الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ولادة ورحيل...

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

2019 / 1 / 4
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


من الأحداث المأساوية التي مرت في حياتي ولم أنسها حتى اليوم، أستشهاد أحد أقاربنا، رحمه الله، شاباً وسيماً ذو هيئة وقوام وصحة يحسد عليها، كان في سن العشرينات، متزوج وله طفلة بعمر عدة شهور. ما أن وصل خبر وفاته من الجبهة لنا حتى كنت بمنتصف الليل في بيت أهله بالعمارة، فوجدته مسجى يشع نوراً وكأنه نائماً في قيلولة. كان شتاءاً بارداً وأيام ممطرة، أنطلقنا في الصباح لنواري جثمانه الثرى بمقبرة المندائيين هناك، كانت أقدامنا التي تحمل أجسادنا المثقلة بألم رحيله تنغرس بالأرض الموحلة حتى الركب، أمام الحفرة التي ستستقبل جسده لتكون مثواه الأخير تجمع الكثيرون، ألقوا نظرة وداع وفي تخيلهم أن الشظايا التي خطفت حياته لا بد وأنها قد مزقت قوامه، لكن لم يرَ أحد شيء، كان مستلقياً متفتح يشع نظارة كما عهدناه. مشهد رؤياه طرح أكثر من سؤال، ما الذي قتل هذا الشاب الصلب وأوقف حياته وأفسد مستقبل عائلته؟ سؤال أرق وحير زملائه بالجبهة بعدما أنفجرت قنبلة على بعد عشرات الأمتار منهم، فسقط لوحده، لم يروا أية آثار أو خدوش على جسده بالمرة. كان التقرير الذي قدمه الطبيب الشرعي يعطي الأجابة، فقد أخترقت شظية أصغر من رأس الدبوس بمحض صدفة الجمجمة من أحد أماكن ضعفها ولامست دماغه، كان هذا كل شيء، في لحظة واحدة وبشكل مباشر أعلن دماغه رفضه التجاوز عليه والوصول لمملكته وأمر الجسم حالاً بالسكون الأبدي.
ليس من نقاش في أن الدماغ المتكون من المخ والمخيخ والنخاع المستطيل، هو قائد الجسد فينا وفي كل خلق الله، وقيادته هذه دفعته لأن يكون أنانياً متجاوزاً على حقوق البقية، فأخذ الموقع الممتاز الحصين وتغلف بغطاء صلب متين يحميه من أي عارض جانبي، وهو يستهلك طاقة تبلغ أضعاف ما تستهلكه أجهزة الجسم لكافة فعالياتها، فكتلته تزن 2% من كتلة الجسم ويستهلك 20% من سكر الكلوكوز الذي ينتجه الجسم بعملية التمثيل الغذائي لتأمين فعالياته المختلفة، كما أنه يتلقاها بشكل مباشر دون أذن*، هذه الأعضاء وعضلاتها تعمل حتى لو عانت من ألم وأوجاع، فعيوننا وآذاننا وأسناننا، أقدامنا وأيدينا ووأصابعنا، نستخدمها برغم جروح وأضرار قد أصابتها، حتى العلل بأحشائنا، المعدة قد تعاني من القرحة لكنها تستمر على مدار الساعة تهضم الطعام وتفرز الحوامض التي تزيد من ألم جروحها، الكبد ربما يعاني من التشمع لكنه يستمر يقاسي لتصفية الدم بينما نتناول نحن الشحوم ونشرب الكحول غير مبالين به، والكلة وبرغم أنها تكون مثقلة بالحصى لكنها لا تدفعنا جدياً لعلاج سريع لها، كل عضو فينا قد يعاني من علة ويسكت عليها إلا الدماغ، فمجرد تورم بسيط أو نزف قريب منه نكون في خطر، وما أن يمتد ليصل تحت الجمجمة حتى يعلن بوقاحة أحتجاجه، وبأمر بسيط يوقف كافة أعضاء الجسم السليمة، يرديها عاجزة ميتة لا حياة فيها.
الدماغ، لكي يتمتع ويحتفظ في ذاكرته بالمشاهد والذكريات الجميلة من أجل زيادة تجربته وتوسيع دائرة معرفته، يأمرنا بأنفاق المزيد من المال وبذل الكثير من الجهد، فيدفعنا فضوله أن نتسلق في سفرة الربايا لنرى ما خلفها وننزل الوديان ونخوض المغامرة، نتسلق الشجر ونسبح في نهر ونرفع الحجر. منذ الصغر ولكي يتعلم الدماغ كل شيء، يسخّر أعضاء الجسم وحواسه التي تقوم بالأفعال الأرادية لخدمته، فنلمس الساخن ليكوينا، نستخدم الآلة الحادة فتجرحنا، نقفز فتلوى أقدامنا، حتى أننا حينما نتجنب خوض عراكاً غير متكافئاً، فذلك كي لا يحتفظ بذكرى أخفاقه، أي ليس لأجل سلامتنا. حتى المشاهد الغريبة أو تلك التي لا تستحق السعي من أجلها، يدفعنا لبذل الطاقة والوقت كي يستكشفها وهو على يقين بأنها لا تستحق.
في نقاش حاد أيام ما كنت بالمدرسة مع شاباً متديناً في مشهد لم يكن متعارفاً، قال بغية أسداء النصح لنا بأن علينا عدم السعي وراء رغبات أدمغتنا لأستكشاف ملذات الحياة، في أن نأكل ونشرب ونمارس كل ما نشتهي، لأنها تأخذ أكثر مما تعطي وتدفع الجسم لبذل المزيد من الجهد لأجل تأمينها، حتى أن مجرد التفكير بها ربما يكون ذنباً، وقال أن لبدنك حقٌ عليك ولعقلك أيضاً حق عليك، فأجبته بأن الإنسان عبارة عن جسد وعقل، فمن تخاطب أنت بمقولتك إذاً؟ قال أخاطبك أنت، قلت ومن أنا ومن نحن سوى شيئين أثنين، جسداً وعقلاًّ! وبغض النظر عما قال وقلت، فإن مدار الحديث كان حول ما يشتهي الدماغ، قائد الجسد وولي أمره.
× × ×
أمريكا، هذا البلد الذي يقود العالم اليوم، غيّر بحياتنا كل شيء وهو على بعد ألوف الأميال، تدخّل بكل متطلباتنا، في قوائم طعامنا فأدخل وجباته السريعة لتصبح جزء من موائدنا، في قيام أنظمة المدن والتحضر والتطور، في الطب وفي غزو الأرض والفضاء، في إعلامنا وتفكيرنا، في ألعابنا وفي حلنا وترحالنا، بلد تشكل مساحته وسكانه أقل من عُشر الأرض والبشر، لكنه كالدماغ في المخلوقات، يتجاوز على حصص بنو الأرض، يستهلك ربع طاقة الأرض المتاحة، يلهو شعبه ويعيش ويتمتع بيومه أضعاف ما يأخذه بشر مثله في بلدان فقيرة أو حتى متوسطة، ينعم بخدمات (أوفر)، يستخدم ويسخر أجهزة ومعدات ويستبدلها بعد التخلص منها بجديدة قبل أن تعمر كما هو حالها بدول أخرى، حتى نفايات مواطنيه تفوق حصة آخرين يعيشون بدول فقيرة. هذا البلد كدماغنا يأخذ أكثر من حصته في مشهد لا يوصف سوى بأنه أعلى درجات الأنانية.
× × ×
برغم أن يوم ميلادنا هو ما يسجل بداية تاريخ حياتنا، لكن فعلياً فإن حياتنا تبدأ منذ عدة شهور، فولادة أنسان أو حيوان، سواءاً كان من رحم أم أو من بيضة، تبدء بلحظة الأخصاب، في النبات يتم تلقيح الميسم في الزهرة فتنمو لتصبح ثمرة. توفر لنا التكنلولوجيا الحديثة اليوم الفرصة كي نشارك مواليدنا نبض قلوبهم وحركتهم وهم أجنة صغار أعمارهم بضعة أسابيع إلى أن يتكامل نموهم، وطول تلك الفترة نشعر بالسعادة والغبطة. في نفس الوقت نجد أن هناك أرواحاً تزهق، فتحدث الوفاة بلحظة واحدة حينما يتوقف الدماغ ويستكين الجسد، فيتحول أنسان ونحن بقربه من حالة تنبض بالحياة، تجري الدماء بعروقه بوضع حركي ديناميكي فعال، حيث ينمو الشعر والأظافر وتتجدد عشرات ملايين الخلايا بكل ثانية، إلى حالة جماد ساكنة، ويكون وقعها علينا كبير ووداعها صعب.
في بعض حالات الشيخوخة، نجد أن المخ يبقى سليماً وبحالة صحية ممتازة، يتفاعل ويتذكر ويسجل الوقائع وكأنه لايزال بشبابه، بينما يضمحل الجسد ويصبح هرماً وحالة أجهزته تتقهقر، الجلد مترهل والعظام هشة، ولم تعد العضلات مرنة، حينها يضعف تمثيل الغذاء فيه ويقل دفع الدم والتبادل الغازي وغيرها من الأفعال الحيوية، وتبطأ عملية الأيض*، فتصل الرسائل للدماغ تطالبه أعلان عجز أجهزة الجسم أي أدواته عن تأدية واجباتها وبالتالي أعلان خروجها عن الخدمة، فيقوم بإيقاف عملية الأيض فتموت خلايا الجسم. هذه حالة نقيضة لتلك التي بدأنا مقالنا بها، وأقصد أنه بدل أن يأمر العقل الجسد بالتوقف، فإن الجسد يطالب الدماغ أن يأمرها بالتوقف والأستكانة الأبدية.
لحظة ولادة أنسان ليست كلحظة وفاته، فبرغم أن وقع السعادة بالحالة الأولى كبير لكنه على مراحل، بينما وقع الحزن الذي يصيبنا أمام حالة الوفاة أكبر لأنه يحدث بلحظة واحدة، لحظة يُطلق عليها مغادرة الروح الجسد. هذا يجعل الحزن لرحيل شخص عزيز علينا أكبر من فرح ولادة آخر. لكن تبقى الولادة هي ردة الفعل الذي وضعته الطبيعة لتستمر الحياة ولتكون بلسم جرح الوداع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
× الأيض... عملية حيوية لتمثيل الغذاء داخل جسم الكائن الحي عبر سلسلة تفاعلات كيماوية تتحكم بها الأنزيمات لأنتاج الطاقة والسعرات الحرارية التي تمكنه من تدفئة جسمه وتنفيذ وظائفه الحيوية، كما يتم من خلالها بناء وتجديد خلايا وأنسجة الجسم المختلفة. تتم العملية على مرحلتين، عملية (تكسير) المادة العضوية لأنتاج الطاقة، وعملية (بناء) خلايا جديدة. تتعرض عمليات الأيض للأرتباك لأسباب وراثية أو بسبب مشاكل صحية فتؤدي لعدم أنتظام وزن الجسم. تحدث بنفس الوقت في عضلاتنا ملايين عمليات الأيض لبنائها وقيامها بالمهمات المطلوبة منها، وكلما تكون الكتلة العضلية أكبر كلما كانت عمليات الأيض أكثر، وحينما نتحرك أكثر أو نمارس الرياضة فإننا نحفز عملية الأيض وبالتالي يمكننا التخلص من السمنة لأن العضلة تفضل أستهلاك الدهون على الكربوهيدرات لتوليد الطاقة الازمة لحركتها. تجري العملية لدى الذكور أكثر من الإناث وتقل مع زيادة العمر وتتسرع أكثر بالجو البارد للحفاظ على درجة حرارة الجسم. تؤثر بعض الأغذية كالكركم والفلفل الحار على تسريعها.
× الأنسولين... يفرز من غدة البنكرياس ويضخ إلى الدم مباشرة للتعامل مع أي نسبة أرتفاع أو أنخفاض بنسبة سكر الكلوكوز بالدم فيحفز الخلايا لأمتصاص نسب أكبر منه ويستشعر الكبد كي يقوم بالتخلص من الفائض منه. المعروف أن سكر الكلوكوز هو الوقود الذي يزود عند أحتراقه خلايا الجسم المختلفة بالطاقة للتغذية والتدفئة. يمثل هذا الهورمون المفتاح لتزويد العضلات بغذائها وطاقتها، الدماغ هو العضو الوحيد الذي يستهلك طاقة كما يشاء دون تحكم منه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحذير من الحرس الثوري الإيراني في حال هاجمت اسرائيل مراكزها


.. الاعتراف بفلسطين كدولة... ما المزايا، وهل سيرى النور؟




.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟


.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟




.. طهران تواصل حملتها الدعائية والتحريضية ضد عمّان..هل بات الأر