الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التساؤلات الوجودية الكبيرة – 2 -

جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)

2018 / 12 / 28
الطب , والعلوم


التساؤل الوجودي الأول الذي طرحه البشر على أنفسهم منذ أن ظهرت ملكة التفكير والوعي عندهم هو : هل الله موجود؟ بالطبع لم يكن التساؤل بهذا الوضوح في البدء بل كان على شكل تخيل وجود قوة أو كائن أعلى ذو قدرة كلية يتحكم بمصير الكائنات وبالتالي يجب الخضوع له وتقديم القرابين وإبداء مظاهر الخشوع والخشية والخوف من غضبه وعقابه من خلال الطقوس والشعائر. أما تعبير " الله" والخالد " يهوه" والرب الأب الذي تجسد في المسيح المخلص، حسب ما صاغته الأديان الإبراهيمية التوحيدية الثلاثة الرئيسية " اليهودية والمسيحية والإسلام، في كتبها المقدسة كالكتاب المقدس التوراة أو العهد القديم والأناجيل والقرآن وملحقاتها، فقد تبلور على نحو متأخر ، حيث سبقت الأديان حضارات قديمة كانت لها رؤيتها الخاصة لــ " الآلهة" وليس لإله واحد ، منذ السومريين والآشوريين والبابليين والفراعنة مروراً بالإغريق وانتهاءاً بالهندوسية والبوذية ــ التي لا تتحدث عن إله خالق ــ وأديان الشرق في الهند والصين المتخمة بالأساطير والخرافات. وما يزال البشر يطرحون هذا السؤال وهم في نهاية العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين. ليس بوسع أحد تقديم إجابة قطعية مثبتة بالدليل على وجود أو عدم وجود " إله خالق ، مهما كان إسمه" لأن ذلك شبه مستحيل في الوقت الحاضر. فالأديان تتحدث عن " كينونة " عليا متسامية خارج المكان والزمان الماديين ، سماها البعض المهندس الأول، أو المصمم العظيم، وأطلقت عليها الأديان تسمية " الله" الذي هو " إيل" في الحضارات الرافدينية القديمة" قام بخلق السماوات والأرض في ستة أيام كما تروي لنا الأساطير الدينية الخرافية، كما خلق الجحيم والفردوس أو الجنة، التي لا ندري أين توجد، هل هي على الأرض أم في السماء؟ وهل لها وجود خارج الكون المرئي أم على إحدى الكواكب؟ كما تخبرنا الأديان التوحيدية أن هذا " الإله" الخارق ، خلق كائنات أخرى هي الملائكة والشياطين والجن وغيرها وهي ذات قدرات وإمكانات خارقة أيضاً، قبل أن يقرر، ولا ندري لماذا، أن يخلق بشراً ضعيفاً فانياً، هو الإنسان الأول ، كما تقول الأسطورة الدينية ، واسمه " آدم " ومن ضلعه أو معه ، خلق الأنثى " حواء" وأسكنهما الجنة ، ومنعهما من الاقتراب من شجرة المعرفة وأكل ثمارها ، وكانا يتمتعان بالخلود كما تروي أسطورة سفر التكوين، إلا أنهما عصيا الأمر الإلهي وتناولا الثمرة المحرمة ، وهي الخطيئة الأولى كما يسميها المسيحيون، مما أغضب خالقهما وأنزلهما إلى " الأرض" عقاباً لهما وعرضهما للموت والعذاب والمعاناة والعمل الشاق للبقاء على قيد الحياة ومواجهة أخطار الطبيعة وما فيها من كائنات أخرى خلقها نفس " هذا الخالق" ومنها حيوانات مفترسة ونباتات سامة ، وبكتريا قاتلة الخ... وملأ البحار والمحيطات بمختلف الكائنات من الصغيرة للغاية إلى العملاقة كالحيتان ، ونفس الشيء على اليابسة من البعوضة إلى الفيل والديناصورات الضخمة وهي موجودة على الأرض حتى قبل خلق البشر بملايين السنين كما تقول النظريات العلمية. ولا ندري لماذا اختار الأرض من دون باقي الكواكب التي تعد بمليارات المليارات في مجرتنا درب التبانة لوحدها، فما بالك بعدد الكواكب الموجودة في باقي المجرات التي تسبح في أرجاء الكون المرئي ويصل تعدادها التقريبي إلى 200 مليار مجرة ، وكل مجرة تحتوي على 200 إلى 300 مليار نجمة مثل شمسنا أو أكبر منها بملايين المرات أو أصغر منها، فهي من الحجم المتوسط الاعتيادي المبتذل ولا يميزها عن غيرها سوى كتلتها وقدرتها على الاحتراق وتوليد الطاقة التي تستهلك مع مرور الوق حيث سوف تموت في نهاية المطاف بعد 5 مليار سنة تقريباً كغيرها من النجوم التي ولدت وعاشت واندثرت عبر الزمن وهي تصل إلى مليارات المليارات من النجوم التي ماتت منذ نشأة الكون المرئي قبل 13.8 مليار سنة، فالأرض كوكب عادي جداً لا قيمة له في المنظومة الكونية فلماذا ختاره الله وأولاه مثل هذه الأهمية؟. فهناك الواقع الملموس على الأرض وفي النظام الشمسي ، أي الشمس وكواكبها، وبقية النجوم وكواكبها وأقمارها، وهناك " الماوراء الغيبي المجهول" حيث " يوجد " الله " والكائنات التي تسبح بحمده وتخدمه بلا كلل أو توقف أو اعتراض أو احتجاج ، وجاءت الأديان ، وهي قطعاً من اختلاق البشر أنفسهم ، لتدعي أنها على اتصال بهذا " الماوراء" من خلال الرسل والأنبياء " وأنها قادرة عل تقديم الإجابات على كافة التساؤلات الوجودية لأنها تمتلك الحقيقة المطلقة. والمدهش في الأمر أن مليارات البشر ، على مر التاريخ، صدقوا، وما يزالون يصدقون، هذه الخرافات كأنها حقائق لا تقبل الدحض أو النقاش أو المراجعة والمناقشة والتساؤل. لم يكن بوسع أحد أن يجادل أو يعترض على هذه الأطروحة الدينية الغيبية الغبية لأنه مصيره سيكون الموت حتماً بعد التعذيب أو الحرق حياً كما حصل لـ "جيوردانو برونو" و"الحلاج" وغيرهم من شهداء الفكر المتجاوز والمتحدي للمؤسسات الدينية التقليدية. تخلخلت المعادلة عندما دخل العلم إلى ساحة الصراع الفكري وظهرت شخصيات علمية لامعة مثل كوبرنيكوس وكبلر وغاليلو ونيوتن و ماكس بلانك وآينشتين وبور وغيرهم على سبيل المثال لا الحصر، ليقدموا رؤية مغايرة تماماً للرؤية الدينية عن الكون والوجود والمادة والطبيعة والحياة والموت وتفسير الظواهر الطبيعية علمياً. واكتشف العلماء قوانين الطبيعة الجوهرية الأربعة الرئيسية ، وهي الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة والقوة النووية الشديدة أو القوية. وذهب آينشتين إلى ابعد من ذلك عندما دمج الزمان والمكان في كينونة واحدة بأربعة أبعاد أسماها " الزمكان" في حين كشفت لنا الفيزياء الكمومية أو الكوانتية عوالم غريبة وحدثنا أحد أعمدتها وهو الدانيماركي بور Bohrعلى أن المادة خرجت من نطاق قدرتنا التخيلية حيث الجسيم الأولي هو حجر الأساس للبناء المادي بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر، في حين نسف " هابل" أطروحة الكون الثابت الساكن ، الأبدي والأزلي ، واستبدله بالكون المتسع ، ومن ثم صاغ العلماء بناءاً على ذلك، نظرية الإنفجار العظيم . وساهم عالم الرياضيات " غوديل Gödel" بنظريته الرياضياتية عن " اللاتكامل incomplimentarité" وأقنعنا بأن " المنطق" نفسه قد تخلى عن جزء من مجاله وترك مساحة ومجال أو حيز بين الحقيقي والمزيف حيث يوجد " المتردد أو اللامتقرر indécidable ، وفي الأثناء جعل علماء البيولوجيا مثل كريك Crick و واتسون Watson و داروين Darwin سر الحياة الغامض مجرد تفاعلات بيولوجية، أي لعبة عادية بين قوى أولية في قلب الحامض النووي ADN. شعرت الكنيسة الكاثوليكية، ومعها بقية المؤسسات الدينية التوحيدية التقليدية، بخطورة مثل هذه الأطروحات العلمية على سلطتها ونفوذها وتحكمها بعقول وعواطف وسلوكيات البشر، ومعتقداتهم فيما يخص أصل الحياة واصل الكون ، المقولبة دينياً بمقولات جامدة وفاقدة للمعنى وغير قابلة للتصديق من قبل العقول العلمية العقلانية النيرة، كانت و ما تزال تردد في المعابد والكنائس والجوامع للتعبير عن أفكار وأحداث بالية خرافية أكل الدهر عليها وشرب وباتت ميتة. فالمؤسسات الدينية كانت ، وما تزال ، تخشى من تداعيات وانعكاسات تغيير أي معتقد أو نص ديني خوفاً من تأثير " تساقط أحجار الدومينو" الواحد تلو الآخر وتهديم الصرح العقائدي المزيف الذي بنته عبر القرون فأين الله من كل ذلك؟. كلهم عاجزون عن تقديم تعريف واحد واضح ومتفق عليه عن " الله" ، فمن الذي أوجده؟ وهل هو موجود منذ الأزل قبل الخليقة؟ وما هو حجمه وشكله وعمره وهيئته وماهيته وجوهر تكوينه وهل لديه جنس ذكوري أو أنثوي؟ ماذا كان يفعل قبل خلق الخليقة؟ ولماذا أوجد معادلة العقاب والثواب والخير والشر وإبليس والشيطان والرحمن الخ من المفاهيم العقيمة؟ وكان ستيفن هوكينغ قد أدلى بدلوه في هذا المجال عندما تحدث في كتابه السابق ما قبل الأخير المعنون " التصميم العظيم" عن عدم ضرورة أو لا حاجة لوجود خالق للكون ، وأكد ذلك مرة أخرى في فصل ممتع في كتابه الأخير الذي نشر بعد وفاته تحت عنوان " أجوبة موجزة للتساؤلات الكبيرة" ، الذي سنتطرق له في الحلقة القادمة.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هي جذور النزاع حول الصحراء الغربية ؟ | بي بي سي نيوز عربي


.. حرب الفضاء لم تعد خيالا.. حرب خفية أميركية روسية صينية تهدد




.. سقط بلا أضرار.. العثور على بقايا صاروخ باليستي إيراني في صحر


.. متسلقون يعثرون على بقايا صاروخ إيراني في صحراء جنوب إسرائيل




.. سماء أثينا تتحول للون البرتقالي بسبب الغبار القادم من الصحرا