الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السفر بنظام الإنتر ريل في أوروبا (الجزء الأخير)

منير المجيد
(Monir Almajid)

2019 / 1 / 12
السياحة والرحلات


أخيراً جاءني الخبر اليقين عن مسألة تأخير القطارات التي ضربت ألمانيا المُنظّمة المرتّبة: عطل كهربائي إلكتروني ضرب شبكة خطوط «دويتشه بانه»، فأداخ البلاد قبل العباد، وخاصة حضرتنا (لأنني أعتبر نفسي ذرّة صغيرة من المكوّن الأكبر).
حظي العاثر جعلني أخوض غمار الفوضى غير الخلّاقة. هذه الأعطال جعلتني أركض خلف القطارات كما كنّا نفعل للّحاق بباصات شارع بغداد في دمشق ذهاباً وليس إياباً. أصعد وأنزل الأدراج العالية والواطئة صعوداً ونزولاً لإيجاد منصّات الإنطلاق، وأنا أحمل حقائبي كما سيزيڤ يحمل صخرته المُبينة دون أية فرصة لخداع إله الموت ثاناتوس.

أردت، في الواقع، إنهاء رحلتي في هامبورغ، المدينة الأقرب إلى مزاجي في ألمانيا، إلّا أن أسعار المبيت في فنادق المدينة كانت ضرباً من الجنون. هكذا كانت المعلومات الإنترنيتية. فندق سبق أن بتُّ فيه عدة مرات سابقاً، قفز سعره من ٨٠ إلى ٥٠٠ يورو! ماذا يجري في ألمانيا بحق السماوات والجحائم (هل هذا جمع تكسير سالم مُعافى لجحيم؟).
مدينة آخن الجنوبية لم تكن أفضل. ذهبت إلى إحتمالات في مدينة دوسلدورف، فوقع نظري (وإختياري أيضاً) على فندق يحمل إسم «أساهي». هممم، ياباني؟ أساهي هو إسم بيرتي المُفضّلة في اليابان وتحوز على نسبة ٣٨٪ من مُجمل مبيعات البيرة في اليابان.
هكذا كان الأمر! توضّحت الصورة أكثر حينما قادني تلفوني الذكي إلى موقع الفندق على مسافة دقيقتين من المحطة الرئيسية. مطاعم، فنادق، دكاكين ووجوه يابانية في كل زاوية وزنقة.
في الفندق تحلّى الموظفون بتلك الأخلاق والخدمات اليابانية المعروفة فغمرني شوق وحنين إلى بلدي الثالث، المملكة اليابانية المُتّحدة من زمان المرحوم «ميجي».

بعد أن حصلت على كنزي المفقود على شكل عدسة محترمة لكاميرتي (كما أسلفت سابقاً)، أردت الحصول على طبّاخة الأرز المنشودة.
لم أستطع في كل هذه السنوات من زياراتي المتواصلة لليابان شراء الطبّاخة اللعينة، لأنهم يستعملون ١١٠ ڤولت، بينما الكهرباء في أوروبا هي ٢٢٠ كما هو معروف. وحينما كنت أسأل محلات بيع الأدوات المنزلية هناك عن إمكانية توفّر طلبي، كانوا يقولون: ربما في المدن الكبيرة، لكن ليس هنا. حينما أكون هناك فأنا أقيم في الريف، ولم أستطع إيجادها لدى باعة المدن الكبيرة في زياراتي السريعة المُختصرة.
حاولت كثيراً، ووجدت مبتغاي لدى موقع «أمازون». هؤلاء أرفض التعامل معهم بشدّة. لماذا؟ لأنني إن أردت شراء كتاب، على سبيل المثال، فإنهم سيطلبون أولاً بريدي الإلكتروني، ورغم أنني، وبوضوح، أختار «كبسة» أنني لا أرغب بتلقي عروض وأشياء رخيصة، فإنهم يمطرونني برسائل يومية تحثني على شراء هذا وذاك. كراهيتي للدعايات تُضاهي كرهي لملكة الغناء العربي «أحلام». هي ليست أحلام في الواقع بل مجرّد كوابيس شيطانية.
وكي لا أطيل مونولوجي الداخلي الذي لن يعني الكثير للكثير، فقد وجدت ضالتي لدى سوبرماركت ياباني فسط (كما يقول أهل حلب) دوسلدورف، التي فيها أكبر جالية يابانية ضمن أكبر جالية يابانية في أوروبا.
لم أهتمّ كثيراً بخدمة صاحب المحل التي لم تكن وديّة كما هي العادة في بلاد الشمس، لكنني خرجت من المحل مزهواً وأنا أحمل طبّاخي المحشو في كرتونة كبيرة لم أفكّر، ولا حتى لجزء من الثانية، عن مصاعب نقلها في قطارات مصابة بڤايروس عدم توتّر الكهرباء، على إعتبار أن التيار الكهربائي أقل حينما يكون التوتّر لعمودين أو أكثر هو الأكبر.

مررت على هامبورغ رغم إنف أسعار الفنادق، لأن الذهاب نحو الشمال ضرورة لتبديل القطار. وهناك كانت الطّامة الكبرى: تابعت التعليمات بدقّة، وذهبت أنتظر قطار «فلينسبورغ» على الرصيف ١١، وكان هناك لوح إلكتروني يُوضّح موعد الإنطلاق. طيب ممتاز! لكنني كنتُ أقف وحيداً، بينما على الرصيف المقابل، رقم ١٣، بدا إسم فليسنبورغ واضحاً على عربات قطار بطول شارع.
تعليمات مكبّرات الصوت باللغة الألمانية لم تسعفني، فسألت شاباً مرّ من هناك يجرّ كلبين صغيرين وراءه، لم يترددا لحظة بشمشمتي والتشبّث ببنطلوني. قال أنه من الواقعي أن أذهب إلى الرصيف التالي، الذي سيتطلّب مني السير لمسافة مُعتبرة وصعود درج سيزيفي آخر، ثم السير باتجاه الجنوب والنزول على درج سيزيفي ثالث.
صح! كان ذاك قطاري.

حينما استقرّ بي المقام، أخيراً، في مقعد وثير مريح، وأنا متعرّق في خريف الرايخ الرابع، صرت وبنوستالجية بليدة، أستعيد ما عرّضت نفسي له من تحقيق حلم الشباب: رحلة الإنتر ريل!
وعلى وقع طقطقة مفاصل السكّة، وأنا مُستلقٍ في مقعد جلدي وثير ومُترف، لاحظت أن خطوط السكك المتوازية العديدة على اليمين تلتقي في حقيقة الأمر، لأنها تندمج أحياناً لتغيير مسار العربات.
وفكرت أيضاً أن الحكم على جمال المدن لا يتمّ مُطلقاً من منظور جلوسي في عربة والمكتوب لا يُقرأ من عنوانه، فالصدأ يملأ السكك ماعدا الجهة العليا المصقولة بحكم مرور العجلات المعدنية، والأحجار الصغيرة السوداء تغطي الأرضيات لتنشر البؤس على المشهد، والجدران التي تحمي المناطق السكنية من الضجيج مليئة برسوم وحروف الغرافيتي القبيحة. هؤلاء الشبّان يستحقّون الجلد العلني في ساحات مدن المملكة العربية السعيدة (قلت لنفسي). حتى المناطق المُحيطة بمحطات القطار ليست جميلة، ففيها يلجأ الفقير والبائس والمُشرّد ومدمن الكحول والمخدرات والقحبة والعرصة ورجل البوليس.

كانت الأشجار والبلدات والقرى والبقر والماعز تختفي بسرعة بعد ظهورها بلحظات وبدا لي القطار كفم وحشٍ هائل يبتلع كل شيء.

حسناً، لن أكون سلبياً طيلة الوقت لأن هذه الرحلة أغنتني رغم كل المطبّات.
السفر بالقطارات متعة والإنتظار في المحطات ومراقبة وجوه المسافرين التي تحمل ألف تعبير مختلف ومغاير من واحد لآخر. كما في البصمات لا تتشابه.
هل اجرؤ على إعادة التجربة مرة اخرى؟ لا أعرف!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا، أي تداعيات لها؟| المسائية


.. الاتحاد الأوروبي يقرر فرض عقوبات جديدة على إيران




.. لماذا أجلت إسرائيل ردها على الهجوم الإيراني؟ • فرانس 24


.. مواطن يهاجم رئيسة المفوضية الأوروبية: دماء أطفال غزة على يدك




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا الحربية أغارت على بنى تحتية ومبان