الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[9]. عطر خشب الصَّندل ، قصَّة قصيرة

صبري يوسف

2019 / 1 / 4
الادب والفن


9 . عطر خشب الصَّندل

خرجتُ من المنزل صبيحة يومٍ من أيّام نيسان، رغبة عميقة جرفتني إلى عبورِ روعة الاخضرار والاحتفاء بعبقِ الحياة، لبسَتِ الطَّبيعةُ بهاءً يضاهي تجلّيات بوحِ القصائد، سرحْتُ في عوالمِ الخيالِ وبوحِ الأماني، وأنا أتمتَّعُ بهذا البهاء الخلّاب الّذي يعانقني من كلِّ جانب، دائماً أراني في حالةِ حبورٍ واِنشداهٍ في جمالِ الطّبيعة، أموجُ بينَ رحابِ الأفكارِ الخلّاقة المنبعثة من البشرِ الخيّرين الَّذين تبرعموا على فضائل وقيم المحبّة والخير والوئام المتناغم في سلوكهم وآفاق رؤاهم وتطلُّعاتهم النّيرة في الحياة.
فجاةً قفز إلى ذهني عطاءُ الطَّبيعة غير المحدود، عطاءٌ لا يضاهيه عطاءً، تراودني حالة اِندهاش لعطاءات الطَّبيعة الوفيرة للإنسان، وإِغداق كلّ هذا الجمال على البشر ولا يقابل بعض البشر هذه العطاءات الخلَّاقة بالمُثل، بل يقدّموا المزيدَ من القبحِ والدَّمارِ والخرابِ لأنفسهم وللطبيعةِ والحياة. فنرى بعض البشر يمارسون ممارسات كأنّهم من فصيلةِ النّمورِ والضّباعِ والوحوش الضّارية، يفترسون بعضهم بعضاً أكثر من الوحوشِ المفترسِة، تفرّخ بينَ أياديهم الحروب كما تفرّخ الأرانب في توالدها وانتشارها، رؤية مميتة تتفشّى فوقَ كلِّ هذا الجمال المخضوضر في أحضانِ الطَّبيعة، أنحازُ بكلِّ جوارحي إلى اِخضرارِ الزّهورِ والأشجارِ وعطاءاتِ الطَّبيعة أكثر من الكثيرِ من البشر، توقّفتُ مليّاً وأنا أسوحُ عبر مخيالي في مروجِ الدّنيا، عندَ شجرةِ عطرِ الصَّندل، متوقِّفاً عند قداسةِ وفوائد هذه الشَّجرة الخيّرة، منبهراً من عطرِها الأخّاذ، الّذي يستخدمُ لعلاجِ الكثيرِ من الأمراضِ، كما يستخرجُ منه أجملَ أنواعِ العطورِ. يا إلهي ما هذا العطر المنعش للقلبِ الّذي يفوحُ من جذعِ وجذورِ شجرة الصَّندل؟ لماذا لا تفوحُ العطورُ من جذوعِ البشرِ، بل تفوحُ من بعضهم رائحة البارود والدَّمار والخراب؟ معادلات مقلوبة رأساً على عقب!
قفزتُ بعيداً عبرَ خيالي، رحْتُ أحلِّقُ نحوَ أقصى الأقاصي، وإذ بي أجدُ نفسي متعانقاً بين خمائل أشجارِ الصَّندل، هناكَ في أراضي الهند وبعض دول آسيا حيث تنمو هذه الأشجار بغزارة، غمرني فرحٌ عميق وأنا أستنشقُ عبيرَها الأخّاذ، وشعرْتُ أنّني في رحلةٍ مبهجةٍ للروحِ والقلبِ، سرَتْ قُشَعْريرة منعشة في أعماقي الرّهيفة، رائحة عبقة ملأتْ أرجاءَ المكانِ، تنبعِثُ من أشجارِ الصَّندلِ رائحة طيّبة معبّقة ببلسمِ الحياةِ، تنبعثُ من خشبِها وجذورِها، كلّما نحفُّ ساقها، ينبعثُ منها رائحة ذكيّة طيّبة، تذكِّرُني ببعضِ البشرِ عندما نحاورُهم، يصدرُ عنهم كلامٌ حكيمٌ وعميقٌ، لأنّهم يحملون بين أجنحتِهم سموَّاً في آفاقِ تطلُّعاتهم، ولديهم رؤية شفيفة مجنّحة نحوَ ربوعِ الخيرِ والسَّلامِ والمحبّة، وينشدونَ كلّ ما فيهِ منفعة لخيرِ الإنسانِ، كم يسرُّني ويبهجُني عندما أتجاذبُ أطرافَ الحديثِ معَ هكذا أشخاص، إنّهم يعمّقون في روحي وكياني أرقى ما في وهجِ الحياةِ، ويمنحوني طاقات إيجابيّة، فأجدُ نفسي منتعشاً ومحلّقاً في رحابِ الوئامِ والمحبَّة، أسيرُ بكلِّ ابتهاجٍ في عمقِ الغاباتِ، أنظرُ إلى أشجارِ الصّندلِ، فأرى الأشجارَ كأفواجٍ من البشرِ الخلَّاقين، همسْتُ في سرّي، آهٍ لو اِستمدَّ البشرُ كلّ البشر عطاءاتهم الخيّرة من بعضِهم بعضاً، بطريقةٍ مماثلةٍ لانبعاثِ عطورِ هذه الأشجار وقداسة أريجها وعبقها المبلسم للروحِ والقلبِ والحياةِ. تساءلتُ مراراً، هل كانت هذه الأشجار يوماً ما، بشراً يحملون بين جذوعهم أشهى وأنقى ما في جمالِ الحياةِ، فتوغَّلَتْ طيبتهم وأريجهم في جذوعِ وجذورِ أشجارِ الصّندل؟ هل نحنُ البشر جزء من الطَّبيعة، جزءٌ من بهاءِ السَّماءِ على الأرضِ، جزءٌ من حبقِ الحياةِ، مَن نحنُ بالضّبط؟ عجباً أرى، بعض البشر يجنحون نحوَ أشْرَهِ شراهاتِ الشُّرورِ، يؤجّجون المعاركَ ويسلّطونَ فوّهاتِ بنادقهم وصواريخهم نحوَ قلوبِ البشرِ دونَ أن يرمشَ لهم جفن، كيفَ فاتهم أنَّ الحياةَ لا تتحمَّلُ كلَّ هذا الجموح نحوَ عوالمِ الشّرورِ؟!
أمسكتُ قلمي ولوني وبدأتُ أترجمُ هديلَ اليمامِ فوقَ نصاعةِ الورقِ وبياضِ خامةِ الرّسمِ، عابراً مروجَ المحبّةِ والفرحِ عبرَ تجلّياتِ حرفي ولوني نحوَ أشهى ما يبهجُ القلبَ والوجدانَ، أتذكَّرُ ديريك بلدتي الوديعة، وناسها وشعبها الطّيب، ثمَّ يجرفني الحنين إلى سهولِ القمحِ المكلَّلة باخضرارِ نعمة الحنطة، تشمخُ قامةُ والدي أمامي، بكوفيّته وعقاله وشرواله والبشاشة لا تفارقُ محيّاه، وهو يوصِّيني أن أحبَّ البشرَ كلَّ البشرِ، أنْ أكونَ معطاءً مثلَ حقولِ قمحِهِ، أنْ أكتبَ حرفي من نصاعةِ حليبِ الحنطة كي يأتي مضمّخاً بالخيراتِ، والدي سنبلة خضراء فوقَ أجنحةِ القصائد، خيوطٌ من حرير، يزدادُ حضوره تجذُّراً في تدفُّقاتِ سردي وقصصي، لا يفارقني عبرَ مساراتِ خيوطِ الحنينِ، تتراءى أمامي الآن سهول ديريك الفسيحة، فأشتمُّ أريجَ النّرجسِ البرّي، المنبعث من "كفري حارّو"، تنتعشُ روحي ألقاً وفرحاً. ما أخباركِ يا سهول القمح الممتدّة على مدى البصرِ حولَ ربوعِ ديريك، ما أخبار الأرض المباركة والشَّعب الطّيب؟!
آهٍ يا قلبي المضمّخ بوهجِ الشَّوقِ، عبرتُ البحارَ منذُ عقودٍ من الزّمانِ، وماتزال ديريك حمامة وديعة ترفرفُ فوقَ رحابِ ليلي ونهاري وتعانقُ كلَّ يومٍ صباحي على أنغامِ فيروز. سأظَلُّ يا والدي مثلما أوصيتني، رافعاً شعارِ المحبّةِ والتَّعاونِ والعطاءاتِ المجبولةِ بخيرِ البشرِ، كأشجارِ عطرِ الصَّندلِ، متشرِّباً بأريجِ الحياةِ، وأنثرُهُ عبر حرفي ولوني فوقَ جفونِ الأرضِ، حاملاً رايةَ المحبّةِ والسَّلامِ والفرحِ، راغباً أن تنمو هدهداتِ أجنحةِ السَّلامِ على وجهِ الدُّنيا، زارعاً وصاياك في ثنايا قصصي وأشعاري.
تزهو ديريك أمامي بأديرتها المقدّسة وشعبها الأبي، أشتمُّ رائحةَ البخورِ المقدّسة، وأتذكّرُ طفولتنا ونحنُ نزورُ كنيسة السَّيّدة العذراء وهناكَ مراراً كنّا نعلِّق بحسب نيّاتنا وبراءتنا "القحفونات" الصَّغيرة، المكسورة من الجرارِ، بحجمٍ أكبرَ من اللَّيرةِ بقليلٍ وبوزنٍ يتراوحُ ما بين ثلاثينَ إلى خمسينَ غراماً، نفركُ "القحفونة" على حائطِ الكنيسةِ ثمَّ نشعرُ وكأنّ انجذاب ما جذبها فتبقَّى معلّقة على الحائطِ طويلاً، كما أنّنا كنّا نقومُ بهذه العمليّة بالفرنكاتِ على صورِ القدِّيسينِ والقدِّيساتِ وكانت صورة كبيرة في مدخل الكنيسة لمار جرجس وهو يقتلُ الحوتَ، مائلة قليلاً، وعليها بلّور، كنّا نفرك في بلّور أيقونة مار جرجس فرنكاتنا وفلوسنا على نيّةٍ ما، فتبقى معلّقةً على بلّورِ الصُّورةِ، ونتركُها لصندوقِ الكنيسةِ، فيجمعها ساعورُ الكنيسة السَّيّد الرَّاحل داؤود متّو، رحمه الله والّذي خدم الكنيسة سنوات طويلة حتّى آخر لحظة في حياته. كم تذكّرني شجرة عطر الصَّندل بقداسة هذه الكنيسة الَّتي كانت ديراً منذ مئات السّنين، وكم من العجائب ظهرت فيها كظهورِ الميرون المقدّس وشفاء المرضى، وتعطيل "الباغر" أثناء محاولة البعض تهديم سورها من الجهة الجنوبيّة، بتنسيق مع رئاسة البلدية لكن "الباغرات" كانت تتعطَّل، كلَّما كانت تحاول تهديم السُّور وتبقى معطّلة كلِّيَّا، وعندما كان يتمُّ سحبها بضعة أمتار كانت تشتغلُ بشكلٍ طبيعي، ممَّا أكّدَتْ هذه الحادثة وعشرات الحوادث أنَّ الكنيسةَ مقدّسة ولا يمكن تهديم سورها، وحتّى تاريخه ظلَّت الكنيسة شامخةً بسورها وهيكلها الواقع في عمق الشَّارع ولم يتم تهديمها لقداستها وأصبحتْ مزاراً لجميع الطَّوائف والأديان!
ديريك، تشبهين شجرة الصَّندل المباركة، حيثُ ينبعثُ منكِ أريجُ القداسة والنّقاوة والمحبّة. كلّما أغوصُ في معالمِ دنياكِ، أزدادُ إليكِ شوقاً وابتهالاً، يا حبرَ حرفي وهو يشرقُ ألقاً إلى حفاوةِ الأزقّة المحفورة في محرابِ الذّاكرة المعتّقة باخضرارِ الكرومِ، والمحبوكة فوقَ ترابكِ المعبَّقِ بحنينِ الأمّهاتِ، فقد انبعثَ من طينِكِ أولى هلالاتِ بوحِ اليراعِ. ستبقينَ يا ديريك شجرة المحبّة والخير الوفير، من بين أحضانِكِ وُلدَ وترعرعَ عشرات بل مئات المبدعين والمبدعات، ترفعينَ هامتكِ شامخةً على وجهِ الزَّمنِ، ونحنُ الّذينَ وُلِدْنا في كنفِكِ وترعرعنا بين سهولِ قمحِكِ ومروجِكِ وبراريك الفسيحة، ورضعنا من حليبِكِ وأكلنا من عنبِكِ وخيراتكِ وخبزِكِ المبارك، نشعرُ أنَّ هناكَ بركة ممنوحة لنا، ترافقنا في أعماقِ غربتنا، منبعثة من أديُرَتِكِ المقدّسة ومن تآخي شعبِكِ العريقِ وتعاونه ومحبّته على مرِّ الأجيالِ، ديريك أيّتها المعجونة من تجلِّياتِ بخورِ المحبّة، يا قيثارةَ أنغامي المحبوكة من باقاتِ السَّنابل، يا أغنيتي الأبديّة، يا تغريدةَ حرفي وبهاء لوني المجنّح نحوَ اشراقةِ الحلمِ البعيدِ، أراكِ من هنا، من خلفِ البحارِ تتربّعينَ أمامي زقاقاً زقاقاً، بيتاً بيتاً، تعانقينَ حنيني إلى دنياكِ المطَرَّزِ بالخيرِ كما تعانقُ رائحةُ أشجارِ الصّندلِ خدودَ الحياةِ!

ستوكهولم: كانون الثَّاني (نوفمبر) 2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية


.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-




.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني