الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[7]. صداقة تذكِّرُنا بالنّوارج ، قصَّة قصيرة

صبري يوسف

2019 / 1 / 4
الادب والفن


7 . صداقة تذكِّرُنا بالنّوارج

شمخَتْ قامتُكَ أمامي، كأشجارِ التّوتِ المخضّبة في مروجِ الذّاكرة، شمَمْتُ عبقاً منساباً من نضوحِ حبرِكَ، كأنّه مستقطر من رائحةِ الخشبِ الطَّيّبة، يغمرُني فرحٌ كلّما أقرأُ حبورَ تجلّياتكَ وأنتَ تناجي مرامي شعري وبوحي وتجلِّيات لوني، حرفُكَ مندّى بمذاقِ المطرِ الهتونِ، يسربلُكَ حلمٌ مفتوح على فراديسِ الغدِ الآتي والغدُ لا يأتي، يظلُّ بعيداً، كأنّه حلمٌ بعيدُ المنالِ، تاهَ الغدُ بعيداً عن آفاقِ تطلُّعاتِنا، وتهنا معهُ في الغوصِ عمّا نَحُنُّ إليه ونطمحُ إلى تحقيقِهِ. زمنٌ محبوكٌ بالمفاجآتِ، يلفُّنا من كلِّ الجهاتِ، وحدَهُ حرفُكَ ينقذُكَ من ضجرِ الرّوتينِ اليومي، ومن المتاهاتِ الَّتي تغلّفُ الأيامَ القادماتِ، ويجعلُكَ متناغماً حتّى معَ ضياعِ الغدِ الّذي لا يأتي أو ربّما يأتي بطريقةٍ لا تنسجمُ معَ ما توقّعناه، حرفُك صديقُ غربة الرُّوحِ وصديقُ اللّيلِ والنَّهارِ، صديقٌ حميمٌ لما يعتريكَ من هواجس وأفكار، يخفِّفُ من الضّجرِ المتفاقمِ فوقَ أغصانِ الحياةِ، لأنّهُ يترجمُ شغفنا في الحياةِ بكلّ انثيالاتها، ويقدّمُ رؤانا للغدِ الآتي على مرِّ الأجيالِ.
فجأةً تتذكّرُ النّوارجَ مدلدلةً في توهّجاتِ الذّاكرة، يجرفُكَ الحنينُ إلى البيتِ العتيقِ، إلى الأصدقاءِ الَّذين ظلُّوا معرّشينَ في مروجِ الخيالِ، أراكَ تنسجُ شفافيّةَ رؤاكَ برهافةٍ بديعةٍ، وأنتَ غارقٌ في غربةٍ معتّقةٍ بدموعٍ مالحة، أقرأُ رؤاكَ بوحاً بوحاً، شوقاً شوقاً، كأنّها مكتنزة بشذى بخورٍ منبعثة من الأديرةِ القديمة، هلْ كنتَ يوماً صديقَ العصافيرِ وخريرَ المياهِ، تناجي نجومَ اللّيلِ، فتنامَتْ حروفُكَ متراقصةً بشغفٍ عميقٍ كي تلتقطَ نصَّاً محبوكاً على إيقاعِ تماوجاتِ خيوطِ الشَّفقِ في صباحٍ باكر؟!
تتراءى أمامي الآن في بلكونِكم المملوء بالأزاهيرِ، خيالُكُ مكتنزٌ بهفهفاتِ هبوبِ النّسيمِ وهو ينسابُ فوقَ الوردِ الجوري وزنابق الأحواش المعتّقة برائحةِ العشبِ البرّي، منعشةٌ هذه الهفهفاتِ المتدفّقة من حنينِ الجبالِ إلى أعماقِ الأزقّة الّتي ترعرعنا فيها ونحنُ نلعبُ بطائراتنا الورقيّة، ونرسلُ لها عبر خيوطها الرّفيعة رسائل من بوحِ الفرحِ، فتصعدُ رسائلنا نحوَ قبّةِ السّماءِ وكأنّها في طريقِها لأنْ تعانقَ أحضانَ الحبيبة في أوجِ سطوعِ النّهارِ!
قرأتُ لكَ أكثر من نصٍّ يتميّزُ بعبقِ الخشبِ الأصيل، ذكّرتني ببيوتِنا المسقوفة من الخشبِ، بأكواخِنا المزنّرة بأريجِ الخشبِ، وحدائقنا المسوَّرة بالخشبِ، تُشبهُ حروفُكَ قصيدةً غير مكتوبة، أو قصيدةً متناثرةً من بهاءِ الماءِ، مسترخيةً فوقَ وجنةِ غيمةٍ عطشى لحفاوةِ اللّيلِ الطّويلِ، كأنّها في حالةِ شوقٍ عميقٍ إلى ليلةٍ هانئةٍ معَ تجلِّياتِ بوحِ الرّوحِ بعدَ رحلةٍ طويلةٍ في متاهاتِ أدغالِ الرَّحيلِ، أراكَ تتمتمُ معَ نفسِكَ وتتساءلُ هامساً في أذني: البارحة رأيتُك بكلِّ قيافتكَ في أحلامِ اليقظة، تحلِّقُ بكلِّ ألقٍ وأنتَ ترقصُ ببهجةٍ عارمة، فرحٌ غامرٌ هيمنَ على محيّاكَ، كنتَ ترفرفُ مثلَ طائرٍ يموجُ جذلاً بينَ أشهى ظلالِ الغاباتِ، متابعاً تساؤلكَ، من أينَ لكَ كل هذه الطَّاقات الفرحيّة، لترجمةِ كلّ هذه الأفراح الكامنة في داخلِكَ، وسطَ حالاتِ القنوطِ المهيمنةِ على أغلبِ محطّاتِ حياتِنا في هذا الزّمنِ الغائصِ في متاهاتٍ لا تخطرُ على بال؟!
عجباً أرى، ما هذا التّخاطر يا صديقي، كأنّكَ كنتَ معي تشاهدُ بهجتي وأنا أرقصُ بكلِّ ابتهالاتِ التَّجلّي، لديكَ حالة تواصليّة بديعة، لما يعتريني من بهجةٍ وأنا في غمرةِ الفرحِ أرقصُ بشغفٍ عميقٍ وكأنّي في حالةٍ ابتهاليّة لتوهُّجاتِ بوحِ الرّوحِ!
أراكَ تمسكُ قلمكَ، هائماً في تدوينِ تدفُّقاتِ أحلامِكَ المتلاطمة، تتبرعمُ أمامَك آلافُ الذّكرياتِ، تحلِّقُ عالياً وبعيداً، هناكَ فوقَ هاماتِ المدائنِ الَّتي ودَّعْتَها خلفَ البحارِ، تبدو وكأنَّ أجنحتكَ ترفرفُ فوقَ سماءِ ليلي، "ثابتَ الرُّوحِ"، كيفُ تمتلكُ هذا الثَّبات المجذّر في بؤرةِ الرُّوحِ، تمتلكُ ثباتاً دافئاً يُشبهُ حنينَ وردة إلى نهرِ الذّاكرة الغافي فوقَ بيادرِ الطّفولة، هل تحُنُّ إلى تلكَ الأزقّةِ مثلي أم أنّكَ لا تملكُ سوى دمعة ساخنة تذرفُها فوقَ خدودِ اللّيلِ، وهلْ تشعرُ أنّ اللّيلَ غير قادر على لملمةِ أحزانِكَ الهائجة مثلَ ريحِ الشِّمالِ؟!
ترتسمُ ملامُحكَ أمامي من خلالِ حرفِكَ، تُشبهُ صديقاً لم أرَهُ إلّا عبرَ مفازاتِ حلمي، أظنُّكَ صديقَ حرفي وبوحي، وشهقةَ عشقي وهي تندلقُ فوقَ ينابيعِ القصائد، ترسمُ هدهداتِ القصيدة عبر منارةِ حنينِ الرُّوحِ، فيزهو قلبُكَ شوقاً إلى ضياءِ الحياةِ، باحثاً عن فرحٍ فيما تبقَّى من أرخبيلاتِ العمرِ، تهمسُ لقلبِكَ المكتنزِ بوهجِ الاخضرارِ، إلى متى يحافظُ المرءُ على نضارةِ اخضرارِهِ، وسطَ اكتساحِ اليباسِ شهيقَ الحياةِ؟!
حالما ألتقيكَ سأحفرُ فوقَ جبينِكَ معبراً لينابيعِ اشتعالِ القصائد، رؤاكَ تذكِّرني بالسَّنابل، بأيّامِ الرَّبيعِ، ونحنُ نتوهُ بكلِّ جوارحِنا في أعماقِ البراري، نبحثُ عن أجملِ الأزاهيرِ، نلملمُها بفرحٍ غامرٍ، نعيشُ أجملَ اللَّحظاتِ بينَ أحضانِ الطَّبيعةِ، كأنّنا حالةُ انبعاثٍ من بهاءِ الحرفِ، وحدَهُ المطرُ يروي ظمأ القصيدة، يبلِّلُ خدودَ القصيدةِ مثلَ نجمةٍ ساطعةٍ فوقَ بيادرِ الرُّوحِ، لهذا وجدتُكَ أكثر من مرّة تطلقُ على فيضِ المعاني المتدفِّقة من مخيالِكَ، "ثابتُ الرُّوحِ"، وهل تجدُ في تجلِّياتِ غليانكَ ثباتاً للروحِ، أم أنّكَ كنتَ تميلُ آنذاك إلى هدوءِ الرُّوحِ ورسوخِها في أوجِ حبورِ القصائد؟ تُشبهُ صديقي الّذي غابَ عنِّي عقوداً من الزَّمان، ثمَّ عادَ حاملاً فوقَ كتفيهِ أشهى خيوطِ الحنين، فلم يجدْ أبهى من أن يرسمَني فراشةً فوقَ جبينِ وردة!
غداً سيزهرُ في قلبِكَ المزيدُ من أزاهيرَ طينِ الحنينِ المنسابِ من عرينِ غربةِ الرُّوحِ إلى مرابعِ الطُّفولة، فيرقصُ قلبُكَ كلَّما ينامُ القمرُ شوقاً إلى ضفافِ الذَّاكرة البعيدة، وعيناكَ مغرورقتان بمساراتِ ألعابِ الطُّفولة، هل يناغي قلبُكَ طفلاً مسربلاً بلونِ الغمامِ؟ كم من الشَّوقِ يا صديقي حتَّى هاجتِ البراكين!
رائحةُ الخشب عندما تجسِّدُها عبرَ حبرِكَ المضمّخِ بأريجِ القرنفلِ، لها نكهةُ بخورِ، أراكَ تموجُ فوقَ منعرجاتِ الصِّبا والشَّبابِ، تُحْبِكُ الذّكريات من رحيقِ حليبِ السَّنابلِ، تُشبهُ تجلِّياتِ عاشقٍ يحلّقُ فوقَ حنينِ السَّماءِ، تسيرُ فوقَ شواطئ مكتظّة بهديلِ اليمامِ، تحلِّقُ أسرابَ الحمائم في مخيالِك قبلَ أنْ تنامَ، هلْ يراودُكَ أنْ تكتبُ أسمكَ فوقَ بسمةِ الأطفالِ، وفوقَ أغصانِ الدَّالياتِ، حيثُ عناقيدُ العنبِ الشّهيّة تتدلّى بينَ اخضرارِ الأوراقِ، لديك طاقة مكتنزة بالحنانِ، منبعثة من حلمٍ مهتاجٍ فوقَ نداوةِ غيمة، ويرقصُ قلبكَ كلّما ينشدُ الرَّبيعُ أنشودةَ البهاءِ، تعالَ نجسِّدُ رؤانا بكلِّ ما لدينا من جموحٍ عشقي على إيقاعِ هديلِ اليمام!
تكتبُ حرفَكَ بكلِّ ما لديكَ من رهافةٍ كأنّكَ مسكونٌ بعبقِ الأزاهيرِ، تكحِّلُ عيونَ الحبيبة بألوانِ النّارنجِ، هل يراودُكَ أنْ تزورَني في الشِّتاءِ القادمِ أم أنّكَ تائِهٌ في ضراوةِ غربةِ هذا الزَّمان؟!
يموجُ حرفُكَ مثلَ حنينِ قلبي إلى شموخِ القصائدِ، فتنهضُ ذكرياتُ عقودٍ من الزَّمنِ في مخيالي، تذكِّرني ثانيةً بالنّوارجِ المعرّشة في خميلةِ الذّاكرةِ، تحرِّضُني أنْ أفرشَ ألواني بكلِّ شغفٍ فوقَ اشتعالاتِ بهجةِ الرُّوحِ، هلْ ترقصُ روحُكَ مثلَ روحي من وهجِ الاشتعالِ في ليلةٍ مزدانةٍ برقصةِ البحرِ، وهلْ شاهدْتَ البحرَ يرقصُ في صباحٍ باكرٍ وهوَ يبتسمُ لخيوطِ الشَّمسِ، وفوقَ عذوبةِ أمواجِهِ فرحٌ غارقٌ في العطاءِ؟!
غالباً ما تزورُني عبرَ خيوطِ الحلمِ، فأرسمُ فوقَ عينيكَ وردةَ الحنينِ، وقبلَ أن تستسلمَ للنومِ، تحلمُ أن تكتبَ وميضَ قصّةٍ أو قصيدةٍ متناثرةٍ فوقَ مزاميرِ صمت ِاللَّيلِ.
تمرُّ الأيامُ والشُّهورُ والسًّنونُ، ويبقى حرفُنا معيناً لنا، يدغدغُ دروبَ الماضي المزنّرة في متاهاتِ الذّاكرة، ويخفِّفُ برشاقةٍ بهيجةٍ من ضجرِ العمرِ، تعال نرمي خلفَ ظهورِنا ترَّهاتِ الكثيرِ ممَّا يصدرُ من أوباشِ هذا الزّمان، غداً يا صديقي سأرسمُ نورساً يحلِّقُ عالياً في قبّةِ السّماءِ، وبعدَ غدٍ سأكتبُ قصيدةً، قصّةً، نصوصاً منبعثةً من تجلِّياتِ انتعاشِ الرّوحِ، معتّقةً برائحةِ الخشبِ، حرفُكَ يا صديقي ينبعثُ من حفاوةِ خشبٍ، تتناثرُ رائحةُ الخشبِ ألقاً شهيِّاً فوقَ حفاوةِ الحرفِ، كأنّها تناجي عبرَ أريجها حفيفَ "ثباتِ الرُّوحِ"، جميلٌ أنْ تمتلكَ روحاً ثابتة في سطوعِ ابتهالاتِها مثلَ ضياءِ القمرِ، تعالَ نكتبُ من وحي هذا البهاءِ أهازيجَ قصصٍ وقصائدَ تعانقُ هلالاتِ السّماءِ، قبلَ أنْ نغفو في بهاءِ سباتٍ عميقٍ، كأنّنا في حالةِ انتظارٍ لأحلامٍ تسربلنا بأشهى تلألؤاتِ خيوطِ الحنين!

ستوكهولم: 5 / 6 / 2007 مسودة عمل
تشرين الثّاني (نوفمبر) 2016 صياغة نهائيّة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با