الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التصوير وضمور الضمير

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2019 / 1 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


التصوير الفوتوغرافي لمشاهد الحرب La photographie de guerre يشمل كل الصور التي التقطت في مناطق النزاع المسلح ، سواء أثناء المعارك تحت نيران االمدافع والقنابل، او بعد المعارك الدامية حيث تصور الجثت وآثار الدمار الذي سببه القصف العنيف للمدن والقرى. غير أن أصالة معظم صور الحرب الأكثر إثارة هو أمر مشكوك فيه، ذلك أن العديد من هذه الصور المثيرة لم تكن عفوية كما يعتقد المشاهد وإنما تم تنظيمها وإخراجها في هيئة مسرحية، أو تم القيام بتغييرها بواسطة الرتوش والتنميق، هذا على الأقل في البداية، أما الآن رغم إستمرار وجود هذه الظاهرة، إلا أن التكنولوجيا الحديثة أصبحت قادرة على فضح أي نوع من الغش أو التزوير.
لقد بدأ التصوير الفوتوغرافي الحربي منذ بداية التصوير الفوتوغرافي في أربعينيات القرن التاسع عشر، وكانت تكنولوجيا التصوير - فيزيائيا وكيماويا - في ذلك الوقت تتطلب وقتا طويلاً من الزمن لإنتاج الصورة، ونتيجة لطول الزمن الذي تحتاجه الشرائط الحساسة للضوء لتثبيت الصورة، فإنه كان من المستحيل تصوير المواضيع المتحركة، وركز المصورون على الجوانب الثابتة مثل التحصينات والآليات والخنادق وبورتريهات الجنود في فترات الإستراحة وتناول الطعام، وكذلك القتلى والجرحى والمنازل والمنشآت المدمرة وساحات القتال قبل وبعد الأعمال العدائية.
ومنذ البدايات الأولى للتصوير عموما، وتصوير مشاهد الحرب والعنف بشكل خاص، برزت كل الإشكاليات الأخلاقية والإجتماعية والسياسية والتي ما تزال قائمة حتى اليوم، وبالذات مسؤولية المصور الأخلاقية وموقفه مما يسمى بـ "الحقيقة". رأينا كيف حرمت الديانات التصوير في العصور الغابرة، حيث كان التصوير مقتصرا على نحت التماثيل، ومع ظهور التصوير الفوتوغرافي أصبح من المستحيل مواصلة هذا التحريم، نظرا لإنتشاره السريع، ونظرا لفائدته العملية في عشرات المجالات الحيوية. ولكن أيضا بإعتبار التصوير ليس خلقا أو إبداعا بشريا، لأنه يعتمد على ميكانيكية وآلية الكاميرا، فهو شيئ يشبه المرآة، مجرد إنعكاس لما هو كائن وليس خلق كائنات جديدة، وبالتالي فالمصور لا ينافس الله في قدرته على الخلق من العدم وبذلك يسقط التحريم. ولكن في بعض المجتمعات المنعزلة عن العالم الحديث، كان البعض يخاف من آلة التصوير لأنها "تسرق الروح " حسب ما ترويه بعض الأساطير التي كان يروجها بعض الأنثروبولوجيين. وإذا تسائلنا عن موقف المصور ذاته من الحرب ثم من نشر هذه الصور على العالم، فلا شك بأننا سنواجه أجوبة متعددة ومختلفة حسب إتجاه المصور وثقافته السياسية والفنية. وعادة ما نجد التبرير المكرر كذريعة لتصوير مشاهد العنف " ضرورة تسجيل الواقع" ونقل هذه - الحقائق - الفظائع للعالم حتى لا تتكرر. ولا شك أن المواطن العادي بعيدا عن الأحداث لا يستطيع أن يكون رأيا واضحا عن الموقف، ويبدو أن الصورة يمكن أن تساعده على تكوين فكرة ورأي حول الموضوع. ولكن مشكلة المصور هي أنه يتواجد في قلب المعركة دون أن يتمكن من التأثير في الأحداث، إنه مجرد مشاهد ومراقب وشاهد تفصله عما يجري العدسة وآلة التصوير. المصور يعتقد إذا بالتأثير السحري للصورة وقدرتها على تغيير الأشياء في العالم المحيط بنا، ولذلك فإنه يتشبث بعدسته، وبدلا من يترك آلة التصوير جانبا ليذهب لإنقاذ الغريق، فإنه يفضل تسجيل هذه اللحظات التاريخية لحظة بلحظة. ورغم أنه من الممكن أن نأخذ في الإعتبار هذه الفكرة، وأهمية تسجيل الأحداث وأهمية الذاكرة والأرشيف إلخ، إلا أن هذا العمل، ووظيفة ريبورتاج الحرب تظل غامضة وتثير عشرات الأسئلة المشبوهة ولا يمكن الدفاع عنها ببساطة. ذلك أن الرأي العام السليم يقول لنا بأنه من الأفضل إنقاذ الغريق ومساعدته بدلا من تصويره، ولكن قوانين العالم الرأسمالي الذي نعيش فيه اليوم لا ترى الأمور من نفس الزاوية الإنسانية البسيطة، المصور لا يفعل أكثر من القيام بعمله الذي أسند إليه، وهو تصوير الرعب الذي يراه من خلال العدسة، ومهمة إنقاذ الناس هي مهمة أخرى تخص نوع آخر من الوظائف. وهذا التخصص الضيق والمحدود هو إحدى الدعائم الأساسية للنظام الشمولي والصناعي. وهذا التخصص هو الذي يسمح لقائد المقاتلات العسكرية بقتل العشرات من البشر دون أن يراهم بمجرد الضغط على زر إطلاق القنبلة، ويعود إلى بيته مساء لتناول عشاءه واللعب مع أطفاله قبل أن يأخذهم النوم وهو يقرأ عليهم حكاية الأمير الصغير The Little Prince، بضمير لا يثقله أي هم من الهموم، فهو لم يقم سوى بعمله الذي يتلقى من أجله راتبه الشهري ليشتري خبزه وخبز أولاده.
فالصحفي والمصور ومخرج السينما والفنان والمثقف والفيلسوف وما شاكلهم من الطبقات المتوسطة والعليا من المجتمعات الحديثة، جميعهم يعملون اليوم في نفس هذه الشركة العالمية " شركة المسؤولية المحدودة ". كل يقوم بعمله المحدد، ولا يعرف ولا يهمه ما يقوم به الآخر، بل إن نتائج العمل ذاته لا تخصه مباشرة، فهي من مهام الشركة العامة. قد تقود قطارا من مكان لآخر، هذه هي مهمتك الواضحة، أن توصل القطار إلى محطته في الموعد المحدد، أما ما يحتويه القطار فهي مهمة الشركة. فقد يكون القطار محملا ببشر نقودهم إلى المحرقة وغرف الغاز، وقد يكون محملا بمواد إشعاعية، أو بمواد كيماوية قاتلة، هذا ليس من إختصاصك ولا يعطيك الحق في رفض قيادة القطار. لقد وصلت درجة التخصص في بداية هذا القرن إلى درجة مرعبة، بحيث أصبح أي عمل من الأعمال مفتتا ومقسما إلى عشرات المهام، كل منها يشرف عليها قسم خاص محدد، بحيث أصبح عالم الفيزياء أو الكيمياء أو الإقتصاد، يشتغل طوال حياته في مختبره على جزء محدد في غاية الصغر من برنامج ضخم يتجاوز قدراته الشخصية، وعادة لا يستطيع فهمه كلية ولا يستوعب كل نتائجه على المجتمع ولا على البشرية ولا على التوازن الإيكولوجي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم