الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السُكياكي

منير المجيد
(Monir Almajid)

2019 / 1 / 9
السياحة والرحلات


قبل يومين دعتني صديقة يابانية لتناول الغداء، في بيتها. هكذا مناسبة يجب أن تُذكر وتُدّون، لأن الناس هنا يدعون ضيوفهم لتناول الطعام في المطاعم، إذا كانوا خليطاً، بمعنى أن يكون الضيوف إناثاً وذكوراً، أمّا إذا دعى صديقٌ صديقاً فسوف يكون، على الأغلب، إلى بارات «الإيزاكايا»، حيث يطيب تناول البيرة والساكيه ووجبات صغيرة، يحقّ لي كسوريّ تسميتها بالمازات، وحيث يترّنح الجميع، بعدئذ، بسكرة متعتعةٍ لن تتمكّن أقدامهم من حمل أجسادهم.
لا أحد يعرف بالضبط حقيقة أن الناس يُفضلّون إصطحاب ضيوفهم إلى المطاعم، هل هي عدم الثقة بإمكاناتهم المطبخية على إعتبار أن الياباني يسعى دوماً إلى الكمال؟ هل هي بسبب صغر بيوتهم بشكل عام، أم هي بسبب الخصوصية والكونسرڤاتية التي تطبع معظم اليابانيين؟
في القامشلي كنّا نتقوّل عن بخل الشوام ببعض النكات، مثل أن يقول الشامي لضيفه «شو رأيك تنام بالأوتيل مشان راحتك؟»، وإن أردتُ رواية النسخة اليابانية، فإن المُضيف سوف يقول «ما رأيك بتناول العشاء في المطعم لأنه أشهى وأطيب؟».

في بيتها المليء بالطوابق والدرج والغرف الصغيرة تعرّفت إلى إبنتها «لينا»، وإبنها «شون»، كلاهما في منتصف العشرينات. لينا مغنيّة أوبرالية وشون، علاوة على أنه يغني أيضاً بعيداً عن المدارس الموسيقية الأكاديمية فإنه يستعدُّ للإلتحاق بمدرسة «غروندڤية» داخلية على إحدى جزر المملكة الدانماركية للتعرّف على نظام بلاد الرفاهية، وكما هو معروف فإن السيد غروندڤي هو الرجل الذي أسّس النظام التعليمي الدانماركي القومي.
بدأنا بتناول القهوة وحلويات ضئيلة الحجم وشهيّة في الطابق الثاني، وتحدثنّا كثيراً. بعدها. قامت صديقتي بتشغيل نظام واي فاي موسيقي متطوّر يُدار من الآيفون وتحضّرت لينا، واقفة وكأنها على مسرح، وغرّدت، حرفياً، بلحنين بديعين اقشعرّت لها بضع شعراتٍ في ساعدي، ودمعة، للإعتراف أيضاً، بقيت في عيني وحرصت على أن لا تسيل.
إنتقلنا بعدها إلى الطابق العلوي المُحاط بشرفة تلفّ مُحيط المنزل من جهتين ومشهد قلعة ماتسوياما الشهيرة القابعة كنسر أسطوري على تلة تُماثلُ جبلاً، وهناك على طاولة فسيحة وُضعت أواني وعدّة تحضير السُكياكي. طعام لم أتناوله، حتى ذاك اليوم، إلّا في المطاعم، لأن تحضيره يتطلب أواني عديدة وحرفيّة يابانيّة تقليديّة في تقطيع الخضار وتحضيرالمرقات واللحوم. ومن ثمة الغيوزا، إحدى أطباقي المُفضّلة هنا.
السُكياكي: اللحم يكون عادة على شكل شرائح رقيقة جداً بسماكة مليمتر، ومن فصيلة أبقار «واغيو» أو بإسمها العالمي «بقر كوبيه»، وهي لحوم يُشكل الدهن فيها خطوطاً تُشبه الرخام، وهذا الدهن الخطيئة هو الذي يعطيها نكهة تُسيّل حتى لعاب النباتيين وتجعلهم يُراجعون أسلوب حياتهم. كما إنه أغلى اللحوم على الإطلاق، حيث أن سعر النوع الجيد منه يبلغ نحو ألف دولار للكيلو. أما إختيار الخضار فإنه يعود إلى الشيف، أو سيدّة البيت إن تجرّأت كما صديقتي. الصفة المشتركة هي التقطيع إلى شرائح ثمّ صفّها أرتالاً على طبق كبير على نحو يتمّيز بالذوق والفهم الياباني للجمال. على منتصف الطاولة هناك آنية واسعة توضع على مُسخّن يعمل على الغاز أو الكهرباء وفيه تُصبّ مرقة الداشي، التي لا غنى عنها في المطبخ الياباني، وهناك تُطبخ الخضار واللحوم على دفعات لمدّة عشر ثوانٍ، وحين تأخذ القليل منها فأنك تضعها في صحن صغير فيه بيضة نيئة مخفوقة تعمل عمل مرقة للغمس.
الإسم أيضاً حصل على شهرة عالمية كبيرة إثر إنتشار أغنية كيو ساكاموتو، والتي أسمها في الواقع أنظر عالياً حينما أمشي، لكن الأمريكان وجدوا لها إسم سُكياكي، ربماً بدونية، لأنهم وعلى مدى نصف قرن كانوا يدعون اليابانيين بإسم منحط (جابز) في أفلام هوليوود المُنحازة بدرجة العنصريّة.
الغيوزا: لحوم مفرومة، النوع حسب المزاج، ممزوجة بقليل من الخضار والزنجبيل الطازج تُلفّ بعناية ديكورية في رقاقة عجين من طحين القمح، ثمّ تُقلى في إناء خاص فيه قليل من زيت السمسم في البداية، ثم يُضاف البعض من الداشي (هنا أيضاً) وتُغطّى لتتبخّر وتستوي على نار هادئة جداً.
الصحبة كانت مناسبة لن تُنسى، والطعام شهي سوف يُحال عليّ معاملة هذه العائلة بالمثل.

البارحة جاء لزيارتي صديقي توربيورن، الدانماركي الذي يسكن في اليابان منذ أكثر من أربعين سنة ويدير مطعماً دانماركيّاً في مدينة كووشي على مبعدة ساعتين على الطريق السريع من قريتي، وبرفقته زوجته اليابانية. تجّولنا في البداية في شوارع مدينة ماتسوياما وعرّفتهم على معالمها، وكنتُ قبلها قد تحدثّت مع صديقي هيرو-سان (الذي يدير مطعماً إيطالياً مشهورا في قريتي). أعرف أنه يكون مُغلقاً أيام الثلاثاء، لكنه تركه مفتوحاً لأجل أصدقائي، وحضّر لنا عدة وجبات من المطبخ التوسكاني الشهير، إعتبره صديقي خلدون عنتابي (حينما كان هنا في ربيع هذا العام) أفضل طعام إيطالي تذوّقهُ في حياته، وهو الرجل الذي زار إيطاليا عشرات المرّات.
وأنا، حينما تناولت الوجبات الدانماركية التقليدية لدى توربيورن، أيضاً في ربيع هذا العام، قلت حينها أنها ألذّ وأطيب طعام دانماركي تناولته في حياتي.
هل هي مُصادفة أن تتناول أطعمة بلاد بعيدة عن اليابان في اليابان؟

اليابان، خريف ٢٠١٨








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع عماد حسن.. هل سيؤسس -الدعم السريع- دولة في د


.. صحف بريطانية: هل هذه آخر مأساة يتعرض لها المهاجرون غير الشرع




.. البنتاغون: لا تزال لدينا مخاوف بخصوص خطط إسرائيل لتنفيذ اجتي


.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال




.. صوت مجلس الشيوخ الأميركي لصالح مساعدات بقيمة 95 مليار دولار