الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفن تحويل اللامعنى إلى معان ٍ

حسن عجمي

2019 / 1 / 4
الادب والفن


الفن تحويل اللامعنى إلى معان ٍ. لذلك أية ظاهرة واقعية أو ممكنة أو مستحيلة لا معنى لها و أية ظاهرة جميلة أو قبيحة من الممكن أن تكون موضوعاً للفن من خلال تحويلها إلى حائزة على معنى أو معان ٍ.

قبح حذاء الفنان فينسنت فان غوخ تحوَّل إلى فن راق ٍ في لوحته "الحذاء" لأنه حَوَّلَ لا معنى و لا قيمة هذا الحذاء القديم و القبيح إلى مالك لمعان ٍ و قِيَم منها أنَّ هذا الحذاء يستطيع أن يستمر و يحيا و إن رفضه الجميع تماماً كما الإنسان الذي يشيخ و يهترىء و يبقى رغم ذلك إنساناً تحيا به الحياة و إن لم ينظر إليه أحد. هكذا حذاء فان غوخ تصوير للحياة الواقعية التي يحياها الكائن الحي و يحزن بها و يفرح و يشقى و ينعم بإزدواجياتها المُضحِكة و المُبكِية. من هنا , لوحة "الحذاء" فن راق ٍ لأنها حولَّت ما لا معنى له أي الحذاء إلى حائز على معنى أو معان ٍ فهذا الحذاء أمسى رمزاً للحياة نفسها. فالفن تحويل الفاقد للمعنى إلى حائز على معنى أو معان ٍ أي الفن تحويل اللامعنى إلى معان ٍ. لو لم يُحوِّل فان غوخ هذا الحذاء إلى مالك لمعان ٍ منها أنه رمز للحياة و تفاصيلها لظلّ هذا الحذاء بلا معنى و لم يكن فناً بل لإستمر على أنه مجرّد حذاء قديم. هذا دليل قوي على أنَّ الفن إنتاج معان ٍ لِما لا معان ٍ لديه و تحويل اللامعاني إلى معان ٍ.

بما أنَّ الفن تحويل اللامعنى إلى معان ٍ , إذن الفن تحويل الذي بلا قيمة إلى ذي قيمة فتحويل المرفوض إلى مرغوب و اللامُستحَب إلى مُستحَب إلخ. هكذا تَحَوَّلَ حذاء فان غوخ من مرفوض و غير مُستحَب و غير مؤثِّر في النفس إلى مرغوب و مُستحَب و مؤثِّر إيجابياً في نفوسنا و ذلك من خلال تقديمه كموضوع فني في لوحة فنية. إن رأينا هذا الحذاء في محيطنا الواقعي سنرفضه و نعتبره بلا معنى و بلا قيمة. لكن متى نراه في هذه اللوحة الفنية نقبله و نعتبره ذا معنى و قيمة. هذا لأنَّ الفن عملية تحويل الفاقد للمعنى إلى حائز على معنى و هو بذلك عملية تحويل المرفوض إلى مقبول و مؤثِّر في النفس البشرية. و علماً بأنَّ الفن تحويل المرفوض و اللامحبوب إلى مقبول و محبوب , إذن من الطبيعي استخدام الفن (كما حَدَثَ تاريخياً إلى يومنا هذا) في ترويج مقبولية و محبوبية هذه الأديان أو تلك الأيديولوجيات كرسم أو نحت المسيح و العذراء أو زعماء الثورات الكبرى. من هذا المنطلق , ينجح تحليل الفن على أنه تحويل اللامعنى و اللامقبول إلى معنى مقبول في تفسير ارتباط الفن بالدين و الأيديولوجيا.

كما أنَّ قبح صلب إنسان تَحَوَّل إلى فن رسمٍ أو نحتٍ و عبادة (كما في العديد من الأعمال الفنية التي تصوّر المسيح و العذراء و القديسين) لأنه تحويل ما لا معنى إنساني له إلى حائز على معان ٍ إنسانية كمعنى معاناة الإنسان كسبيلٍ لخلاصه. صلب المجرمين في الإمبراطورية الرومانية لا معنى إنساني له كما لا قيمة إنسانية فيه و من غير المحبوب للناظرين إليه و العارفين به. لكن متى قُدِّم الصلب كرسمٍ أو كنحتٍ فني أصبح ذا معنى إنساني و ذا قيمة إنسانية و إلهية أيضاً و بات محبوباً للناظرين إليه و العارفين به بل أمسى معبوداً و ديانة إلهية. هكذا الفن تحويل اللامعنى و اللاقيمة و اللامحبوب إلى معان ٍ و قِيَم و محبوبية. و هكذا أيضاً الفن صانع ديانات كما يصوغ أيديولوجيات فكرية و سلوكية بتحويل ما لا معنى له إلى ذي معنى و تحويل ما لا قيمة له إلى ذي قيمة. لذا لا تخلو حضارة من فنون لكونها لا تخلو من ديانة أو عقيدة أيديولوجية.

إن كان الفن تحويل الخالي من معنى إلى حائز على معنى , و علماً بأنَّ المتناقض المتنافر فالمستحيل و اللامعقول خالٍ من معان ٍ (بسبب تناقضه و استحالته) بينما المنسجم و الممكن و المعقول مالك لمعنى (بسبب إنسجامه و إمكانيته) , إذن الفن أيضاً تحويل المتناقض المتنافر و المستحيل اللامعقول إلى منسجم و ممكن و معقول. و هذا ما نجده مثلاً في "لوحة الزمن" (التي تُعرَف أيضاً بإسم "إصرار الذاكرة") للفنان سلفادور دالي. في هذه اللوحة الفنية تجتمع الساعات المُصنَّعة بمعالم الأرض (كالشجرة و التراب). هذا الاجتماع إن حَدَثَ في الواقع المعاش يغدو واقعاً خالٍ من معنى و غير منسجم إن لم يكن مستحيلاً لأنَّ الساعات المُصنَّعة لا تذوب و لا تذبل على النقيض من الأرض و معالمها كما أنَّ الساعات الصناعية ليست جزءاً من طبيعة الأرض. لكن حين اجتمعت تلك الساعات الصناعية بمعالم الأرض في لوحة دالي أصبح هذا الاجتماع منسجماً و ممكناً و حائزاً على معان ٍ لأنَّ هذه اللوحة الفنية حَوَّلَت اللامنسجم إلى منسجم و المستحيل إلى ممكن و اللامعنى إلى معنى بفضل أنَّ الفن ذاته ليس سوى هذا التحويل و تلك التحوّلات.

تمكّنت لوحة دالي من تحويل المتناقض و اللامنسجم و المستحيل و اللامعقول فالفاقد لمعنى إلى منسجم و ممكن و معقول فمالك لمعان ٍ من جراء تضمنها لمعان ٍ عديدة منها أنَّ الأرض تموت بموت الزمن المشار إليه بالساعات الميتة و العكس صحيح و أنَّ الأرض تموت بما صَنَعَ الإنسان من آلات و حياة آلية كالساعات الصناعية التي تسجن الإنسان بأزمنة صناعية مصطنعة فتغتاله و تقتل إنسانيته تماماً كما تقتل إنسانية الأرض التي يحيا عليها و بها و أنَّ الزمن الحقيقي و الحق مرتبط بالحياة الحقيقية فيزول بزوالها و يحيا بإحيائها و العكس صحيح و أنَّ الزمن نسبي (كما جاء في النظرية النسبية لأينشتاين) فيذوب كما يولد و ينمو و يموت بولادة الموجودات و نموها و موتها. هكذا حَوَّلَت "لوحة الزمن" اللامعنى (أي اجتماع الساعات الصناعية بمعالم الأرض الطبيعية) إلى معان ٍ فحَوَّلَت اللامُنسجِم إلى مُنسجِم و المستحيل إلى ممكن و اللاعقلاني إلى عقلاني ما يدلّ على أنَّ الفن تحويل اللامعنى إلى معان ٍ تماماً كما أنه تحويل اللامُنسجِم و المستحيل و اللامعقول إلى مُنسجِم و ممكن و معقول. لكن العقل البشري يعتمد على هذه التحوّلات و إلا ما فكَّر و ما اكتشف. من هنا , لا عقل بلا فن تماماً كما لا فن بلا عقل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما