الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جريمة في ستراسبورغ - 6 -

علي دريوسي

2019 / 1 / 12
الادب والفن


ولجتُ شقتي، أضئتُ اللمبة، رميتُ حقيبتي على الصوفا، خرجتُ إلى البلكون وفي يدي زجاجة بيرة، كان الطقس ساحراً، حرارة أواخر الصيف لها رونقها الخاص في تنشيط الجسد والروح، أسندت قدمي اليمنى على الحائط الذي أوليته ظهري، وضعت الزجاجة على الطاولة ورحت أحشو غليوني بتبغي الثقيل المفضّل "لاتاكيا"، كنت حتى تلك الأيام مدخن مناسبات وطقوس لا أكثر، من بلكون الطابق نفسه في الجهة اليمنى من البناية، أطلت جارتي وصديقتي هايدرون وقد هبط شعرها الأسود الطويل على جانبي وجهها، من عنقها تدلَّت سلسلة جميلة لمعت كأنها تحثني على مداعبتها، نظرت إليّ مبتسمة ليسحرني بياض أسنانها أكثر، قالت: ما أن شممت رائحة لاتاكيا حتى علمت أنك قد وصلت، أترغب بالمجيء؟ لديّ نبيذ أحمر لذيذ، سيسعدني استنشاق رائحة تبغك عن قرب، وافقت على دعوتها دون تفكير وبطيب خاطر فقد كنت بأمس الحاجة للحديث إليها. سألتها: هل لديك ما يؤكل؟ أجابتني: سوية نستطيع تحضير سلطة شهية.

شقة هايدرون مؤثَّثة بما يليق بامرأة جميلة تعمل كطبيبة في جراحة العظام، هايدرون اِمرأة بمعنى الكلمة، جنية حقيقية، جسدها جذّاب، ممشوقة القامة، أنيقة دائماً بغض النظر أين هي متواجدة، حتى في بيتها ترتدي حذاء بكعبٍ عالٍ يزيدها أنوثة فوق أنوثة، لديها كومة من الخشب الدافئ أمام كوخها كما يقول الألمان، أقصد أن نهديها كبيران دافئان، أحمر الشفاه لا يفارق شفتيها، وظل خفيف يرسم الرغبة على جفنيها، أما صوتها كصوت الجنيات الخارجات من حكايا الشوق والإثارة، فتحت الباب لي، عانقتني وهمست: اشتقتلك ياكوب. طبعتْ قبلة على عنقي وأضافت: رائحة جسدك تجننني، من أين ورثت هذا العطر!؟

وضعتُ يدي أسفل ظهرها ودفعتها برفق أمامي، كانت ترتدي بلوزة سوداء خفيفة من الحرير الطبيعي والسلسلة الفضية تزيدها جمالاً، تنورتها القصيرة إلى ما فوق ركبتيها بقليل ترسم حواف وحدود منحوتة مؤخرتها التي يرغب أحدنا أن يحضنها في البيدر الكائن بين صدره وأسفل ذقنه ليبدأ بتقبيل فقراتها القطنية الخمس، ما أن وصلنا إلى باب البلكون حتى ضربتها براحة يدي التي انحشرت بين ردفيها، قلت بصوتٍ آمرٍ ممازح: إلى المطبخ يا امرأة، أنا جائع.

جلستُ على كرسي هزّاز على بلكونها الواسع، كانت قد جهَّزت طاولة لشخصين كالواثقة من قدومي، صببت لنفسي كأس نبيذ أحمر مز إيطالي، أعدت إشعال غليوني ورحت أمج تبغي على مهل وأنظر إلى السماء الصافية لأرى صورتيّ هايدرون وأزيتا قرب بعضهما البعض، خجلت من نفسي حين تضاءلت صورة أزيتا حتى تلاشت تماماً أمام سحر أنوثة هايدرون وحضورها رغم فارق العمر الكبير بينهما.

جلبت هايدرون جاط السلطة الزجاجي الشفّاف، وضعته على الطاولة وعادت إلى المطبخ لتُحضر اللحم المقدد وشرائح الخبز. جلست مقابلي على كرسي هزّاز لتبقى الطاولة على يسارنا، نهضت لأخدمها بقليل من السلطة، قدّمت لها كأس نبيذها، خلعت حذائي وجواربي، حملت صحني بيدي وجلست عاري القدمين، ولأنها فهمت ما أصبو إليه فقد انزلقت بجسدها قليلاً إلى الأسفل، باعدت ما بين ساقيها وراحت تأكل بهدوءٍ بينما عيناها تسوقانني إلى بئر الشيطان، أرخيت بدوري نصف جسدي العلوي في الكرسي وحشرت قدمي بين فخذيها، شعرت بالنار التي زادها النبيذ بلّة، رحت بأصابع قدمي أبحث عن النبع الساخن، أحسست برطوبة العسل، لم تكن ترتدي سروالاً داخلياً، شهقتْ وأغمضتْ عينيها، في تلك اللحظة تناسيت كل ما حدث في شقة ستراسبورغ.

في ذلك المساء فاجأتني هايدرون حين رجتني أن أذهب معها للتسوُّق في نهاية الأسبوع. شرحت لها بكلمات قليلية بأنني لست الرجل المناسب لهذا الغرض، ثم سألتها عن السبب الذي يدفعها لاصطحابي وأنا الذي لا يهتم كثيراً بالموضة، فأفصحت عن رغبتها بشراء هدية لي، وبحكم الفضول سألتها عما تنوي شراءه ودون أن أتوقع جواباً سمعتها تقول: أريد رؤيتك مرتدياً حذاءً أبيض مُبوَّزاً من الأمام وبنطلوناً قماشياً أبيض، هكذا رأيتك في حلمي تدخل إلى غرفة نومي وأنت تبتسم. بعد أن خيَّم الصَّمت علينا لدقائق قليلة همهمت: أنت تستحق امرأة تحبك وتهتم بك، امرأة تليق بك أكثر من هذه الإيرانية الباردة.

تعمَّقت علاقتي بها حين أقلتني ذات صباح بسيارتها لحضور اجتماع مالكي الشقق في البناية، حالما انتهى الاجتماع ذهبنا سوية إلى مقهى الجدار لتناول فطورنا وقهوتنا، هناك تعرّفنا إلى بعضنا جيداً، حكيت لها عن عملي وعلاقتي مع أزيتا، وأخبرتني بدورها عن عملها الشاق وعن زوجها الذي غادر الحياة بحادث سير أليم، ثم حدّثتني عن ابنها الوحيد رومان الذي يرغب بدراسة الاقتصاد ليستلم لاحقاً الأعمال الكثيرة التي تركها أبوه خلفه، ورجتني أن أمنحه الوقت للتعرُّف على شخصي ومعهدي وبأنها ستكون شاكرة لي لو أعطيته فرصة للتدريب لأربعة أسابيع وتزويده بالنصح اللازمة كي يتمكّن من اتخاذ القرار الصائب بشأن دراسته الجامعية القادمة. لمّا سألتها لماذا لا يدرس الطب ليستلم عيادة أمه فيما بعد، تغيّرت ملامح وجهها قليلاً وحاولت تغيير الموضوع لتعود إليه بعد برهة، عندها حكت لي أنّه ومنذ نعومة أظافره قد انشغل بالاقتصاد ولو بأبسط معانيه، كان يجلس في المساءات على الصوفا في غرفة الجلوس ويبدأ بعد مدخراته من العملة الورقية التي يخبئها في خزانته، يفرشها أمامه، يمسكها بيده ، يتأملها ويشمّ رائحتها ورقة تلو الورقة، عندما كبر قليلاً وصار في المرحلة الثانوية بدأ ينظم سراً لقاءات مع رجالات الأعمال الناجحين وكان له فعلاً شرف اللقاء بالبعض منهم.

وهكذا لم أكن وحيداً في غياب زوجتي أزيتا، كانت هايدرون تزورني في شقتي في فرانكفورت وكنت آتي إليها مرة في الأسبوع ولم تكن أزيتا تعلم شيئاً عن لقاءاتنا هذه. فيما بعد التقت أزيتا مع هايدرون فاضطررت لتقريبهما قليلاً من بعض لأكتشف أن أزيتا أخذت تعاملها كأم في الوقت الذي لم تستطع به هايدرون هضم زوجتي الإيرانية. على مضض وافقت هايدرون ذات يوم على اصطحاب أزيتا معها إلى عيادتها في ستراسبورغ لمعالجتها، كانت أزيتا قد أصابت ركبتها في لعبة كرة اليد، حصل معها تمزق في الغضروف الأنسوي وامتلأت ركبتها بالسائل الانصبابي. حين رجعت أزيتا من العيادة كانت تبدو على أحسن حال وقد مدحت طويلاً بشطارة الدكتورة ومهارتها في العمل، وهي تصف لي أناقة العيادة وترتيبها وجدرانها التي امتلأت بلوحات فنية زيتية تارة للمنشار وتارة أخرى للمثقب اليدوي والمطارق والمسامير والصفائح وتجهيزات التثبيت كانت تضحك بسعادة غير مصدِّقة للأدوات الذي يجدها المريض في العيادة العظمية وكأنه يزور ورشة ميكانيكية لصيانة السيارات.

بعد أربعة أيام وصلتني رسالة طويلة من أزيتا تشرح لي فيها أسفها الشديد لما حدث في شقة ستراسبورغ وبأن الأمر مجرد نزوة عابرة والشاب المغربي لا يعني لها شيئاً على الأطلاق، اِلتقته مرتين أو ثلاث ولم يحدث بينهما أي تماس جسدي كما اِدّعت وأنها طردته من الشقة في اليوم نفسه، أسهبت في مشاعرها تجاهي وأكدّت على حبها لي الذي لم يتغيّر يوماً، وأنها وصلت لقناعة راسخة بضرورة البحث عن عمل في كارلسوه، وضرورة الانتقال للعيش سوية في شقتنا، تابعت بأنه ما زال أمامنا متسع من الوقت لإنجاب الأطفال الذين ما برحنا نحلم بهم، وبأنها ناقشت صعوبات الحمل مع طبيبتها النسائية التي نصحتها بزيارة مركز العقم في مشفى جامعة فرايبورغ، طلبت مني مسامحتها للمرة الأخيرة وإعطائها الفرصة وبعض الوقت لتثبت لي صدق نواياها، ختمت رسالتها بأنها ستأتي إليّ في نهاية الأسبوع لنحتفل ببداية عهد جديد لزواجنا. في اليوم التالي، رنّ جرس هاتف المكتب، كانت أزيتا على الخط، راحت تبكي وتعتذر مجدّداً عمّا حدث، رجتني أن نلتقي مساء الجمعة في شقتنا في كارلسروه. لم أناقشها بتفاصيل الأمر بل قلت: نعم، يجب علينا أن نتحدّث وجهاً لوجه، سأنتظرك مساء الجمعة.

***
يتبع في الجزء السابع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد