الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن رحلتي التدريبية لألمانيا الغربية عام 1964 ( 2- 2) الجزء الثانى

بشير صقر

2019 / 1 / 10
سيرة ذاتية


ثانيا : المزارع الثاني ..كارل بوكر Karl Böker – لينجن (Lingen ) :

وصلتنى في مستشفى كورباخ رسالة من الغرفة الزراعية بالمقاطعة تفيد بموعد سفري إلي قرية لينجن –Lingen في شمال ألمانيا ومعها تعليمات بالاحتفاظ بتذاكر السفر بالقطار لكي أسترد قيمتها فور إرسالها للغرفة الزراعية في المقاطعة الجديدة.

هذا وقد تهيأتُ للسفر وودعت كل من تعرفت بهم في المستشفي خصوصا الطبيب وشددت الرحال إلي لينجن حيث اقتضي الوصول إليها رحلة بطول نهار كامل بالقطار علي مرحلتين. وفي تلك الرحلة لعب القطار دور المرافق لي أوآلة العرض التي لاحقت نظري بعشرات اللوحات الطبيعية الخلابة للسهول والجبال الموشاة بالأشجار والمزروعات والألوان الرائعة المتسقة والمختلطة والمتداخلة . كما شكلت السماء بسحبها الخفيفة - التي تطل أحيانا عليها في حياء صبية في الرابعة عشرة - خلفية تُنْطِق شريط اللوحات بأرق ما فيه من كوامن وموسيقي صامتة.

مصري أم إفريقي .. ما الفرق..؟:

استقبلني المزارع كارل بوكر في المحطة النهائية وكان علي غير سَلَفه السابق شابا في السادسة والثلاثين طويل القامة عريض الجسم يتسم بدرجة من التلقائية والمباشرة.. تلقفني فور نزولي من القطار بمناداة اسمي ؛ حيث تبادلنا حديثا قصيرا بشأن الرحلة وطولها وخرجنا إلي حيث ترك سيارته.. وقبيل الوصول إليها تذكرت أنى سلمت موظف المحطة التذكرة ولم أحتفظ بها كما كان مفترضا . وعلي الفور أخطرت المزارع طالبا منه العودة لاستردادها ؛ وعدنا معا للموظف - الذى كان ما يزال واقفا علي باب المحطة ومعه تذاكر المسافرين الذين غادروا القطار- وطالبه المزارع بإعادة التذكرة قائلا: لقد نسينا تذكرة هذا الإفريقي التي تبدأ من محطة كورباخ نظرا لأنه سيسترد ثمنها .

استعدنا التذكرة وفي طريق العودة للسيارة.. قلت للمزارع : لقد لقبْتني بالإفريقي في حديثك مع موظف المحطة .. فقال : نعم . قلت له مصر تقع في قارة إفريقيا هذا صحيح ؛ ولكن الناس يتم تعريفهم بالأساس باسم بلدانهم الأصلية وليس باسم قاراتهم . وعندما تناديني فأنا بشير وعندما تُعرّفُني فأنا مصري وعندما تحدد قارتي فأنا إفريقي .. علما بأني أحب إفريقيا وأعتز بها .

ورغم أن الخلط في نعْتي ( بين إفريقي ومصري) أمر بسيط جدا ؛ ولو جري ذلك في مكان آخر لما توقفت عند الموضوع بالمرة؛ لكني لحظة نطق المزارع بكلمة إفريقي هرْوَل لذاكرتي مشهد جري من شهور مع عدد من الأفارقة ذوى البشرة السمراء في مطعم معهد الآلات في الأيام الأولي لوجودنا في ( فيتسن هاوزن).. كنتُ ومحمود الشيخ من مشاهديه .

ففي وجبة غداء بالمطعم كان ضمن رُوّاده خمسة من الأفارقة يجلسون علي منضدة واحدة بينما بقية المصريين وغيرهم يجلسون علي مناضد أخري. وعلي ما يبدو أن أحد الأفارقة أبدي ملاحظة ما .. لا نعرف كنهها؛ فوجدنا أحد موظفي المطعم يصيح - وقد بدت عليه علامات الغضب - ويؤنب الأفارقة ويزجرهم بشدة وبصوت عال وأمام الجميع. والأهم أنه بانتهاء التأنيب وجدنا الأفارقة في حالة من الانكماش والصمت والرضوخ وربما الخوف - لم نشاهدها من قبل – عكس حالتهم قبلها بدقائق؛ مما دفع محمود الشيخ للتعليق عليها قائلا : " يا نهار أسود .. دا حايدّوهم بالجزمة ". وانتهي المشهد ولم نستغرق في التعليق عليه كثيرا لكنه ظل عالقا بمخيلتنا طيلة بعثتنا التدريبية.

ولذا عاد بي خاطري - في لحظات - لذلك المشهد عندما نطق المزارع بوكر بعبارة الإفريقي لموظف المحطة. والواضح أن فكرتي عن دلالة مشهد المطعم والأفارقة لدي الألمان هي ما دعتني لاستيقاف المزارع ومراجعته ؛ بمعني.. أن الاعتراض لم يكن علي عبارة إفريقي في حد ذاتها بقدر ما كان لدلالتها السلبية في نظر الألمان.

وصلنا المنزل وعرّفنى كارل بوكر بأهله وأسرته وكانوا مجموعة من الإخوة المتزوجين- ثلاثة تقريبا- لكنهم يصغرونه .. إضافة إلي زوجته.

انخرطتُ في العمل في اليوم التالي وسارت الأمور طبيعية وأتذكر أن نشاطه كان يغلب عليه زراعة المحاصيل كالقمح والذرة وأرضه مع إخوته – التي يتولي إدارتها حيث يمنع القانون تجزئة الأرض بالتوريث - كانت أكبر مساحة من أرض المزارع الأول؛ والعمل أكثر وأكثف ؛ ومنزله أوسع كثيرا ويضم عددا كبيرا من الآلات الزراعية المتنوعة ، والجو الاجتماعي أفضل حيث كان إخوته متعاونون ويساعدون في مواسم العمل الكثيف.. إلخ.

رسالتان أخريان للمسئول المصري ووكيل الوزارة الألماني:

أثناء رحلة القطار من كورباخ إلي لينجن طاف بخيالي شريط الشهور السابقة ؛ ولذا عقدت العزم علي وضع الحقيقة أمام الدكتور كريسكين وكيل وزارة مساعدات الدول النامية - برسالة مكتوبة بالألمانية - ربما تفيده في التنبه لما يجري لأبناء بلادنا النامية إن كان لا يعرفها .. وإفهامه أنني أدرك حقيقة أوضاعهم هنا وأرفضها - مع كثير من المتدربين- إن كان يعلم الحقيقة ويتجاهل .. وفي نفس الوقت ربما تخفف درجة المعاناة التي يتعرض لها المتدربون المصريون في ألمانيا.

كما قررت أن أرسل خطابا آخر مفصلا باللغة العربية للمسئول المصري المقيم ببون والمكلف بالإشراف علينا لعله يستحى إن كان مستغرقا في غيبوبة الانشغال بأهوائه الشخصية أو غارقا في شئون البيزينيس ومداهنة المسئولين الألمان.

ولكى أشعره بأن في صفوفنا من هم أعلي منه إدراكا بظروف المتدربين في الغربة ؛ وأعمق تقديراً للمسئولية ؛ ويطالب بما يجب أن يُتخَذَ بشأنهم من رعاية ومتابعة.. تعديلا لأوضاعهم البائسة وتيسيرا لهم في الاستفادة من البعثة ؛ وليتأكد كذلك أن هناك من هم أكثر حرصا علي تمثيل بلادهم الغنية بأبنائها والمحتاجة لمن يُصوّبون لهم مسارها ويصونون هيبتها ويُعظّمون عوائدها ويضعونها في مركزها اللائق بين الأمم .. فمصر ليست فقط أهرامَ الجيزة وأبا الهول.

وبعد أيام شرَعْتُ في كتابة الرسالتين وتركتهما بعض الوقت لأعود لهما بعد أيام مرة أخرى فأعيد قراءتهما لتنقيحهما وسد ثغراتهما وإحكامهما لتكونا جاهزتين للإرسال.. وبالفعل قمت بذلك في الخمسة عشر يوما التي تلت وصولي إلي لينجن.

مفاجآت ومحاورات وممازحات اجتماعية ومبالغات أقرب للتلفيق :

ذات يوم سمعت صوت طفل يبكي ويبدو من صوته أنه رضيع ؛ وبعد دقائق صادفت زوجة كارل فقلت لها لقد سمعت صوت طفل يبكي.. هل في منزلكم ضيوف..؟ ، أجابتني وقالت : إنها ابنتي ..كانت جائعة. وعلي الفور قلت: لأول مرة في حياتي أتواجد في منزل لمدة شهر ونصف به طفل رضيع ولا أسمعه يبكي ولا أراه..! . قالت ضاحكة : سأحضرها بعد العشاء لتراها ..

كان كارل معتادا علي استضافة المتدربين المصريين بمزرعته.. وفي إحدي وجبات الغداء كانت زوجته تُعِدّ الطعام قبل موعد تناوله بأقل من ساعة؛ فسألتها : هل ستنتهين من إعداده في الموعد..؟ ردّت : وقبل الموعد. فعلقتُ قائلا : أليس الوقت ضيقا ..؟ قالت : لا ؛ وأردفت مستكملة : هنا نعد الطعام في ساعة ونأكله في نصف ساعة . فسألتها : هل تعرفين شيئا عن إعداد الطعام في مصر..؟ أجابت: تعدونه في نصف نهار وتلتهمونه في نصف ساعة . فانفجرت ضاحكا بينما هي تبتسم.

بعد انتهائها من إعداد الطعام أشارت لي إلي مكان الأطباق لأساعدها في وضعها علي المنضدة ؛ وفي دقائق كان أفراد العائلة يتخذون أماكنهم علي المائدة ؛ وكان من طقوس أسر الفلاحين الألمان قبل كل وجبة تأدية الصلاة جلوسا علي موائد الطعام قبل أن يشرعوا في تناوله.


قبيل الانتهاء منه فوجئت بها تحدثني وتشير لطبق الحلوي قائلة : بشير.. هذا مُخلّل ..( نطقتْها كما ينطقها شيخ أزهرى متمكن من اللغة العربية الفصحي) فضحكْتُ وسألتها من قال لك هذا..؟ . ردت: عبد الحميد . وأضاف كارل مفسرا: المتدرب المصري الذى كان هنا في العام الماضي.

في المساء أحضرتْ الزوجة ابنتها الرضيعة لأراها فأخذتها منها لدقائق وقلت: كنت وأنا في العاشرة أحمل أخي الصغير أحيانا عندما تكون أمي منشغلة في إعداد الطعام.

استردت الزوجة ابنتها وعادت بها لحجرتها. وبعد دقائق حضرَتْ ومعها صورة لمبنى مصرى ضخم أرتها لي وقالت : هذا منزل عبد الحميد في مصر.. فسألتها ألا تعرفين في أي محافظة يعيش..؟ فردت : لا أعرف. أعدت لها الصورة وأنا أبتسم وقلت: إنه كبير.

لقد كانت العبارات التي تقولها باللغة العربية - نقلا عن المتدرب السابق – تُرجح أنه كان إما من أصول صعيدية أو من محافظة الشرقية فأبناء تلك المناطق ينطقون القاف ( ق) جيما (ج) وتختلط بعض كلماتهم اليومية بألفاظ فصحي مثل كلمة ( مُخلَّل).

حصّادة تقوم بعمل 7 آلات أو عشرين رجلا:

بعد أيام كنا في الحقل نحصد القمح بآلة مركبة تسمي ( حَصّادة - Mähdrescher ).. تقوم بحوالي 8 عمليات متتابعة في وقت واحد هي قطع القمح من سيقانه قرب سطح الأرض ، وفصل السيقان عن السنابل ، وفرك السنابل للحصول علي الحبوب منفرطة؛ وفرز الحبوب وتدريجها ثلاث درجات حسب الحجم ، ودفعها إلي ممرات ومخارج لتسقط في أكياس كالأجولة في نهاية الثلث الأول من الآلة ، إضافة إلي ثنْى السيقان وكبسها وتحويلها إلى كتل ضخمة من القش علي هيئة متوازي مستطيلات بوزن حوالى 18 – 20 كجم للواحدة، وتحزيمها وربطها بإحكام بخيوط من الدوبارة ، ودفع حزم القش لأسفل مؤخرة الآلة لتتساقط علي أرض الحقل في خطوط منتظمة من مخارج واسعة مستقلة.. ليتم تجميعها فيما بعد ونقلها إلي مخازنها.

كنا نعتلي الماكينة التي يقودها من المقدمة سائق ماهريتحكم في ذراعين يحددان عرض المسافة التي تمر بها للحصد ، بينما يقف خلفه- فى بداية الثلث الثاني منها - فردان علي الأقل وبجانبهما كمية من خيوط الدوبارة بطول 40- 50 سم والأكياس التي يجري تركيبها علي فتحات مخارج حبوب القمح الثلاثة وتثبيتها بذراع صغير؛ وفور امتلاء الكيس يتم رفع ذراع التثبيت وسحبه للخلف وتركيب أخر مكانه ثم ربط الممتلئ يدويا بخيوط الدوبارة .. وإزاحته جانبا لحين الوصول إلي رأس الحقل التي يجرى فيها تجميع أكياس الحبوب لنقلها .. وهكذا.

باختصار تقوم الحصادة بثماني عمليات هي: الحصاد ( قطع النبات من أسفل سيقانه) ؛ والدراس ( أي فصل السنابل عن القش وتفريطها وتكسير السيقان) والتذرية (أي فصل الحبوب عن التبن) ؛ وفرز وتدريج الحبوب ( حسب حجمها )؛ وكبس القش ( في كتل منتظمة الأبعاد) ؛ والتحزيم ( بالدوبارة للكتل المكبوسة)، وتجميع الحبوب (بوضعها في أكياس).. بينما لا يقوم العاملون عليها إلا بعمليتين يدويتين ..[ القيادة ؛ وتركيب أكياس الحبوب علي مخارجها وسحبها فور امتلائها ثم ربطها وتركيب أخرى مكانها] .

هذا وكنت أقوم بكل هذه المهام ما عدا قيادة الآلة التي تحتاج لعمال مهرة يقتصدون في الوقت ويقللون الفاقد ولا يتركون مترا في الحقل دون حصاد ويتخذون المسار الذى يسهل عملية تجميع حزم القش المضغوطة دون التداخل مع مسار الآلة.. ومن ثم تجَنّب عرقلتها للعمل.. علاوة علي مشاركتي في نقل حمولات الحبوب والقش بالجرار من الحقول إلى المنزل وتفريغها ووضعها في المخازن.

ونظرا لحيازتي رخصة قيادة كان كارل يترك لي قيادة السيارة – في وجوده – في شوارع القرية في بعض الأحيان متجنبا الطرق السريعة.

في أحد أيام الحصاد - وأثناء تناول الطعام - سألني المزارع كارل: هل شاهدت هذه الآلة بمصر قبل حضورك ..؟ فأجبته بالنفي وقلت : أول مرة أشاهدها وأعمل عليها.. إنها رائعة. فصمت للحظات وهو يتأملني وقال: لمْ تُستَخدم في ألمانيا إلا منذ سنتين . فأضفت لكلامه قائلا : ليس أقل من خمس سنوات أخرى لتستخدم في مصر. فقال مستفسراً : لماذا..؟ . أجبت : لأنه لابد من اختبار مدى ملاءمتها للبيئة والتربة المصرية أولا، والتكلفة مقارنة بثمنها و تكلفة صيانتها، والفوائد والعائد الاقتصادي وأخيرا التدريب عليها ..إ لخ ؛ وعموما هي لا تصلح للعمل إلا في المزارع الواسعة.

وساعتها لا أعرف لماذا تذكرت صورة المبني الضخم الذي ادعي عبد الحميد - المتدرب المصري- أنه منزله في مصر بينما الحقيقة أن الصورة كانت لمجمع المصالح بميدان التحرير بالقاهرة. وتساءلت بيني وبين نفسي إن كان استفسار كارل بوكر لي - عن وجود آلة حصاد القمح المشار إليها في مصر - عفو الخاطر أم كان مقصودا ..؟

زيارة مفاجئة لمسئول ألماني " مجهولة " الغرض :

بعد حوالي شهر فوجئت بمسئول جديد من الغرفة الزراعية يصل إلي لينجن طالبا مقابلتي والتحدث معي. وعلي الفور سألت المزارع كارل عن سبب تواجده..؟ فقال: ربما هي زيارة عادية – دورية- لتفقد أحوال المتدربين. عدت لسؤاله :هل سبق لك مؤخرا الاتصال به..؟ فنفي.

رحبت بالمسئول الذى كان في منتصف العمر ( 38 – 40 سنة ) وسيما وطويلا نسبيا ومهندما ..أقرب لنجوم السينما.. وبدأ حديثه بالسؤال عن أحوالي وأوضاع العمل ؛ فأجبته : علي ما يرام ( Alles Kla ) فسأل : هل تشكو من شئ ، فأجبته بالنفي. طالبني بدفتر الملاحظات الذى أدون فيه ملاحظاتي عن العمل اليومي للاطلاع عليه .. فأحضرته وتصفحه بدقة.. وبعد الانتهاء منه قال لي : لكنك دونت بعض ملاحظات ليست صحيحة. فقلت له : ماهي..؟ ومددت يدي نحو الدفتر الذى كان قد ألقاه علي المنضدة المجاورة .. فأشار بيده إشارة تعني ( دعك من الدفتر) . فقلت له : لكي أستدل علي الملاحظات الخاطئة . فرد: سأقولها لك.. مثلا عندما تتحدث عن الطقس . لم أجدك مرة واحدة تقول أن الطقس لطيف.. بل تقول الجو ممطر ؛ أو تيارات الهواء شديدة ؛ أو السماء مليئة بالسحب. فأضفت له : أو الشمس ساطعة ..أو الجو دافئ أو بارد، فتوقف حتى أكملت. قلت له : نعم أسجل حالة الطقس ( درجة الحرارة صعودا وهبوطا ، سطوع الشمس ، هبوب الرياح ، نزول المطر ، ظهور السحب .. أو العكس) فما الخطأ في ذلك..؟ فرد وهو يكظم مشاعره: لم تقل مرة أن الطقس جميل ..لماذا ..؟ ألم يكن الطقس جميلا مرة واحدة منذ قدومك إلى لينجن..؟ فتنبهت لغرضه وسعيت لتوضيح سبب ذلك وتبديد علامات الضيق التي بدت علي وجهه وقلت : هل تسمح لي أن أوضح سبب ذلك..؟ قال : تفضل. قلت له : في الزراعة نهتم بعناصر الطقس : التي ذكرتها لك منذ قليل لأنها تؤثر على كل العمليات الزراعية من إعداد الأرض و زراعتها ورعاية المحصول وتسميده ومقاومة الحشرات والحشائش الضارة ثم حصاد المحصول ونقله وتخزينه.. لذلك نحدد بدقة هذه العناصر. أما ما ذكرتَه أنت عن أن الطقس جميل .. أو حتى سئ فهي أوصاف وتعبيرات عن محصلة أو مجموع هذه العناصر.. لكنها لا توضح التفاصيل وبالتالي لا تفيد ؛ ولا تؤاخذني إن قلت أنها لا تستخدم في الزراعة .. فرجع للخلف علي مقعده ورفع حاجبيه وقال مستنكرا : إذن أين تستخدم..؟ فقلت له : في موضوعات اللغة والآداب وفي الدروس التي نسميها دروس التعبير . فعبارة الطقس جميل لا تحدد لنا إن كانت درجة الحرارة مرتفعة أم منخفضة أو الشمس ساطعة أم غائبة.. أم غائمة أو المطر خفيف أم غزير .. إلخ.

لقد استنتجت أن الرجل ليس زراعيا وربما يكون مسئولا إداريا بالغرفة ، كما احتملت أن يكون حضورُه أحدَ أعراض رسالتي للدكتور كريسكين أو للمسئول المصري.. وربما يكون كريسكين قد أوصاه بمعرفة أوضاعي بسبب ما حدث مع المزارع الأول .. ونظرا لأنه إداري حسبما استنتجت كانت تعليقاته بعيدة عن الفهم الزراعي. لكن الأهم من كل ذلك وما أثار استغرابي بشدة كان استياؤه من عدم كتابتي أن الطقس جميل كما لو كان الطقس من صناعة الألمان وليس بسبب عوامل مناخية أو باعتباره يعيب بلده.. ولم أتبين إن كان ذلك ناجما عن مجرد ثقافته المحدودة أم كان عرضا من أعراض رسائلي لـ د. كريسكين..؟

بعدها سألته عن ملاحظات أخري بخلاف عبارة ( الطقس الجميل- SchÖnes Wetter) فقال : أنت لا تستجيب للملاحظات التي تقال لك .. وستجد صعوبة فيما بعد في عملك مستقبلا .فسألته : عملي في مصر أم هنا فربما أحضر لديكم للعمل. فقال: في الاثنين. فقلت له : لا أعتقد أن ذلك سيحدث في مصر. فعاجلني مستفسرا: وهنا..؟ قلت له : إذا عملت هنا سأصبح وزيرا في سن الأربعين. فرد بابتسامة مبتورة : أنت واثق من نفسك كثيرا؛ وعلي ما يبدو أنه كان يقصد من تعليقه الأخير أنني واثق بنفسي بأكثر مما يجب.

بعدها قام من مجلسه متوجها إلي حيث كان يوجد المزارع وتبادل معه الحديث لدقائق ثم لوّح لي بيده وغادر.

في أحد أيام العطلة الأسبوعية تجمع إخوة كارل بمنزله لقضاء الأمسية وتطرق حديثنا للمتدرب المصري عبد الحميد ؛ فإذا بزوجة كارل تسألني : بشير ماذا تعنى عبارة " يُخْرُب بيت أمِّك "..؟ ( ونطقت الجزء الأخير بالعربية لكن بطريقة ألمانية ) ؛ فابتسمتُ ابتسامة تكتم الضحك.. بينما وجهها يفصح عن توقعها لإجابة مثيرة. فأجبتها وسط إنصات الجميع : لا تعنى شيئا. فقالت : إذن لماذا ضحكت أو كنت ستضحك..؟ فرددت عليها : لأنها مجموعة حروف عربية مرتبة ترتيبا عشوائيا لا يعطى معنى بل يعطى نغمة أو صوتا مضحكا.. ليس أكثر. صمتَتْ غير مقتنعة وعلقت : ربما. لكنها فيما بعد عندما كانت تجدني.. تناديني: بشير . وعندما ألتفت لها تقول : يُخْرُبْ بيت أمِّك . فأرد عليها : شكرا.

خبرة حياة .. لجندي ألماني سابق:

علي الناصية الخارجية لمنزل المزارع كانت هناك حجرة منفردة ملحقة بها دورة مياه .. يقطنها رجل عجوز يمت لأسرة ( بوكر) بصلة قرابة . كانت ملامحه وهيئته تشيان بأنه كان فارع الطول جميلا ووسيما .. ممشوقا وربما رياضيا .

في عطلة أسبوعية تالية ذهبت إليه مستكشفا. ألقيت عليه التحية وقلت كيف حالك ..؟ رد: حسن. فقلت له هل تعرفني : فأجاب : لا .. لكنى أعرف أنك تعمل مع كارل وأنك أجنبى. فسألته : هل نتعارف. فرد . ولم لا..؟ قلت له : إسمي بشير صقر ؛ من مصر وأدرس فيها الزراعة ؛ وأتدرب هنا . فقال لي : منذ متى تتحدث الألمانية : أجبته منذ 5 شهور تعلمتها هنا. فعقب ضاحكا : أنت تتحدث جيدا. قلت له: لقد كنت أدرس 6 ساعات يوميا وأستذكر دروسي 6 ساعات أخرى لمدة 9 أسابيع إضافة لـ 5 أسابيع أخري في معهد للآلات .؛ علاوة علي أني أختلط بالناس كثيرا وأتحدث معهم أكثر وهذا ما أفادني. فهز رأسه وعقب : حسن .. حسن.. ثم سألني: أتحب أن تشرب شيئا ..؟ فأجبته.. شكرا ، لكني يمكن أن أشاركك إن كنت ستشرب.

أخرج العجوز من دولابه زجاجة نبيذ أحمر وأحضر كوبين وأعطاني واحدة منهما. وكررها بعد فترة قصيرة. فسألته ماذا كنت تعمل: فرد : أعمالا كثيرة. سألته: منها الزراعة ..؟ أجاب : نعم لكني لم أكن أحبذها. سألته : هل تزوجت . فرد : مرة .. لكنها توفيت من سنوات. فواسيته قائلا: يا خسارة (Schade) . فعلق قائلا : كلنا سنموت. سألته : هل لديك ذكريات . قال : كثيرة.. لكني لا أحب الحديث عن الماضي. سألته مستكملا: حتي الذكريات الطيبة..؟ . أجاب: كلاهما .. الطيبة والسيئة من الماضي .. الحديث عن الغد أفضل.

خلال الحديث عرفت أنه دخل الجيش وشارك في الحرب العالمية الثانية- Zweite Welt krieg( 1914- 1919 ) فسألته: لكني أحب أن أستفيد من خبرتك في الحياة ( (Ihre erlebnessهل يمكن أن تعطيني بعضها..؟. فرد عليّ قائلا: الحرب سيئة (Krieg ist schlecht) .. ثم استكمل ضاحكا : أما خبرتي في الحياة فهي: فاستخدم يديه معا ثم إصبعين من إحداهما وقال ( نساء كثيرات ومشروبات كثيرة - viele frauen viele trinken) فضحكت من أعماقي بصوت عال .. وشكرته مغادرا بعد ساعة والنصف من المتعة.

بعدها كلما كنت أصادفه كنت أحييه وأقول له : مشيراً له بيديّ الاثنتين ثم بإصبعين من إحداهما (نساء كثيرات ومشروبات كثيرة). فيبتسم ملوحا لي بيده.

خطابي للدكتور كريسكين وكيل وزارة المساعدات الألمانية للدول النامية:

بعد استقراري لدى المزارع الثاني كارل بيكر بأيام ؛ وقبل زيارة مسئول الغرفة الزراعية بالمقاطعة بحوالي أسبوعين؛ وفي احدى مقاهي القرية كتبت الرسالة بالمضمون التالي وإن اختلفت صياغتها نسبيا :

السيد د. كريسكين وكيل وزارة المساعدات الألمانية للدول النامية بون
بعد التحية
يتقدم بهذه الرسالة المتدرب المصري بشير صقر الطالب بالمعهد العالي الزراعي بشبين الكوم/ مصر.
أعرف جيدا معني أن وزارتكم تسمي وزارة مساعدات الدول النامية. ولذا أشكركم علي إتاحة الفرصة للطلاب المصريين للتدريب ببلدكم الكبير والذي يُضرَب به المثل في معظم بلاد العالم علي الجدية وحب العمل واحترامه، بل وأؤكد لكم أنني - رغم ما سأقوله فيما بعد - سعيد جدا بهذه الرحلة وبالتدريب الذى تلقيته وبوجودي بين الشعب الألماني؛ وبتعلم اللغة الألمانية .كما أشير لمسألة هامة – ربما لا تتوقعونها - تتلخص في أن ما استفاده معظمنا من التواجد علي الأراضي الألمانية وفي ضيافة حكومتها يتجاوز كل ما تعلمناه في أمور الزراعة؛ وقد كنت آمل أن تتساوي الكفتان. فالجدية والانضباط ؛ وحب العمل والتفاني فيه ؛ والنظر إلي الأمام والتعلم من كوارث الماضي ؛ ودعم الشعوب النامية ؛ والأمانة في تطبيق العلم في مختلف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل والرياضية كلها أمور لمسناها عن كثب وشممنا رائحتها وشاهدنا نتائجها حتي صارت علامات تشيد بالشعب الألماني وبقدرته علي إعادة بناء بلده في أعقاب حرب مدمرة قبل أن تحوز إعجاب مشاهديه. وأنوه قبل الدخول في الموضوع لمطلب صغير يتمثل في استقبال ما أعرضه عليكم بسعة صدر.

1-لاشك أنك تدرك أن المتدربين شباب صغار ليست لديهم خبرة الحياة - عموما – التي يتسم بها الكبار ، ويفتقرون لخبرة الحياة والتعامل مع شعب أوروبي فهم للمرة الأولي يغادرون وطنهم .

2-بل إن الأجانب – من أي بلد- عادة ما يشعرون بالغربة وأحيانا كثيرة بالوحدة إذا ما غادروا وطنهم حتي لو كانوا من مجتمعات شبيهة ، ويشعرون بها أكثر لو كانوا من مجتمعات شرقية.

3-كان من الضروري من جانبكم التوجه للمعلمين الألمان في فروع معهد جوته ومعاهد الآلات وللمزارعين بشكل أخص بتوجيهات ونصائح إرشادية تتصل بكيفية التعامل مع الأجانب خصوصا أبناء البلدان النامية ؛ وأن يتحلوا بسعة الصدر والمرونة معهم.. بل وأن تكون هناك قواعد ولوائح موثقة حاكمة لهذا التعامل .

4-أن المساس بالمشاعر القومية للمتدربين كما حدث من أحد معلمي فرع جوته بـ ( أوبر آدن ) هو حد فاصل بين نجاح مهمة التعليم والتدريب وبين فشلها. فما قيمة أن يتعلم أو يتدرب أبناء البلدان النامية في مجتمع يشعرون فيه أنهم بشر من الدرجة الثانية..؟ وما الفارق بين ذلك وبين أن يتعلموا وهم يعاملون كبشر لهم حقوق وعليهم واجبات تتطابق مع بقية أفراد المجتمع ..؟ ، بل وما أهمية ما يكتسبونه من مهارات في ظل إحساسهم بافتقاد الكرامة القومية أو الإنسانية..؟ ولعلني لا أذهب بعيدا حينما أذكر لكم المثال الناصع لطبيب مستشفي كورباخ الألماني الذي يعدّ نقيضا لمعلم جوته سالف الذكر.

5-أنه بشعورالمتدربين الأجانب بجرح كرامتهم فإن ردود أفعالهم – أيا كانت نتائجها- ستبدو لهم منطقية ومشروعة إزاء ما يتعرضون له من إحساس ردئ بالمعاملة المهينة وغير المناسبة وهو ما كان جديرا ببذل الجهد من جانبكم لتبيانه ليس فقط للمعلمين بل وللمزارعين. وحتي لو ارتكب بعض المتدربين أخطاء جسيمة فإن السلوك التربوي إزاءهم يختلف عن السلوك الثأري وعن المنطق الاستعماري الذى عفا عليه الزمن.

6-أن توتر العلاقات السياسية مع مصر سيدفع المتدربين الذين يعرفون ذلك لاعتبار أن تعرضهم لمعاملة- يرونها - سيئة .. لابد له من رد فعل يحددونه حسب تصوراتهم التي قد تكون قاصرة .. لأنهم ليسوا سفراء يتحكمون في ردود أفعالهم . بل ويجعل كل طرف – المصريين والألمان- مصرا علي فرض إرادته علي الآخر بأي شكل ومن ثم تتفاقم المشكلة وقد تصبح مستحيلة علي الحل.

7-ولا ( تنسى ) أننا – ورغم وجود أخطاء لبعض المتدربين – قادرون علي اتخاذ إجراءات احتجاجية لوقف ما يمكن أن نتعرض له من الجانب الألماني.. أو علي أقل تقدير لرفضه والتنبيه لمخاطره .

هذا وأتمنى أن تكون وجهة نظري قد وصلتك كاملة ، وأن تساهم في تيسير عملكم وتدريبنا بالمزارع وقبل ذلك وبعده أن تساهم في تلطيف الأجواء المحتدة بين بلدينا .
مع خالص الشكر والتقدير ،،
أغسطس 1964 بشير صقر
،،،،،،،

لقاء المقهي .. وفضول ألماني محبب:

كنت أحيانا أدلف لإحدي مقاهي القرية لقراءة الجرائد التي تصلني من مصر أو لكتابة رسائل لأصدقائي بها ، وفي ذلك المقهي (Restaurant ) كتبتُ رسالتين لـ د. كريسكين وللمسئول المصري عن المتدربين في ألمانيا . وفي إحدي المرات توجه نحوي شخصان يسألان كيف أكتب من اليمين إلي اليسار وبدا لي أنهما يريدان التعرف عليْ.

رحبت بهما قائلا : تفضلا.. إجلسا ؛ وأوضحت لهما أن اللغة العربية تُكتب هكذا بينما هناك لغات أخري في قارة آسيا تُكتب من أعلي لأسفل كالصينية واليابانية ..المهم أنها كلها وسائل للتفاهم بين الناس والتعبير عما يريدونه أيا كانت كيفية كتابتها.

سألاني : عن عملي وسبب وجودي في لينجن وعدد من الأسئلة الاستطلاعية. ولما عرفا أنى متدرب زراعي لدي كارل بوكر قالا: لكننا نشاهدك هنا تكتب وتقرأ فقط.. فهل لهذا دخل بعملك ..؟ أجبت : لا ليس له دخل كبير علي الأغلب.

سألتهما عن ماذا يشربان..؟ فردا : شكرا .. هذا دورنا وليس دورك. فأصررت علي ذلك قائلا : صحيح أني في بلدكم .. لكنكما الآن علي منضدتي وتعتبران ضيفان عندي .. فوافقا علي تناول قدحين من البيرة.

وعندما أحضرهما النادل قلت لهما إنها من دورتموند كما هو مكتوب علي الزجاجة (Dortmunder Bier ) .. لقد تعلمت الألمانية في فرع لمعهد جوتة يبعد عن دورتموند حوالي 20 كم وقد زرت المدينة أكثر من مرة مع عدد من المصريين والألمان ورأيت مصنع البيرة.

بعدها قالا: : هل لنا أن نستطلع هذه الصحيفة التي بجانبك..؟ قلت : بالطبع ( Natürlich) .. وناولتهما صحيفة الأهرام عدد يوم الجمعة الأخير. تصفحاها بسرعة وسألني أحدهما: من هذا..؟ . فقلت : هذا رئيس التحرير واسمه محمد حسنين هيكل . عقبا : أليس الاسم طويلا ..؟ ضحكت وقلت ربما. قالا : الصحفيون عادة لهم اسم قصير. فقلت : هذا صحيح ، إنه معروف عالميا باسم هيكل. وكتبته لهما بالألمانية (Haikal ) ولما قرآها بصوت مسموع قلت لهما : كما نطقتمونها تماما تُنطَق باللغة العربية الفصحي ( Hoch Arabisch) ، فابتسما ثم سألاني عن عنوان المقال فترجمته لهما ؛ ثم عادا للسؤال عن موجز ما تضمنه المقال . فتناولت الجريدة منهما وبدأت في ترجمة بعض فقراته .. وهكذا.

هذا وقد سألتهما: هل يعرفان شيئا عن مصر..؟ فرد أحدهما : ليس كثيرا .. نعرف ناصر، والأهرامات ، ونهر النيل ، وأنها في إفريقيا ليس أكثر . فسألت : هل تسمعان مثلا أن المصريين يركبون الجمال في الشوارع .. ؟ ردا: نسمع أحيانا ذلك لكننا لا نصدقه . فقلت لهما: هذه فكرة طيبة عموما. فالهند التي تنتشر بها الأفيال تتقدم في مجال الصناعة والعلوم الطبيعية بشكل جيد بل وفي بعض الرياضات كالهوكي .وهذا ما يسعي له المصريون بدليل أنني من عامة الشعب وحضرت لبلدكم لأتدرب في مجال الزراعة وأتعلم اللغة الألمانية. فردا: لولا شكلك لاعتبرناك ألمانيا .. فلقد شعرنا أنك تعرف كثيرا من المعلومات وتتحدث الألمانية بشكل جيد .. ولا يبدو أنك من إفريقيا. فقلت لهما : بالمناسبة الأفارقة السمر أذكياء جدا وقدرتهم علي العمل وتحمل المشاق كبيرة ولو نالوا فرصتهم في التعليم ورفع مستوي المعيشة لصاروا شعوبا عظيمة .. لكن بلادهم للأسف كانت ولا زالت ترزح تحت النهب الأوروبي لثرواتها الطبيعية وتهجير النجباء من أبنائها .. وهو شئ مقصود وليس عفويا.

انتهيا من تناول المشروب وودعاني قائلين : سعدنا بلقائك وسندعوك قريبا لزيارتنا لنستكمل حديثنا .

خير وداع من المواطنين الألمان:

في قرية لينجن.. وقبل مغادرتي لها بأيام معدودة كنت أجلس علي أحد المقاعد الخشبية المتناثرة علي الطريق الواصل لمدينة لانجن (Langen) القريبة .. وكان شاب وفتاة يتشبث كل منهما بيد الآخر يسيران في الطريق ويقتربان نحوى ؛ وإذا بصوت ينادى فالتفتا نحو مصدره وتوقفا أمامي حتي وصل المنادي وظلوا لفترة من الوقت يتحدثون .. فهمت منهم أن الثنائي يُعدّان لحفل زفافهما بعد أيام . وفور انتهاء الحديث ناديتهما قائلا: مبروك .. وأتمني لكما حياة سعيدة وموفقة .. وأردفت: أين منزلكما ..؟ فوصفا لي موقعه ورقمه وأعطياني اسميهما .

في اليوم التالي.. ذهبت لإحدي المكتبات واشتريت كارت تهنئة رقيق وكتبت لهما تهنئة مشتركة باسميهما ووقعت عليه مضيفا لاسمي كلمة المصري.. وعطّرته وذهبت للمنزل وسلمته لأحد أفراده لإيصاله لهما. وفي مساء نفس اليوم كنت في احدي المقاهي بالقرية وإذا بي وجها لوجه أمام العروسين فقدما لي التحية ودعوة لحضور عرسهما بالكنيسة .. وأضافا: ويمكن أن تحضر مع المدعوين للمنزل فور الخروج من الكنيسة.

في يوم العرس توجهت للكنيسة وجلست علي أحد المقاعد وقبيل شروع القس في إجراءات الزواج بدقائق شاهدني العروسان فلوحت لهما بيدي فرَدّا بالمثل . وبعد إبرام عقد الزواج - وعلي غير العادة - وجدت بعض الحاضرين يلتفون حولي ويسألونني هل أنت المصري..؟ فقلت: نعم. فعرضوا عليّ الذهاب معهم لمنزل العرس. فقلت لهم : لا بأس.. لبعض الوقت، وبالفعل تحركنا سيرا علي الأقدام بعد أن استقل العروسان سيارتهما وغادرا.

وفي منزل العرس استقبلني العروسان والمدعوون بحفاوة ودفء لم أشعر بهما منذ غادرت القاهرة قادما إلى ألمانيا ؛ كذلك عرفت بعد قليل أن مبادرتي بتهنئة العروسين عرفها سكان الشارع الذي يقطنونه وكثير من الحضور. وللحقيقة لم ( يحظى) شخص بالاهتمام والحفاوة في ذلك الاحتفال- بعد العروسين- قدر ما حظيت ؛ وهو ما أثلج صدري ورفع معنوياتي كثيرا وكان خير وداع لي من بشر ألمان غير من قابلتهم - من مسئولي الغرفة الزراعية – وعاملوني بغلظة وجفاء.

مشوار العودة الدرامي:

بعد أيام وردتني برقية تفيد بموعد انتهاء التدريب في المزارع والاستعداد للتجمع في هامبورج تمهيدا للعودة لمصر ومعها تذكرة السفر بالقطار.

حزمت أغراضي وودّعْت كارل بوكر وأسرته وعددا ممن عرفتهم في لينجن وغادرت متوجها إلي مكان التجمع.

وحيث التقينا بمدينة هامبورج في أقصي الشمال عرفنا أن المسئولين الألمان قرروا مكافأتنا باعتبارنا أفضل بعثات التدريب الزراعي التي جاءت من مصر للأراضي الألمانية .

هذا و قضينا الليل فيها وفي الصباح خرجنا في جولة حرة وتعرفنا علي بعض معالمها ثم عاودنا السفر إلي مدينة بريمن ثم هانوفر إلي الجنوب منهما وفي هذه المدن زرنا مصنع شركة (Claas) للمعدات الزراعية وهي قلعة صناعية كبرى لكل معدات الزراعة الآلية وفيها شاهدنا الحصادة (Mähdrescher ) التي كانت لدي المزارع كارل بوكر ، كما زرنا أحد المصنع الكبري لشركة (Volks Wagen ) المنتجة للسيارات وكان ذهولنا من تنوع منتجات الشركتين وانضباط العمل وتنظيمه فيهما وأعداد العمال وحجم إنتاجهما الذي يفوق الوصف.

وكان الانطباع الذي استحوذ علي البعض منا في أعقاب هذه الجولة السياحية الترويحية متمثلا في تساؤل بسيط :ما الذي تحتاجه الصناعة المصرية من وقت وجهد وأموال وتنظيم وإدارة لكي تبدأ خطواتها الأولي في ذلك المسار..؟ أما الانطباع الآخر فكان يتلخص في الربط بين هذا الأساس المادي ( الصناعي والزراعي ) وبين رفاهية المجتمع الألماني واستقراره التي يعيشها المواطن البسيط .

إلا أن تساؤلا من نوع آخر قفز إلي ذهني علي الفور؛ وهو كيف لم ينعكس كل هذا التطور والاستقرار الاجتماعي علي الطريقة والأسلوب الذي عوملنا به نحن أبناء العالم النامي (من الإدارة الألمانية والمزارعين ) في رحلتنا التدريبية والذي لا يمكن وصفه إلا بخلوه من الإنسانية والتحضر..؟!

اللقاء الدرامى المتوقع مع الدكتور كريسكين :

لم يتبق بعد رحلة )هامبورج – بريمن – هانوفر( سوى الخطوة الأخيرة التي- وللمصادفات الغريبة - تأتي مرتبطة بزيارتنا لبرلين الغربية ذات الوضع المعقد ؛ تلك المدينة التي بدت لنا كامرأة تتشح بأثواب رمادية داكنة رغم أنها ليست مطلقة ولا أرملة ولا تملك زوجا ؛وفضلت أن تبقي أسيرة العزلة علي أن تندمج في مجتمعها المحيط وآثرت أن يتشتت الأشقاء والأبناء والذكريات والتاريخ علي جمع الشمل ؛ وظلت تقبع في دائرة صغيرة تلفها من كل جانب أراضي دولة ألمانيا الشرقية.

هذه المدينة التي تُزار ولا تزور .. يؤتي إليها ولا تذهب لأحد ؛ لا تربطها- للأسف- ممرات برية مع بقية أشقائها بدولة ألمانيا الغربية.. فقط الوسيلة الوحيدة لأي مواطن ألماني غربي- يسكن في مدينة أخرى - للوصول إلي برلين الغربية هي الطائرة. والطائرة هي التي نقلتنا – نحن المصريين والألمان- من حيث كنا لدي شقيقتيها الغربيتين هانوفر وهامبورج– إلي برلين الغربية.

لا أعرف كيف صرت منقبضا ومخنوقا عقب ركوبي الطائرة متوجها لبرلين الغربية.. بعد سويعات قليلة من حالة الابتهاج والمرح التي عشناها في أجمل جولة لنا في رحلتنا. فعادة ما تكون الأنوار متلألئة وهّاجة في مدن الإقلاع .. ويتكرر المشهد تقريبا في مدن الهبوط .. إلا في هذه الرحلة ..بدت أضواء مدينة هانوفر المبهجة كأنها تلوّح لنا بشغف وتودعنا ؛ وربما كادت تنطق بـ " أن وداعكم أيها المصريون من هنا لا من برلين ".

بعدها وفي سماء برلين الغربية انسدلت عتمة رمادية مقفرة كأننا نهبط في مطار عسكري تغطيه سحب الحرب.. أو كأننا نرافق جثة علي وشك أن نواريها التراب.. ولا ينقص موكب تشييعها سوي موسيقاه الجنائزية المصاحبة. فأضواء المطار خافتة .. ورواده قلائل صامتون .. ومصابيح السيارات المعدة لنقلنا مطفأة . ومن أرض المطار ركبنا إلى حيث سنقيم ثلاثة ليال.

كنت قد دخلتُ السيارة وسط ضجيج الزملاء متوجها للمقعد الأخير متجنبا جلبة الزملاء.
وبعد استقرار الطلاب علي مقاعدهم تحركت الأوتوبيسات وماهي إلا دقائق حتي شاهدتُ الدكتور كريسكين قادما من مقدمة السيارة يسأل عنى وهو يقف في منتصفها ؛ - ولما كان بعض الضوء يتخلل زجاج السيارة - أشرت له بالقدوم حيث كان المقعد الأخير يتسع لآخرين.

وبالفعل تحرك باتجاهي وعندما وصل قال : أأنت بشير..؟ أجبته : نعم .. وقلت له : تفضل بجانبي. فجلس نصف جلسة وقال : لماذا تجلس في المؤخرة ..؟ فأجبته: لأنى دخلت السيارة مبكرا وفي المقاعد الأمامية تكثر الضوضاء والزحام وأنا لا أحب ذلك. صمتَ لثوان وقال: وصلتني رسالاتك وأريد أن نتناقش بشأنها. فسألت : متي ..؟ قال غدا. رددت عليه : وهو كذلك. ربت الرجل علي كتفي وقفل عائدا لمكانه في المقاعد الأمامية.

توقفت السيارات بعد ما يقارب النصف ساعة وسط الظلام أمام مبني عتيق يظهر منه ضوء كضوء الشموع ونزل الطلاب من السيارة ولأني كنت تقريبا آخر المغادرين لها فوجئت بالطلاب متجمّعين أمام باب المبني يتساءلون : هل هذا هو الفندق ؟.. ولماذا هو مظلم ..؟

بعد دقائق تحركت من مكاني وتوجهت نحو المبني وأمعنت النظر فيه من خلال قضبان السور فلم أتبين شيئا أكثر من الأضواء الخافتة وسألت الزملاء: أين الدكتور كريسكين..؟ فلم يجبني أحد.
تحركت نحو الباب فوجدت لافتة رخامية مثبتة علي جداره مكتوب عليها [ الصليب الأحمر الألماني –

Deutsche Rotes kreutz ] فقلت : " يا نهار.. اسود ".. ثم عدت للسيارة مبتئسا وجلست بمفردي أتأمل الموقف. عادت لذهني الصورة القاتمة للتعالي الألماني الذي عانينا منه -علي يد مسئولي الغرف الزراعية وحالة توَحّش بعض المزارعين- والتي طالما طاردتني طيلة هذه البعثة بأحداثها الرديئة وقلت لنفسي : بالألمانية [ وما الفرق إذن بين الصليب االأحمر والصليب المعقوف..؟
Was ist derUnteschied jetzt zewischen Rotes kreutz und Gebeuget kreutz?
وأكملت: وحتي لوكان كريسكين لا يفكر بعقلية هؤلاء الموظفين والمزارعين – وهو ما لم نتأكد منه حتي الآن- فإن الأسلوب الذي تتبِعه وزارة مساعدات الدول النامية هو المسئول عن ذلك . هل إلي هذا الحد..؟ يعاملوننا كاللاجئين ..؟ إن الصليب الأحمر هو الهيئة الأوروبية المسئولة عن تضميد أعطاب الكوارث . وحيث أننا من البلدان النامية فلم لا يعتبروننا من أعراض الكوارث؟. لقد أعلنوا أننا بعثة جيدة تبزّ البعثات السابقة .. وقد خفضوا العدد هذا العام من 500 طالب إلى مائة أي أنهم وفّروا 80% من الميزانية علي الأقل فلا أقل من أن يكافئونا بإقامة فندقية لائقة حتي لو كانت بمستوى الـ 3 نجوم .. خصوصا وأنهم من بادروا بالإعلان عن تميزنا وشرعوا في مكافأتنا . فلم هذا التدني..؟. ألا يدركون أن المشاهد والانطباعات الأخيرة هي ما تعلق دائما بالذاكرة ..؟

سرح خاطري في اتجاهات عديدة وقلت لنفسي: لماذا لا نُفرِغ ما في جوفنا نحوهم الآن ودفعة واحدة..؟ ولماذا لا نوضح للطلاب أن الصليب الأحمر لا يتعامل عادة أو في أغلب الأحوال إلا مع اللاجئين والضحايا والمكلومين..؟، وتصرفهم هذا يُسوّينا باللاجئين وهو في الحقيقة شئ حاط بالكرامة ومهين . لقد كان من الأوفق لنا ألا نقوم بهذه الرحلة الجميلة من بدايتها ونغادر مباشرة إلي القاهرة بدلا من ان ينهي د. كريسكين العرسَ بقتيل.. كما يحدث في بعض أفراح الريف المصري والصعيد.

ولذا يمكن أن نخطره بأننا لن نقيم في هذا المبني وعليه الاتصال بشركة طيران لوفتهانزا – وهي شركة حكومية – يُمكن لها حجز رحلة الغد إلى القاهرة للبعثة التدريبية المصرية حتي لو تكلف الأمر أن نساهم بجزء من تكلفة المبيت في فندق؛ ولتذْهب زيارتنا المرتقبة لحائط برلين إلي الجحيم. ثم أعود وأراجع نفسي قائلا : ربما هو لا يعرف وبالتالي لا يُسألُ عن مثل هذه الترتيبات اللوجستيكية. ثم أرجع لأقول : حتى لو لم يكن يعرف.. أليست وزارته أو الحكومة الألمانية هي المسئولة ..؟ إذن لا فرق بين أن يكون المسئول هذا أو ذاك .. فهناك خطأ وقع أو جُرم ٌ قد ارتُكِب ولا يجب أن نتحمله.. فمن ارتكبه يتحمل وزره. وهكذا ظلت المراوحة مع نفسي لفترة لا تقل عن خمسة عشر دقيقة أشاجر نفسى وأناقشها ثم أعترض.. وبعدها أبحث عن مبرر.. ثم أعود لأنتقده.. وهكذا.

قررت أن أعود للطلاب لأتبين كيف يفهمون الوضع واستكشف استعدادهم لاتخاذ موقف موحد ..وما أن صرت بينهم حتي وجدت البعض لا يتحمل الاستمرار في الوقوف بسبب مشقة اليوم والبعض يتعجل النوم والراحة والبعض الآخر لا يدري.

وفجأة انفتح الباب ودخل الطلاب مهرولين تحيطهم جلبة شديدة لم يمارسوها منذ سبعة شهور.

وفي الطابق الثاني من المبنى بدأ توزيع الطلاب علي الحجرات بينما الضوضاء لا تتوقف أو تخفت حيث استمر ذلك لمدة تتجاوز الساعة. وفي هذه الأثناء لمحت – عن بُعد - د.كريسكين يدخل إحدى الحجرات ثم يخرج منها .. بعدها علا صوته وبدا أنه يزجُر بعض الطلاب بأسلوب فظ ولم يحاول واحد منهم أن يناقشه. فتوجهت نحوه واقتربت من الحجرة التي دخلها وخرج منها فوجدتها خالية من الطلاب واستنتجت أنها تخصه فأشرت له بيدي قائلا : أريدك على انفراد؛ واقتربنا من الحجرة الخالية فقلت له بصوت منخفض: أعتقد أن الطريقة التي تتعامل بها مع الطلاب ليست مناسبة علاوة علي أن الموقف لا يتحمل ذلك فالجميع متعبون ولا نود لأحد أن يتصرف بطريقة لا يمكننا التحكم فيها. فقال محتدا : ألا تري هذه الضوضاء ؟.. الكل يتحدث ولا أحد يستمع .. ما هذا ..؟ . فقلت له: وزارتكم هي التي قالت أن هذه أفضل بعثة ، وهي التي قررت أن تكافئهم وليسوا هم من طلبوا المكافأة. ولو أنكم اخترتم فندقا لما حدث ذلك .. ويجب أن تدرك أننا لسنا لاجئين لنقيم في مبني للصليب الأحمر الألماني .. ومن يكافئ إنسانا يذهب به أو يدعوه إلي فندق وليس إلى نزل لإيواء اللاجئين، والبعض هنا يعرف ذلك لكن لو عرفه الجميع فلن يكون رد الفعل مأمونا .. وستتحمل أنت وحدك المسئولية . نلتقي غدا.. إلى اللقاء.

تركته وقد نزل كلامي علي رأسه كـ " دش " بارد وذهبت لحجرتي وأنا في حالة من " القرف " الشديد.

جولة حرة بائسة تتكلل بمصيبة قبل لقاء عمدة برلين:

كان موعدنا في مساء اليوم التالي للقاء المرتقب مع ( فيلي براندت عمدة برلين الغربية )

(Willy Brandt – Bürgermeister von West berlin ) - ولذا سُمِحَ للطلاب ببدء جولة حرة في المدينة في الصباح بعد تناول الإفطار وبعد الغداء وحتي قبيل اللقاء المزمع بمحافظ المدينة والذي كان أيضا رئيسا للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني (S.D.P ).

وفي الصباح انطلق الطلاب في شوارع المدينة يتجولون ويتسوقون ، بينما خرجت وحيدا دون رفاق بسبب حالة الضجر التي انتابتني من لحظة ركوبنا الطائرة من هانوفر صوب برلين الغربية . ورغم رغبتي الشديدة واحتياجي للتحدث مع محمود الشيخ وحامد الغنام - والتي لم تُتح لي في كل من هامبورج وبريمن وهانوفر- إلا أنني في برلين كانت رغبتي في الانفراد بنفسي هي الغالبة.

وبالفعل خرجت بمفردي وفي حقيبة يدي بعض الأوراق والأقلام ؛ وارْتَدْتُ كثيرا من الشوارع التي انهكتْها العزلة - فلم أصادف بها كثيرا من البشر- حتي تعبت من السير . بعدها جلست بأحد المقاهي وطلبت مشروبا ساخنا وأخرجت أوراقي وحاولت كتابة بعض النقاط التي توقعت أن تغطي الموضوعات الأهم في حوار مع أي مسئول ألماني وخصوصا د. كريسكين.
وفجأة توقفت ؛ حيث جال بخاطرى أن أعد كلمة قصيرة لطرحها إذا ما أتيحت فرصة للحديث في لقائنا بفيلى براندت. أو حتي إذا ما دار حوار موسع في وجود كريسكين.

وأخيرا توصلت لكتابة النقاط الأهم وقمت بصياغتها بدقة وإيجاز لدرجة أنى استعنت بواحد من رواد المقهي – كان مستغرقا في قراءة كتاب وتوسمت فيه القدرة علي إفادتي- للاستفسار منه عن كلمتين تلخصان عبارتين تتكون كل منهما من عدة كلمات. بعدها قمت بقراءة ما كتبته عدة مرات ورتبته في ذهني ليكون جاهزا في اللحظة المناسبة. وغادرت المقهي بعد أن اطمأننت لتجهيزي كل الأسلحة التي قد أحتاجها في المساء.. وهو ما حسّن مزاجي وأعادني لمبني الصليب الأحمر في حال أفضل كثيرا مما خرجت منه في الصباح.

توجهت لحجرتي ولأني كنت منهكا من السير لمدة تقارب الساعة والنصف - وحيث لم أنم في الليلة السابقة جيدا - فقد استغرقت في نوم عميق .

استيقظت قبيل تناول الغداء ؛ وسمعت بحماقة جديدة حدثت في جولة الصباح وكان أبطالها أربعة من الطلاب المصريين. ففي أحد المتاجر قام بعضهم بإخفاء بعض المعروضات في ملابسهم للخروج بها دون دفع ثمنها ؛ وقد تم اكتشافهم من خلال كاميرات المراقبة المتناثرة في أرجاء المتجر- والتي لم تخطر ببالهم- بينما تم ضبطهم أثناء دفع ثمن ما أرادوا شراءه . وقد جرى تفتيشهم واستعادة ما أخفوه ؛ وباعتذارهم تم إطلاق سراحهم دون إبلاغ الشرطة.

وساعتها أحسست بحالة من " القرف" والإحباط ، ودارت في رأسي كل الظنون والهواجس خصوصا ومصدر الخبر مجهول لي ، وعلي ما يبدو أن مجموعة أخري من المصريين كانت في المتجر إبان حدوث الواقعة والمرجح أنها هي من نقلت الخبر.

لقد ساءلت نفسى : وماذا لو جري القبض علي الطلاب وتم تسجيل الواقعة في سجلات الشرطة.. ووجهت لهم تهمة السرقة ؟ .. لقد كنا سنحمل فضيحتهم ونرحل بها إلي أرض الكنانة وبدلا من إطراء بعثة هذا العام واعتبارها أفضل البعثات المصرية - التي تدربت في ألمانيا - ستنهال عليها اللعنات من كل جانب باعتبارها بعثة اللصوص لا بعثة المتدربين.

وأشد ما كان يقلقني هو وصول الخبر لكريسكين لأنه سيعني أن معظم مآخذنا علي الألمان ستتقزم أمام واقعة السرقة التي ارتكبها نفس الطلاب المصريين الذين يجأرون بالشكوي.. وخصوصا أن الألمان أصحاب المتجر تصرفوا معهم بحكمة وحصافة بل وبرأفة وإنسانية تتضاءل أمامها ادعاءاتنا بالمعاملة الفظة من جانب ألمان آخرين (مزارعين وموظفين بالغرفة الزراعية).

كيف سندافع عن لصوص غير أمناء سرقوا مَنْ استضافوهم في بلادهم وقدموا لهم الدعم والمساندة التدريبية في الوقت الذي ملأوا فيه الدنيا ضجيجا وشكوي من معاملة سيئة وغير إنسانية من المزارعين..؟
باختصار لقد أفسد هؤلاء الحمقي الأغبياءُ كلَ محاولاتنا في الحوار مع المسئولين الألمان والتوصل معهم لاعتراف بخطأ معاملة البعض منا.. بينما مصيبة المتجر تتحدث عن نفسها..؟ . وهكذا عاودني الضجر مرة أخرى ونحن علي مشارف لقاء هام ربما يكون فرصة لإبداء ملاحظاتنا ومقترحاتنا بشأن معاناتنا.. ويساهم في استرداد بعض من هيبتنا وتحسين صورتنا .

أزَفَ الوقت وكان لابد من الانتقال لمبنى المحافظة ؛ وهناك تجمعنا إلا أن صاحب الدعوة ( فيلي براندت ) لم يحضر وحل محله نائبه .. وبالتالي كان اللقاء باردا معدوم الطعم والرائحة فلا موضوع يمكن مناقشته ولا شهية لدينا لفتح نقاش حول ما أسميناه بمعاناة المتدربين المصريين فضلا عن عدم يقيننا بعدم وصول خبر فضيحة المتجر للدكتور كريسكين .. وتشكُكِنا في ذلك.

الحديث الأخير مع د. كريسكين :

كان اليوم التالي موعدنا لزيارة حائط برلين ورغم أهمية الزيارة إلا أنني أحجمت عن الذهاب وفضلت الانفراد بالتسكع في شوارع المدينة والاختلاء بنفسي.
وعند عودتي قبل موعد الغداء صادفت كريسكين أمامي ولم أعرف إن كان قد تخلف عن الذهاب مع الطلاب أم أنه صاحبهم لبعض الوقت ثم عاد؛ وسألني الرجل: ألم تذهب لرؤية الحائط (Berlin Mauer ) ..؟ فقلت له: لا لم أذهب.. فقال : لماذا..؟ فقلت له : لا شهية لدي ( keine lust).

وعلي ما يبدو أنه كان– علي العكس مني - في حالة مزاجية طيبة فأكمل : وماذا ستفعل الآن..؟ أجبته : لا شئ .فقال- علي مايبدو- متذكرا حديثه في السيارة قبيل الوصول لمبني الصليب الأحمر : هل تريد أن تقول شيئا قبل أن تتركنا..؟ قلت: كان لدي الكثير لكني لست في حالة مزاجية طيبة كما قلت قبل قليل.. وعموما كنت أود أن أقدم نصيحة . فرد : ولماذا أنت صامت ..؟ قلها فورا. تمهلت وفكرت للحظات وبدأت حديثي : قرأت من فترة عبارة لصحفي مصري معروف اسمه أنيس منصور.. تقول :إن أردت أن تخسر صديقا فقدم له نصيحة. فضحك عاليا وقال : أكمل . قلت له: لا تثق كثيرا في موظفي الغرف الزراعية ، ولا تصدق كل ما يقوله المزارعون فهم لا يهمهم شئ سوى مصالحهم، وحاول أن ترفع مستوى موظفيك الثقافي . فرد: هل انتهت النصيحة ..؟ قلت : تبقي مسالة صغيرة لكنها بالغة الأهمية.. تتلخص في أن أزمة الليلة الأولي لحضورنا لبرلين كان يمكن أن تنتهى بمصيبة لك. فقد كنا علي وشك الامتناع عن دخول مقر الإقامة عندما وجدناه يخص الصليب الأحمر ونتوجه لأحد الفنادق للمبيت هناك.. وإذا رفضتم كنا سنتصل من الفندق بالسفارة المصرية لنوضح لها المشكلة .. وهو ما كان سيفاقم الأزمة القائمة بين بلدينا .. ولم يكن في الصورة سواك يتحمل المسئولية.

رد عليّ متسائلا: ولماذا لم يحدث ذلك..؟ قلت : لأن الظروف كانت في صالحك.. أو ربما في صالح بلدينا .. المهم الآن أننا سنودعك ولا نعرف إن كنا سنلتقي مرة أخري أم لا.

العودة لمصر:
في اليوم قبل الأخير 13 أكتوبر 1964 شددنا الرحال إلي مطار برلين الغربية ومنه إلي فرانكفورت ووصلنا لمصر يوم 14 أكتوبر وعدنا لمنازلنا ونحن نسترجع كل لحظة مرت بنا خلال الشهور السبعة المنصرمة.
استدعاء عاجل لمكتب عميد المعهد .. ومفاجأة مذهلة :

بعد أيام قليلة عدنا لمعهدنا بشبين الكوم حيث بدأت الدراسة لعام أخير ، وبعد فترة تقارب الشهر وأثناء إحدى المحاضرات حضر أحد العاملين بمكتب عميد المعهد وناول المحاضر ورقة صغيرة قرأها بصوت عال : ( بشير صقر مطلوب في مكتب العميد ) وأشار لي بالخروج ، فقلت له : سأذهب بعد انتهاء المحاضرة أو في فترة الاستراحة. رد الموظف : سيادة العميد عاوزك فورا .. أصل عده ناس من بره. غادرت المدرج صوب مكتب العميد وهناك كانت المفاجأة .. د. كريسكين الذى ما أن رآني حتي قام متوجها نحوي وقابلني بحرارة وترحيب وسألني عن أحوالي وعن الدراسة ونظر نحو العميد الذي كان ما يزال واقفا يراقب الموقف.

قال لي العميد : الراجل جاي من ألمانيا لشبين علشان يشوفك .. لم يسأل أو يطلب أحدا سواك .. ثم قام بترجمة ما قاله لي إلي الإنجليزية ليصل إلي د.كريسكين.. الذي رد علي العميد.. أيضا باللغة الانجليزية قائلا :
Basheer is a good man, good trainee, He was the best Egyptian In Germany about 1964
فقال العميد : إبسط يا بشير دي شهادة ألماني . فقلت له ممازحا : عموما أنا معايا كمان رخصة قيادة ألماني .. فضحك العميد.

بعدها قلت لكريسكين : أنا سعيد بحضورك وبكلامك عني للعميد ؛ وأتمني أن نلتقي بعد ذلك في مصر أو ألمانيا . أشكرك جدا .. وأرجو أن تقبل دعوتي لتناول القهوة في مكان قريب. فشكرني وقال : ليس هناك وقت لأني مرتبط بأعمال كثيرة.

غادرت غرفة العميد – عائدا لمحاضرتي- وأنا غير مصدق لحضور د. كريسكين إلي شبين وسؤاله عني بعد كل ما قرأه في رسائلي وما سمعه مني من انتقادات شديدة في حق وزارته وحق موظفي الغرف الزراعية والمزارعين الألمان. وقلت لنفسي كريسكين بهذا التصرف ليس رجلا تافها ولا هازلا رغم كل مآخذي علي عمله وانتقاداتي له.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صواريخ إسرائيلية -تفتت إلى أشلاء- أفراد عائلة فلسطينية كاملة


.. دوي انفجارات في إيران: -ضبابية- في التفاصيل.. لماذا؟




.. دعوات للتهدئة بين طهران وتل أبيب وتحذيرات من اتساع رقعة الصر


.. سفارة أمريكا في إسرائيل تمنع موظفيها وأسرهم من السفر خارج تل




.. قوات الاحتلال تعتدي على فلسطيني عند حاجز قلنديا