الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يؤدي إعدام قتلة سائحتي شمهروش إلى تحقيق العدالة ؟َ

السنون عبدالفتاح

2019 / 1 / 3
الارهاب, الحرب والسلام


لقد كان هذا السؤال، الذي طرحه أحد أصدقائي على صفحة الفيسبوك، بمثابة الصاعقة التي عصفت بوجدان الناس قبل عقولهم، وكشفت عن العواطف والغرائز والأحقاد التي تعتمل في سرائرهم، بل وعن ضعف التكوين الفكري. فبمجرد أن طرح السؤال انهالت التعليقات المطالبة بإعدام القتلة في الساحة العمومية "لجامع الفنا". لقد أصبت حقا بالصدمة من هول فظاعة التعليقات التي ينشرها من يتظاهرون بحياديتهم وتسامحهم، وكأنهم يحاولون نفي التهمة عن أنفسهم...ويظهرون بمظهر الرجل المتسامح والمتعايش مع الآخرين.. هذه المحاولة التي لم يسلم منها حتى بعض العناصر المحسوبة على التيار الإسلامي المتشدد، والتي سبق لها ان قامت بتكفير بعض المواطنين وحرضت عليهم. ومن أجل اختبار فرضيتي بشكل جيد قمت في يوم غد ( يوم أول جمعة أعقبت واقعة شمهروش) بطرح السؤال نفسه على تلاميذي، فكان هو عين الجواب الذي تمت الإشارة عليه. ثم حاولت أن أتبين مدى ثباتهم على موقفهم وأعدت لهم السؤال: هل سيؤدي إعدامنا للقتلة الى تحقيق العدالة حقا؟ ثم أردفت: أليس أن التعامل مع القتلة بنفس المنطق سيجعلنا في نفس المستوى؟
هكذا بدأوا يستعيدون وعيهم ويلملمون كلماتهم..فبدأ النور يتسلل إلى عقولهم وبدأوا يدركون أن الأجوبة الاندفاعية لا تعطي أكلها. أحسوا أنهم في ورطة حقيقية !! الأمر الذي جعلهم يعون أن المعاملة بالمثل ليس هي الحل. العدالة أشمل وأعم من المعاملة بالمثل أو ما يسمى بقانون" طاليون"، هذا الأخير الذي نجد له حضورا قويا في الأديان السماوية التوحيدية الثلاثة لكن وجوده سابق عليها. لقد كان هذا القانون هو أساس العدالة في الحضارات الإنسانية في عصور ما قبل التاريخ. ومنه، فليس الأديان السماوية وحدها تؤمن بمسألة "العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن السن بالسن والجروح قصاص"(سورة التوبة، الآية 45) كما يعتقد الكثير من الناس، بل هذا القانون ضارب بجذوره في عمق التاريخ الإنساني؛ وإذا ما تعاملنا بهذا القانون وعملنا على تنفيذ الإعدام في حق هؤلاء القتلة، أفليس أن الأمر قد يجعل العدالة تنزلق من مستوى العقل الى مستوى الغريزة، بحيث تتخذ العدالة صورة الإنتقام. وإن كان الأمر كذلك، فهل تنحد حدود العدالة بحدود الإنتقام أم أن العدالة أوسع من الإنتقام؟
لا شك أن الانتقام هو نوع من العدالة لكنه ليس العدالة بالتعريف. إنه العدالة في مستواها الحيواني...تتحقق العدالة داخل المملكة الحيوانية عن طريق الإنتقام، أما داخل مملكة الإنسان فإنها أكثر من مجرد انتقام من المعتدي. الإنتقام سلوك حيواني خسيس تديره الرغبات والغرائز والأحقاد.. ولعل هذا ما يوضحه قول الفيلسوف الماركسي آلان باديو وهو يعارض الشوفينية الفرنسية الداعية الى قتل العرب والمسلمين بعد "مذبحة 13 نونبر 2015" :"من الجائز ان هناك شيئا ما لا يمكن تفاديه في رغبة أولئك الذين قتلوا، لكن من المؤكد ليس في ذلك مجال للاستحسان، أو للمفاخرة والتغني، كما لو أن الأمر انتصار للفكر والروح والحضارة والعدالة"( آلان باديو، شرنا يأتي مما هو أبعد، مؤمنون بلا حدود، ترجمة محمد هاشمي، ط.1،2017، ص37)، مما يعني ان العدالة لا تقتصر على استحسان الانتقام من الجاني والافتخار بذلك، لأن هذا الأمر لن يجعلنا أكثر رقيا من الحيوان، ولذلك فإن الفيلسوف يضيف:"إن الانتقام معطى بدائي وشنيع، وخطر زيادة على دلك؛ هذا ما علمنا إياه اليونان منذ زمن بعيد"( نفس المصدر، نفس الصفحة).
تتميز العدالة إذن ببعدها العقلي، إنها تميل الى تحقيق الإنصاف، حسب مفهوم الفيلسوف اليوناني أرسطو، بين الناس. العدالة هي إحقاق الحق بين المتقاضين وليس مجرد مناسبة للإنتقام من طرف الجاني.. تقوم العدالة على العقل، إنها تطبيق لقواعد العقل الكوني، العقل بمعناه الكانطي، الذي لا يدخل في حسابه إلا ما يجب أن يكون...العدالة تقوم على الواجب الأخلاقي الذي هو كذلك في ذاته وليس لكونه يقوم على أساس ديني أو ثقافي أو إثني.. بل هو واجب لأن العقل الكوني يقره بعيدا عن كل أشكال التحيز لأي طرف.. ومنه فإن الغاية من العدالة هي إحقاق الحق وليس إرضاء للخواطر أو تنفيسا عن نكبات الطرف المكلوم.. بينما أن الانتقام يتخذ صبغة اندفاعية ومحلية وموضعية..انه متحيز الى الدين أو العرق أو الطبقة أو ما دون ذلك. وهنا يكمن قصور "قانون طاليون" الذي يقوم على التعامل بالمثل..فهل سنكون نحن المالكون لملكة العقل أكثر عقلانية واستنارة وتحضرا من هؤلاء الهمج إذا ما طبقنا فيهم الإعدام ؟؟؟!!!
وبهذا أقول، لتلاميذي الأعزاء وللمعلقين الفيسبوكيين ولباقي الناس، أن المسألة أعقد مما يتبادر إلى مخيلاتنا منذ الوهلة الأولى، لأن هذا الأمر لن يجعلنا أكثر عقلانية ولا أكثر إنسانية ولا أكثر رحمة منهم؛ ذلك أن التطرف سيكون هو سيد الموقف !! لأننا سنكون آنئذ قد انتقلنا من أقصى اليمين الى أقصى اليسار. انتقلنا من التطرف باسم الدين الى التطرف باسم العدالة، فنعيد بذلك نفس سيناريو محاكمة "جون كالاس" التي عالجها الفيلسوف الفرنسي فولتير في كتابه حول "التسامح"، هذا الكتاب الذي ظل لما يقرب عن ثلاثة قرون صرخة في وجه التطرف والتعصب الديني . وعلى ذلك لا يمكن الإدعاء بأن العدالة يمكن أن تقوم على التعامل بالمثل، لأن هذا المبدأ نفسه قد يؤدي الى الظلم. ولبيان المسألة بشكل جيد سنعود إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس، هذا الأخير الذي يميز في كتابه:"الأخلاق إلى نيقوماخوس"، الذي يرفض هذا المبدأ لأنه لا يحقق المساواة أو العدالة حينما يكون الظلم حدث بين شخصيتين اعتباريتين مختلفتين، بحيث فإذا ما قام رجل أمن أو موظف الدولة بصفع مواطن، فهل يمكن لتحقيق العدالة أن يقتصر على التعامل بالمثل فيقوم المواطن المظلوم برد صفعته ؟؟؟!!! أم أن الأمر أكثر من ذلك ؟ !!
أعتقد أن العدالة أسمى من مجرد التعامل بالمثل، لأن هذا الأمر يمكن القبول به، من المنظور الأرسطي، حينما تكون العلاقة بين الظالم والمظلوم متساوية أما حينما يكونان مختلفان: أحدهما ممثل دولة والآخر مواطن يصبح التعامل بالمثل قاصر عن تحقيق العدالة. وعلى هذا الأساس نجد أرسطو يميز بين العدالة الحسابية أو المساواتية والعدالة التوزيعية أو الهندسية، لأن اعتماد مبدأ المعاملة بالمثل، الذي يدخل ضمن إطار العدالة الحسابية، لا يحقق العدالة حينما يتعلق الأمر بمحاكمة طرفين من مستويين مختلفين، لأنه إذا قام الشخص المصفوع بصفع ممثل الدولة، فإن الأمر لن يؤدي هنا الى تحقيق العدالة لأن الظالم في هذه الحالة لا يمثل نفسه بل يمثل الدولة. وعليه، فإن صفع ممثل الدولة هو تطاول على الدولة وتهديم لبنيانها ومبادئها وشرعيتها. وبذلك يكون الإنصاف هنا هو الحل بدل المعاملة بالمثل؛ وهذا ما يبينه آلان باديو أيضا بالقول:" ينبغي أن نتذكر أن الانتقام، وهو أبعد ما يكون عن الفعل العادل، يفتح الباب مشرعا أمام سلسلة من الشناعات؛ لذلك يتقابل داخل التراجيديا اليونانية منذ زمن بعيد منطق العدالة على وجه التضاد مع منطق الانتقام، لأن كونية العدالة تتعارض مع الطابع العائلي والقطاعي والوطني والهوياتي، وهو الموضوع الأساس لتراجيديا أورستس لِأسخيلوس"( ألان باديو، نفس المصدر، ص36).
وإجمالا يمكن القول أنه يوجد بين العدالة والانتقام أو قانون طاليون بَوْن شاسع لا يمكن عبوره. العدالة لا تتحقق بمجرد خضوعنا للغرائز البهيمية ورغبة الانتقام وإنما بخضوعنا لمبادئ العقل الكوني، الذي لا يتخذ الجريمة كذريعة من أجل أن يفسح المجال أمام الرغبات الهوجاء لتنكل بالآخر حسب هواها...العدالة تعالج القضية في شموليتها لا فقط في جزئيتها..إنها تراعي الجوانب الإنسانية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية...لأن غايتها ليس فقط التعذيب بل تحسيس الجاني بجسارة جريمته...جعله يدرك أن الاقتصاص الذاتي سيجعل كل واحد منا، بما فيه هو نفسه، في مرمى الاقتصاص منه من طرف الآخرين، أي سيجعل كل واحد منا جانيا وحاكما في ذات الوقت؛ الأمر الذي سيعيدنا الى حالة الطبيعة التي هي "حالة حرب الكل ضد الكل" كما يبين ذلك الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إيران لإسرائيل: كيف غيرت قواعد اللعبة؟| بتوقيت برلين


.. أسو تخسر التحدي وجلال عمارة يعاقبها ????




.. إسرائيل تستهدف أرجاء قطاع غزة بعشرات الغارات الجوية والقصف ا


.. إيران قد تراجع -عقيدتها النووية- في ظل التهديدات الإسرائيلية




.. هل ستفتح مصر أبوابها للفلسطينيين إذا اجتاحت إسرائيل رفح؟ سام