الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[5]. عناق روحي جامح ، قصَّة قصيرة

صبري يوسف

2019 / 1 / 3
الادب والفن


5. عناق روحي جامح

إلى ماريّا

لا أتذكَّرُ نفسي إلَّا وأنا مقمَّط بغربةٍ وأحزانٍ تخلخلُ كاهل الجبال، ومعَ هذا أجدُني عابراً مروجَ الحياةِ بأملٍ وشغفٍ كبيرَين، غير مبالٍ بأنينِ الحياة. خيَّم الظَّلامُ على استوكهولم، توجَّهْتُ نحوَ قطارِ الأنفاقِ، ينتظرُني مكتبٌ صغير في حانوتي الّذي اِتّخذْتُ منْهُ مقرَّاً لإقامتي بعدَ العملِ، وقبلَ أنْ أصلَ إلى مركزِ المدينةِ، خطرَ على بالي أنْ آخذُ كأساً من البيرة، دلفْتُ إلى بارٍ في قلب اِستوكهولم، وحقيقة الأمرِ أنَّني لسْتُ معتاداً على اِرتيادِ الباراتِ، لكنِّي أحببْتُ أنْ أكسرَ الرُّوتين اليومي، وأسمعَ إلى موسيقى وأشربَ قليلاً من البيرةِ، لعلِّي أخفِّفُ قليلاً أو كثيراً من جراحِ وطعناتِ بعضِ غدّاري هذا الزَّمان، كأنّهم ترعرعوا بينَ أنيابِ الوحوشِ الضَّارية واِنحدروا من فصيلةِ الاِفتراسِ!
رحَّبَ بي أحدُ المشرفين على استقبالِ الوافدين إلى البارِ، طلبْتُ منْهُ أنْ يجدَ لي ركناً هادئاً، فأوجدَ لي كرسيَّاً شاغراً مقابل الطَّاولة المتاخمة للبارمان. اِبتسمَتْ لي شابة بشوشة تقومُ بدورِ البارمان، طلبْتُ كـأساً من البيرةِ، شيءٌ ما غامض جذبَني في تلكَ اللَّيلةِ إلى عوالمِ صخبِ الباراتِ وموسيقاها، بعدَ قليلٍ جاءتْ شابَّة في مقتبلِ العمرِ وجلسَتْ على مقربةٍ منِّي. لَمْ ألتفِتْ إليها. بعدَ لحظاتٍ من جلوسِها أخرجْتُ قصاصاتِ ورقٍ من جيبي وبدأْتُ أكتبُ مقاطعَ شعريّة وكأنّي لسْتُ في البارِ.
تذهلُني هذه القدرة الَّتي أمتلكُها أحياناً على إلغاءِ هكذا ضجيج من حولي، لا أجدُ تفسيراً لهذهِ الطَّاقة، سوى شغفي العميقِ للكتابةِ، وهذا الشَّغفُ بدَّدَ مراراً أحزاناً معتّقةً بالمراراتِ.
كتبْتُ حوالي نصف ساعة بالعربيّة، اِلتفتَتْ نحوي الفتاةُ الَّتي جلسَتْ على يساري وقالتْ:
ماذا تعملُ؟
قبلَ أنْ أجيبَ عن سؤالِها، قالتْ:
تكتبُ شعراً!
فاجأتْني بتدخُّلِها المفاجئ وسؤالِها عن كتابةِ الشِّعرِ، وأذهلَني تحديدُها جنسَ الكتابة، لأنَّني كنتُ أكتبُ بالعربيَّة، فقلتُ لها:
كيفَ عرفْتِ أنَّني أكتبُ شعراً؟
أجابتني، هكذا أحسَسْتُ؟
كانتْ تنظرُ أمامها، وكنّا بمحاذاةِ بعضِنا، وجهٌ مفعمٌ بالهدوءِ والصَّفاءِ والتَّأمُّلِ.
وكيفَ أحسَسْتِ أنّني أكتبُ شعراً، لأنّني أكتبُهُ بالعربيّةِ وأنتِ سويديّة، هلْ تجيدينَ العربيّة؟
أجابَتْ، لا، لا أجيدُ العربيّة؟
إذاً كيفَ عرفْتِ؟
بالحقيقةِ، أحسَسْتُ بهذا منذُ نصفِ ساعةٍ تقريباً.
جحظَتْ عيناي، وازدَدْتُ ذهولاً، همسْتُ في سرِّي، بالفعلِ منذُ حوالي نصف ساعة دافعٌ غريب دفعني إلى أنْ أكتبَ شعراً من وحي عوالمِها الشَّفيفة، وبعدَ حوار قصير قالَتْ لي أنا أحسُّ بما تكتبُ، لكنّي لا أراهُ!
فقلْتُ لها:
كيفَ تحسّين بهذا، ولا ترينَهُ؟
ابتسَمَتْ وهزَّتْ كتفها بحياءٍ وكأنّها لا تريدُ الإفصاحَ عمّا يراودُها. فأعدْتُ سؤالي:
تقولينَ أنّكِ تحسِّين بما أكتبُ لكنّكِ لا ترينَهُ؟ ممكن أن تشرحي لي كيفَ تحسِّينَ بما أكتبُ، ولا ترينَهُ؟!
أحسُّ بما تكتبُ ولا أراهُ، لأنَّني عمياء. اِبتسامةٌ وديعةٌ ارتسَمَتْ على محيّاها وهي تقولُ، لأنَّني عمياء!
يا إلهي، ماذا قلْتِ، عمياء! يستحيل، يستحيل أن تكوني عمياء، أنتِ لسْتِ عمياء يا جميلتي، أنتِ الوحيدة الَّتي ترينَ بينَ كلِّ هذه الجموع، وكل مَن حولي في البار هم عميان، أجل هم عميان، لأنّكِ الوحيدة، اِستطعْتِ أنْ تتوغِّلي في أعماقي، فيما كنتُ أستلهمُ مقاطعَ شعريّة من وحي عوالمِكِ الشَّفيفة، عيناكِ يا جميلتي قرأتا قلبي وروحي وتدفُّقات شعري!
يبدو أنَّني تواصلْتُ معها روحيَّاً دونما أدري، كانَتْ روحي تعانقُ روحَها، وكانَتْ روحُها وقلُبها يقرآن تدفُّقات حرفي، عناقٌ روحي جامح نحوَ بوحِ الأماني!
شعرْتُ في تلكَ اللّحظاتِ أنّني أحلِّقُ فوقَ أبهى الأحلامِ.
هلْ تعلمي أنّني منذُ نصفِ ساعة بدأتُ أشعرُ برغبةٍ عميقة في الكتابةِ عن عوالمِكِ؟
ماذا كتبْتَ عنِّي؟
هل تريدينَ أنْ أترجمَ بعضاً ممَّا كتبْتُهُ!
نعم، بكلِّ سرور، إذا لم يسبِّبِ لكَ إحراجاً.
ـبالعكس يا جميلتي، هذا من دواعي سروري.
حالما بدأتُ أترجمُ بما معنى ما كتبْتُهُ، وجَّهَتْ أنظارَها نحوي، تصغي إليَّ بفرحٍ كبير!
عندما توقَّفْتُ عن قراءةِ بعضِ المقاطعِ، سألتْني:
ـهل هذا كل ما كتبْتَهُ؟
لا، قرأتُ لكِ بعضَ المقاطعِ ممَّا كتبْتُهُ.
ممكن أنْ تقرأَ لي ما تبقّى أيضاً؟
بكلِّ تأكيد!
ما كنْتُ أتقيّدُ حرفيَّاً بما كتبتُهُ بالعربيّة، لأنَّ التَّرجمة الحرفيّة أولاً صعبة جدّاً، خاصةً ترجمة الشِّعرِ، وتفقدُ الكثيرَ من الوهجِ الشِّعري، لأنّ ترجمةَ المشاعر والأحاسيس صعبة للغاية، فما وجدْتُ نفسي إلَّا أن آخذ مضمونَ الفكرة وأصيغُ منها ما يوازيها بالسُّويديّة معِ إعطاءِ تحليقاتٍ بما تسعفني لغتي السُّويديّة، حيثُ كانَ بهاء وجهها ينضحُ فرحاً، وما كنْتُ أشعرُ أنّها عمياء، بدَتْ لي وكأنّها تراني، لا تبدو عمياء اِطلاقاً، عيناها جميلتان، تومضان بالأملِ والحنانِ والفرحِ.
عندما اِنتهيتُ ممَّا جادتْ قريحتي في التَّرجمة وبما يناسبُ التَّواصلُ الرُّوحي الإنساني، قالَت لي، شكراً على هذه المشاعر الشِّعريّة الرَّائعة، وأنا سعيدة جدّاً بكلِّ ما كتبتَهُ عنّي وقرأتَهُ لي، ثمَّ قالتْ:
هل ممكن أنْ أعانقكَ عربونَ فرحي واِمتناني؟!
بكلِّ تأكيد وبكلِّ سرور يا أميرةَ الفرح!
حضنتْني بفرحٍ عميق وشعرْتُ برغبةٍ في البكاء فرحيَّاً وشعرْتُ أنَّ روحي تطيرُ، تحلِّقُ في قبّةِ السَّماءِ، مشاعرٌ تعجزُ لغاتُ الأرضِ أنْ تترجمَ انتعاشَ بهجةِ الرُّوح، لا أصدِّقُ نفسي أنَّني مررْتُ بتلكَ اللَّحظاتِ، أشعرُ الآن وكأنّي عبرْتُ حلماً من بوحِ الخيال! وشوشَتْ للبارمان، لكنّها همسَتْ لها أنَّ فاتورتَها مسدّدة من قبلي، شكرتْني وهي تديرُ وجهها نحوي، ثمَّ قالَتْ:
لقد آنَ أوان عودتي إلى المنزلِ، هل لديكَ ما تريدُ أنْ تقولَهُ قبلَ أنْ أودّعَكَ؟
ألَا تحتاجينَ لمساعدةٍ ما؟!
لا، لديَّ مرافق، وهو يعملُ عندي وهو مسؤول عن إيصالي إلى البيتِ وعن كلِّ ما أحتاجُهُ!
فقلْتُ لها، كتبْتُ ديوانَين شعريَين وترجمْتُهما بنفسي إلى السُّويديّة.
هل تودّينَ أنْ أرسلَهما إليكِ هديَّةً على عنوانِكِ البريدي، يستطيعُ مرافقُكِ أنْ يقرأهما لكِ.
فقالَتْ بكلِّ سرور.
زوَّدَتْني بعنوانِها البريدي!

عانقتْني قبلَ أن تغادر المكان، قبَّلتُها وقبَّلْتُ يدها وجبينها. جاءَ مرافقها مبتسماً لي وأمسكَ يدَها، وغابا بينَ أجنحةِ اللّيل.
كانتْ بديعة ومتفائلة أكثر من الكثيرِ من المبصرينِ والمبصرات.
أرسلْتُ لها الدِّيوانَين، بعدَ أيَّام، اتَّصلَتْ بي، وشكرتْني على القصائد الشّعريّة الَّتي كتبتُهَا لها، وعلى الكتابَين الشِّعريَين، وتركتُها تحلّقُ في ذاكرتي كفراشةٍ متراقصةٍ على اِنبعاثِ شهيقِ الكلمة.
لَمْ ألتقِ بها بعدَ ذلكَ أبداً، لكنّها زارَتْني مراراً في الحلم!

ستوكهولم: آذار (مارس) 2001 مسوَّدة عمل
آذار (مارس) 2013 صياغة نهائيّة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه