الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد عبد الوهاب وأنا

منير المجيد
(Monir Almajid)

2018 / 12 / 31
سيرة ذاتية


اذا كانت أغاني أم كلثوم تدفع بي إلى إحتساء المنكر المتنكّر كحليب السباع، فإن خنخنخة صوت عبد الوهاب (١٩٢٠ - ١٩٩١) دفعت بي إلى إستنشاق سيكارة من الحشيش البعلبكي خمس نجوم. مرّتين في الحقيقة. المرّة الأولى لم أشعر بشيء تقريباً فتابعت الغناء معه، أما في المرّة الثانية فقد كدّت أموت، لتنتهي تجربتي مع المخدرات إلى الأبد.
كان ذاك في السنوات الماسيّة أيام الدراسة في الجامعة في دمشق.

نعم، كنت أغني مع محمد عبد الوهاب دائماً، وبشكل أدقّ، أغانيه القديمة جداً، رغم علمي أن صوتي كان نشاذاً مُرعباً، وكنت أطير بصواب قلة من الأصدقاء، تجرّأتُ على الغناء بحضورهم، وعلى الأغلب، بنت الجيران أيضاً، التي كانت مغرمة بوردة الجزائرية طيلة ساعات النهار.

مثل معظم المغنين في تلك الحقبة، بدأ حياته بقراءة وحفظ القرآن، خاصة وأن والده كان يعمل شيخاً لجامع الشعراني في حي الشعرية بالقاهرة.
اتضح له، في سن مبكرة، ميوله لغناء الطرب فبدأ بتقليد سلامة حجازي. هناك تسجيل نادر جداً له وهو يؤدي، بعمر خمسة عشر سنة، بصوت حائر بين الطفولة وسن البلوغ، إحدى أغاني حجازي.

إتّخذ لنفسه إسماً مستعاراً مُثيراً للريبة: محمد البغدادي، خوفاً من والده، عمل في فرقة فوزي الجزايرلي، وسرعان ما عرف الأخ الأكبر، طالب جامعة الأزهر، بالأمر فاقتاده من أذنه إلى البيت لينال عقوبة ساخنة من الوالد.
فيما بعد، عمل في فرقة سيد درويش الذي ترك فيه بصمات واضحة، وحينها قابل الشاعر أحمد شوقي وتصادقا، ليسفر الأمر عن عدد كبير من الأغاني.
ومعرفته بأحمد شوقي، الذي كان يكبره كثيراً، أدخلته صالونات الارستقراطية المصرية، والتي شدّته تماماً، ربما بسبب سنوات طويلة من الفقر.
فيلم «الوردة البيضاء» عام ١٩٣٣ يُعدّ بمثابة أهم حدث في حياته الفنية. الطريف في الأمر أنه قبّل عدة مرّات سميرة خلوصي على شفتيها، مُحنقاً زكي رستم، بينما صارت القبلة عهراً في السينما المصرية هذه الأيام.

موسيقاه رتيبة بطيئة، كان يكسر مللها بالإنتقال من مقام لآخر على نحو مُفاجيء. كان شاباً يغني مثل العجائز، حتماً تحت تأثير أساتذته. كان يسعل بنحنحة ضعيفة ليشذب حباله الصوتية، بينما يعزف على العود أو الجنبش، وكورسه مُطربش بالأحمر جالس على الكراسي. أغانيه فيها نوح وعذاب وبكاء وشكوى من العُذّال المتربصين في كل مكان، فيها الكثير من التودد والتذلل ومواقف تحرج رجلاً مثلي يغارُ على بني جنسي.
أتحدث هنا عن فترة أواخر العشرينات وحتى آخر أفلامه عام ١٩٤٦. كنت أحفظ كل أغانيه وبكائياته من تلك الفترة. وقد استمر بالغناء فيما بعد، وسمكت نظاراته سنة بعد اخرى، ولحّن بسخاء لأم كلثوم، عبد الحليم، أسمهان، فيروز وغيرهم.
كان يُلحّن يمنة ويسرة، مثل ميسي الذي ليس هدافاً كبيراً فحسب، بل صانع أهداف كبير أيضاً.

ثم كانت تلك الأنباء التي أشارت، دوماً، إلى شخصيته الغريبة. فالرجل كان يخشى الأماكن المكتظة وملامسة الآخرين، والسفر بالطائرة.
أحياناً، كان يُفضّل تسجيل موسيقاه في استديوهات باريس، فيبحر إلى مرسيليا، ومن هناك يستقلّ القطار، رغم أن استديوهات الإسكندرية التي كان يديرها اليونانيون واليهود لم تكن أقل مرتبة.
هكذا كان يأتي، في كل صيف، إلى فندق بلودان أيضاً. يبحر من الإسكندرية إلى بيروت، ثم برّاً إلى بلودان. كل هذا محاط بسرية بعيداً عن اللقاءات الصحفية والمعجبين.
صديقة لي، من عائلة دمشقية برجوازية، اعتادت قضاء أشهر الصيف في بيت يطلّ على فندق بلودان، قالت لي، بعد أن أثخنتُ سماها بغنائي الناشز، أنها ترى، كل صباح، محمد عبد الوهاب يحتسي قهوته على إحدى شرف الفندق.

في صباح اليوم التالي الباكر، في إحدى أيام شهر آب عام ١٩٧٤، أخذت الباص واتجهت إلى فندق بلودان وأنا بحوزة معلومات مُفصّلة من الصديقة، ووصلت إلى التّراس المتّجه نحو الغرب. لم أستطع اختراق البقعة الحرشية فبقيت بعيداً قليلاً عن البناء. هناك كان يجلس وحيداً، واضعاً نظاراته ويقرأ في صحيفة ما، وعلى الطرابيزة فنجان أبيض صغير وكأس ماء.
«صباح الخير أستاذ محمد» قلت بصوت عالٍ غير واثق. نظر باتجاه الصوت، ووقف نصف وقفة «صباح النور»، قال من تلك المسافة، ماسكاً الجريدة بيده اليسرى ووضع كفّه على صدره. «إزي حضرتك؟».
بعدها قلت أشياء سريعة مثل أنني معجب من طراز خاص، لأنني مولع بأغانيه القديمة وأشياء اخرى مُتلعثمة، ثم أدرت ظهري وسارعت بالعودة إلى دمشق، وأنا أرتجف بالكامل.

لم أرو هذه القصة إلّا لعدد قليل جداً من الأصدقاء، لأنني، بكل بساطة، أكره لعب دور المعجب الذي يتنازل عن الكثير من كبريائه ليتودّد ويذُل كيانه لأحد، تماماً مثل أغاني محمد عبد الوهاب القديمة. وتماماً مثل ذاك الشاعر الشاب البغدادي الذي اقترب من الجواهري الذي كان يحتسي قهوته، فدفع بورقة إليه قائلاً: «قول لي أستاذ شنو رأيك التافه بهالقصيدة العظيمة».








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزير الخارجية التركي: يجب على العالم أن يتحرك لمنح الفلسطيني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي عيتا الشعب وكفر كلا جنوبي لبنان




.. بلومبيرغ: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائف


.. التفجير الذي استهدف قاعدة -كالسو- التابعة للحشد تسبب في تدمي




.. رجل يضرم النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترمب في نيويورك