتصار الأخير في حرب 2006 على الكيان الصهيوني. وهو الأمر ذاته الذي دفع الدول الامبريالية كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا المساندة لإسرائيل لإسقاط النظام السوري.


وفي نفس الوقت هو الأمر ذاته، الذي حدا بالقوى الرجعية في الخليج أنْ تسعى لإسقاط النظام السوري القائم ، وإقامة كيانً طائفيً مطواع ، يلبي تطلعاتها ، وتطلعات أسيادها، الإمبرياليين والصهيونيين، الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية. وهو ذات السبب الجوهري الذي دفع كل من حزب الله و إيران والعراق و روسيا الاتحادية للوقوف بثبات إلى جانب النظام السوري.


وكان لابد لهذه الرغبة الصهيونية الملحة أنْ تلتقي مع رغبة القوى الرجعية الخليجية المستباحة ، وبشكل خاص السعودية وقطر، ومع الرغبة الأمريكية والبريطانية والفرنسية المساندة للكيان الصهيوني والأنظمة الخليجية ، ومع رغبة النظام التركي ، العضو البارز في حلف الناتو ، والمتطلع بقوة إلى التوسع واستعادة أمجاد إمبراطورية العثمانية ، فضلًا عن كبح جماع النزعات التحررية للشعب الكردي، وخاصة حزب العمال الكردستاني ذو التوجه اليساري.


لم تكن مجموع هذه التوجهات العدوانية ، الأمريكية والأوربية والصهيونية والتركية والعربية ، ضد سوريا جديدة ، فهي قديمة قدم الكيان الصهيوني ذاته، ولكن خلال العقود الماضية ، تمكنت سوريا ، تحت القيادة الاستثنائية للرئيس حافظ الأسد، أن تعزز من أجهزة سلطة القمع في الداخل ، وتكبح نشاط المعارضة، أو تحتويها ، وتقيم تحالفات خارجية ذكية ، استطاعت من خلالها ، وبمهارة فائقة ، أن تناور وتلعب على المحاور، وتقيم تحالفات خارجية إستراتيجية ، لصد المؤامرات المحدقة بسوريا، التي كانت تحاك حولها بقوة منذ زمن طويل ، وخاصة عقب رفضها اتفاقية كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978، والاستمرار في دعم حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية.


غير أنَّ سقوط المعسكر الاشتراكي في التسعينيات، وموت حافظ الأسد في 2000 ، والانفتاح النسبي الذي أعقب موته، وانتعاش القوى الطفيلية ، وتنامي نفوذ المعسكر الرجعي والامبريالي، وطهور الانتفاضات الشعبية المشروعة ، التي عُرفت بالربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن ، وغيرها من العوامل ، شجعت القوى المناهضة للنظام السوري في الداخل ، سواء التي كانت لديها مطالب مشروعة، وتسعى إلى تحسين الأوضاع المعيشية، وتقليص الفساد والهيمنة الطائفية ، وفتح آفاقًا رحبة للحرية والتقدم ، أو تلك التي تسعى لتحقيق غايات غير مشروعة ، وتشمل القوى السياسية ذات التوجهات الانفصالية ، والقوى الدينية ، الطائفية العمياء، المنسقة، في مجموعها، بوعي أو بدون وعي ، مع القوى الخارجية المعادية ، المتربصة بالدولة السورية، ضمن مشروع استراتيجي أوسع لحماية الكيان الصهيوني ، ومحاصرة إيران وحزب الله وروسيا الاتحادية.


وهكذا تم الشروع في تنفيذ العملية التآمرية في مطلع ربيع 2011، استغلالًا للانتفاضة الشعبية المشروعة التي انطلقت في مارس 2011 في بعض المدن السورية ، مطالبة بإطلاق الحريات للشعب والإفراج عن المعتقلين السياسيين ، وتحقيق بعض الإصلاحات السياسية. ولكن في الوقت الذي أراد الشعب السوري وقواه الديمقراطية التقدمية، بوجدان ثوري عظيم إسقاط الفساد وتحقيق بعض الإصلاحات السياسية من خلال تلك الانتفاضة ، إلاَّ أنَّ القوى السياسية، التي تصدرت المشهد ، كانت، في الغالب ، متسلحة بفكر عقيم لا تدرك الملابسات المعقدة للوضع القائم ، الأمر أتاح للقوى المعادية ، الداخلية والخارجية، تذرعت بالدفاع عن مطالب الشعب النبيلة ، أنْ تختطف الثورة السورية ، وتسعى إلى التطويح بالدولة السورية وخدمة المشاريع الرجعية والصهيونية التوسعية.


إنَّ التركيبة الاجتماعية السورية أكثر تعقيدًا من بقية دول الربيع العربي الأخرى، فضلًا عن القوى المحيطة بها ، كما سبقت الإشارة . فسوريا، متعددة الأعراق والديانات. هناك العرب المسلمون والمسيحيون ، ويمثلون أكثر من 90% ، وهناك الأكراد ويمثلون 5% . وهناك أقليات أخرى، كالسريان والأشوريين والشركس والتركمان والأرمن. وهناك المكونات الطائفية الإسلامية المتنافرة ، كالسنة والشيعة و الدروز. وهناك الانقسامات السياسية الداخلية. وهناك التهديد الخارجي كالصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني ، والخلافات السياسية القديمة ، مع كل من الأردن ولبنان وتركيا، التي أمكن للقوى الخارجية أن تلعب عليها و تعزف على أوتارها الحساسة ، بغية توسيع الانقسامات الداخلية واستغلالها و تقويض الدولة السورية من الداخل.


غير أنَّ سوريا على عكس دول مثل اليمن وليبيا ، فسوريا لديها نسبة ضئيلة من التكوين القبلي ونسبة عالية من المجتمع الحضري ، ومنفتحة أكثر على العالم المعاصر. ولئن كانت سوريا تفتقر إلى حياة سياسية نابضة كتونس ، غير أنَّ لديها جيش قوي وموحد . وضع الجيش السوري يشبه مصر وتونس ، ولكن سوريا تختلف عن تونس في أنَّ جيشها الموحد ليس محايدًا كتونس ، وهي تختلف عن مصر في أنَّ جيشها الموحد ليس فقط جزءًا أصيلًا من الحكم القائم ، ولكنه مزيج من الجيش الطائفي المُتمكن والجيش" المُسيس " ، army Politicized، المُتحكم ، في إطار حزب البعث الحاكم، والجبهة الوطنية التقدمية.


وهكذا ما أنْ انفجرت الانتفاضات الشعبية المشروعة في سوريا ، حتى شرعت القوى السياسية الداخلية في الانتحار ، وتوزعت ، تحالفًا وارتباطًا وعمالة، ما بين السعودية وقطر ، وتركيا وأمريكا وإسرائيل وعزرائيل، وسعت ، بمزيج من الجهل والوعي، لتدمير الدولة السورية ، و كانت السلطة السياسية على وشك أنْ تسقط في يد الدولة الإسلامية " داعش"، ولكنها نجت بثمن باهظ، بعد تشريد الملايين ومقتل ما لا يقل عن 400 ألف إنسان ، وتدمير المدن السورية ، وتقويض البنية التحية . و أصبحت سوريا ممزقة ، بفعل النفوذ المتزايد للقوى الخارجية ، ك"الجيش الحُر" والدولة الإسلامية ، وجبهة النُصرة ( هيئة تحرير الشام) ، المدعومة من قطر والسعودية وإسرائيل وتركيا وفرنسا وبريطانيا ، و القوات الأمريكية الداعمة للقوى الكردية الانفصالية ، و القوات التركية، المتذرعة بحماية الأقلية التركية في سوريا، ومواجهة الأحزاب الكردية.


واليوم و بعد سبع سنوات من الحرب والدمار ، يبدو أنَّ سوريا تتعافى ، فقد تمكن الجيش السوري ، والمنظمات المسلحة المساندة له ، وبمساعدة وازنة من الطيران الروسي ، من استعادة مدينة حلب ، والغوطة الشرقية ، ودرعا ، وانجاز بعض الترتيبات الخاصة في إدلب ، وحصر الجماعات المسلحة المعادية في أماكن محددة يمكن محاصرتها والقضاء عليها.
وقد تعززت قوات الجيش السوري مؤخرًا ، بعد حصوله على صواريخ S300 الروسية، التي مكنته من صد الهجمات الإسرائيلية المتكررة على سوريا.


وهناك مؤشرات على انسحاب القوات الأمريكية من سوريا ، كما أعلن يوم 19 ديسمبر 2018، وعلى تفاهم ما ، متوقع مع تركيا ، كما لمح وزير الخارجية التركي مؤخرًا . وعلى الصعيد العربي هناك اعتراف متزايد بأهمية سوريا ، كما تجلى ذلك من خلال زيارة الرئيس السوداني، الفريق عُمر البشير ، إلى دمشق في 16 ديسمبر 2018، وتوقع زيارة الرئيس العراقي ، الأستاذ برهم صالح ، إلى دمشق ، في الأسابيع المقبلة ، وزيارة اللواء علي المملوك ، رئيس مكتب الأمن الوطني في سوريا ، إلى مصر ولقائه بالوزير عباس كامل ، رئيس جهاز المخابرات المصرية في 22 ديسمبر 2018 ، وتحسن العلاقات مع الأردن مؤخرًا ، فضلًا التواصل القائم مع كل من الجزائر وتونس و سلطنة عمان ومصر، ألاَّ أنَّ التحرر النهائي من آثار الحرب المدمرة التي عصفت بسوريا على مدى سبع سنوات ليس بالأمر السهل . إذ قد يستغرق ذلك عشرات السنين، بالنظر إلى موقع سوريا الاستراتيجي ، وإلى موقف القوى الرجعية والصهيونية المحدقة بسوريا ، التي مابرحت قائمة ومتآمرة، تترصد الدولة السورية وتكيد لها كيدا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية على مستوطنين متطرفين في الضفة الغربية


.. إسرائيلي يستفز أنصار فلسطين لتسهيل اعتقالهم في أمريكا




.. الشرطة الأمريكية تواصل التحقيق بعد إضرام رجل النار بنفسه أما


.. الرد الإيراني يتصدر اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية




.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن