الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جريمة في ستراسبورغ - 5 -

علي دريوسي

2019 / 1 / 8
الادب والفن


في الطريق وضعت في مسجل السيارة شريط كاسيت سمعي كانت قد أهدتني إياه ريناتي، أم أزيتا، بعد أن حضرنا لها أمسية موسيقية في مدرسة الموسيقا الشعبية في كارلسروه، ، أدرت المسجل ورحت أسمع، كان الشريط يضم بشكل رئيسي المقطوعات الموسيقية المحببة لقلب ريناتي والتي عزفتها على القيثارة في تلك الأمسية، كانت قد بدأت السهرة بعزف مقطوعة "المصري" للمؤلف الموسيقي الفرنسي جان فيليب رامو، ثم سوناتا للملحن الألماني باول هينديميز، وثالثة للفرنسي مارسيل تورنير وختمت السهرة بمعزوفة ساراباندا وتوكاتا للملحن الإيطالي نينو روتا.

لم تكتسب أزيتا صفات أمها بل أخذت الكثير من جينات إلهامي، وهو اسم أبيها الإيراني، الذي درس الهندسة المدنية في فرنسا ثم عمل بتجارة السجَّاد الفارسي، وكان ينتقد زوجته ريناتي وطقوسها الموسيقية وكيفية ترتيبها للبيت ورفضها أن تفرش سجَّادة عجمية في الصالون مثلاً فكان يهينها أحياناً كما أخبرتني أزيتا فيقول: الصالون بدون سَجَّادَة كالبيت دون امرأة. وآن بلغت أزيتا السابعة عشر من العمر، طلّق إلهامي زوجته ريناتي التي تصغره بخمس سنوات ثم تزوج لاحقاً من سيدة أعمال إيرانية في مثل عمره.

كانت ريناتي في الخمسين من عمرها، معلمة في المدرسة الثانوية، ذكية جداً، موهوبة، قلبها نقي كقيثارتها، رشيقة، متفائلة، تعشق الحياة رغم فقدانها لثدييها بعد إصابتها بالمرض الخبيث، تُمضي أوقات فراغها مع قيثارتها أو في رياضة المشي والتأمل، تعيش على إيقاع الطبيعة، لا تأكل اللحوم ولا منتجات الحيوانات من البيض واللبن والحليب، على النقيض من إلهامي وأزيتا كانت تتقن فن الحديث الاِجتماعي ومنَمْنَمَاته وفن الإنصات للآخرين، وحين كانت تستمع للنقاشات الحامية بين إلهامي وابنته وكيف أنهما يتكلمان في الوقت نفسه وبصوتٍ عال دون أن يستمع أحدهما للآخر، كانت ريناتي تضحك وتقول لهما بصوت رخيم ما سبق لها أن تعلمته من إلهامي: وإذا قُرِئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلَّكم تُرحمون.

كنت أشعر أحياناً بأن أزيتا تعاني من عقدة إليكترا، لم أجرؤ على مصارحتها بالأمر لكني كنت أنتقد بين الحين والآخر الآلية الازدرائية التي تتعامل بها مع أمها بمقارنتها مع الحب والاحترام والإعجاب بشخصية أبيها، أذكر أني قلت ذات مرة من باب المجاملة: القيثارة وأمك ريناتي صنوان. يومها صرخت الخائنة بوجهي ككلبة لئيمة وقالت: إذن تزوجها واتركني. ومرة كادت تجنّ من الغيظ حين قالت لي إحدى صديقاتنا: أنت تشبه الموسيقي النمساوي موزارت قليلاً.

لا أستطيع أن أتكلم معها، أشعر أنها خرساء، لا تتكلم إلا مع نفسها، ردات فعلها غريبة الأطوار، أشعر بأنها تكرهني. كنت أسامحها غالباً وأنسى إساءاتها لأن لا وقت لدي للانشغال بما لا يخدم هدفي الرئيسي ولأني كنت مؤمناً أن اليوم لا بد سيأتي والذي ستعلم فيه أزيتا أنني المحور الأساسي الذي ينبغي أن تدور حوله وتتفرغ لرعايته وصيانته وتشحيمه، لكن علاقتها بالشاب الأسمر مازيغ التي علمت بها اليوم كانت بالنسبة لي هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير، في الحياة ثمة مسامير مغروسة بلين تستطيع إزالتها ومعالجة آثارها وثمة مسامير مدقوقة بمطرقة يصعب عليك نزعها وإن استطعت ستبقى آثارها باقية وشاهدة على الوجع مدى العمر، لن أرحمها بعد اليوم، سأحوّل حياتها إلى جحيم لا يطاق، سأجعلها تندم أنها تعرّفت إلى شخص البروفيسور ياكوب، سأعذّبها ثم أقتلها ولن أهرب إلى أي مكان.

من يضحك أخيراً يضحك أفضل، سأقتلها قبل أن تُدمِّر حياتي، قبل أن تُخرِّب لي مستقبلي العلمي، ما زلت شاباً وأمامي فرص كثيرة لتشكيل عائلة تليق بمقامي، المرأة المسترجلة خطيرة، لايهزم الرجل القويّ إلا امرأة مسترجلة، كل اِمرأة تعجز أمها عن تعليمها فن الطيران لتصير أنثى على الرجل أن يعلّمها على الأقل أن تسرع بالسقوط، سأقتلها لأنني لن أسمح لعيونها الدائرية المحشوة بالحقد أن تتسبَّب في بكائي ندماً على ما حلَّ بي، لا أرغب أن أكون ضحية ولا أن ألعب دور تشاندلر في قصة غيمة صغيرة للكاتب جيمس جويس. سأقتلها، قد أدفنها وقد أصلي على قبرها، لن يشعر أحد بالجريمة، كثيراً ما تُخلِّصك الخبرة من وَرَطَات كبيرة قد تتوحَّل فيها، من الصعب أن تقع الثعالب الذكية في الفخ، من يعش تجربة تنفيذ عملية قتل لن ينساها طيلة حياته، سأرتكب الجريمة دون أن أصبح عبداً لها.

هذه المرأة مثل قطار دون مكابح، لن أعرف حجم الكوارث التي ستخلفها وراءها إلا إذا أوقفتها عند حدها بالقتل، سأقتلها لأنها لن تكون متسامحة معي إذا ما عقدت العزم على طلاقها كما كانت ميلفا ماريك متسامحة مع زوجها، فقد أعطيت أزيتا من وقتي رغم مشاغلي وطموحاتي أكثر مما تستحق وأكثر مما أعطى ألبيرت زوجته ميلفا. لن أطلّقها في بلد يكلّف فيه الانفصال ما لا طاقة لك ولا رغبة بدفعه، طلاقي منها يعني أن أعطيها نصف ما أملك من الشقة والسيارة ومما وفرته، يعني أن أشاركها في معاشي التقاعدي وأن أعطيها من راتبي الشهري كي يصير دخلها معادلاً لدخلي، سأقتلها حتى لو تشفَّعت بها الأنبياء، سأقتلها ثم أرحل إن اضطررت بجسدي وقلبي إلى السماء القصية دون شهود، كما ارتقى يسوع إلى الأعالي بجسده فقط في حضور أحد عشر تلميذاً من تلاميذه بعد أربعين يوماً من قيامته.

سأقتلها لأنّها مثل سمكة تُخبئ شيئاً ثميناً في داخلها وتسبح في بحر كبير كبير بكامل حريتها، كلما حاولت الإمساك بها تتزحلق من بين أصابعي، سأقتلها لأنّها مثل صندوق رمادي عصي على الفتح أو التحطيم، تختبئ الأجوبة بداخله، يُهيأ لك لوهلة أنك قد اكتشفت لونه الأصلي، إنه أسود، ثم تتراجع لتقول: بل أبيض، ثم تعتقد لوهلة أنك تعرف أين مكان المفتاح لتعلن فجأة عن حالة سراب انتابتك، فأنت لن تعرف عنه شيئاً، تتبدَّل أفكارك ورؤاك في رحلة البحث عن ميكانيزمات التوازن مع أزيتا دون أن تتمكن من التوازن، لتبقى هي الوهم المُعلّق في الفراغ.

لقد اتخَّذت القرّار النهائي بقتلها رغم صلابتي الداخلية وعقلي الراجح ونجاحاتي المهنية، سأقتلها لأني إن عدلت عن قتلها وتعاطفت معها فهذا يعني إصابتي النفسية بتناذر ستوكهولم، لأني كلّما فقدت قدرتي على النوم واستبد بي القلق، بعد شجار معها أو بعد الانهماك الشديد في حل بعض المعضلات العلمية في الجامعة، لا أجدها قربي كي أسهر معها وأشكو لها همومي، سرقتها ستراسبورغ مني، فتراني أخرج من البيت وأتسكَّع في الشوارع الخالية إلا من القطط وبقايا بائعات الهوى وكأني أبحث عن إميل سيوران، دكتور الأدب الأخصائي بالحالات السوداوية، ثم أعود إلى البيت كما كان يعود لا لكي أنام وإنما كي أتناول فطور الصباح كبقية الذين ناموا طيلة الليل.

أشعر بأني هرمت في الساعات الأخيرة، طالت ذقني بسرعة هائلة مع أني قد حلقتها صباحاً، كلما غرِقتُ في عملي وحزني حتَّى ذَقَني طالَت ذَقَني، كلما حلقتُها بعد إهمال أعود إلى توازني الداخلي من جديد، لكنني لن أحلقها هذه المرة ولن أعمل بنصيحة توماس والد الرئيس لينكولن بشأن ضرورة الوجه النظيف من الشعر الذي يمنح صاحبه المكانة والقوة بين الناس، سأتركها ناتئة ولن أحلقها قبل أن أكون قد قتلت الخائنة زوجتي ودفنتها مع الجرذان.

هل تعتقدون أن سبب كراهيتها لي وسلوكها اللئيم معي عائد إلى كونها كانت تتمتع بالحاسة السادسة؟ هل تظنون أن ثمة رسالة قد أتتها من الغيب ومنذ اللحظة الأولى لتعارفنا منذرة إياها بأني سأقتلها يوماً؟
سأقتلها وسيأتي الربيع من بعدها!
لكن كيف سأقتلها؟ هو السؤال الذي يحيِّرني ويربكني.
بت أعلم أني عبقري باعتراف الزملاء من حولي ومن خلال الجوائز التي قُدّمت لي في المؤتمرات والمكافآت المالية التي حصدتها من الشركات، ولأن العبقرية سيف ذو حدين عليّ أن أكون يقظاً كي لا أقتل نفسي بنفسي.
المصيبة الكبيرة أنني لا أعرف مع من يجب أن أتكلم في هذه اللحظة كي أرتاح قليلاً.
آه كم رأسي متعب وضائع، ما الفائدة من الشهادات العلمية والنجاحات المهنية، ما الفائدة من المال والعقارات إن لم يكن الإنسان سعيداً متوازناً بين جدران بيته الأربعة والأطفال يلعبون من حوله؟ ما الفائدة من مطبخ فاره لا أحد يطبخ فيه أو من ثلاجة متخمة بالمأكولات وأنت وحيد؟
أريد أن أرتب أفكاري، أريد أن أتكلم مع أحد يفهمني، يحبني ويحفظ أسراري!
أرجو أن تكون هايدرون في شقتها حين أصل إلى شقتي في كارلسروه، دقيقة وأكون في بيتي، سأعتذر في الغد عن متابعة ورشة العمل في ستراسبورغ وسأبقى في البيت أخطط للجريمة المنتظرة.

***
يتبع في الجزء السادس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما