الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة إلى جورجيت

منير المجيد
(Monir Almajid)

2019 / 1 / 13
سيرة ذاتية


كانت أغاني الحماس والمقاومة المصرية ماتزال تُبثّ في محطات الإذاعة، إثر الهزيمة المُفجعة لجيوش مصر والأردن وسوريا في حرب حزيران عام ١٩٦٧.
في اليوم الخامس وقبل أن ينتشر نبأ الحرب، سُحبت أوراق إمتحان اللغة العربية من أيدينا، وطلبوا منّا أن نغادر، دون أي تفسير أو مبرّرات.
كانت الدهشة سحابة هائلة قد عمّت الدنيا من حولنا، وانصرفنا إلى بيوتنا الطينية لنحتمي من شمس القامشلي التي أظهرت قواها بترف مرعب ذاك العام. حينما عدنا إلى تكملة إمتحانات الشهادة الإعدادية. كانت الحرب قد تسببّت في تقصير فترة العطلة الصيفية.
هكذا كان تأثيرها علينا تلك الأيام، التي لم نكن نترصّد فيها سوى حرب هرمونات الجنس في أجسامنا الهزيلة. كنّا ننتقل إلى مصاف الرّجال مدفوعين بقوة لو قُدّر على تحويلها سلاحاً لاستطعنا تدمير إسرئيل عن بكرة أبيها.
وحينما عدنا إلى مقاعد الدراسة، كنّا قد ارتدينا بدلات الكاكي، وصرنا فتيان «الفتوة»، وجاء البرد من سيبيريا مخترقاً سلاسل الجبال ليُجمّد أطراف أصابعنا الحاملة للكتب المدرسية.

سرعان ما حلّ آذار. وفي ذاك العام أُزيلت كل فقرات التهريج بقيادة «عمر بصمجي» عن حفلات الثامن من آذار على مسرح المركز الثقافي، وألغيت فقرة «حسن» الذي كان يرقص على أنغام الفيلم الهندي «جنكلي» مُقلّداً حركات «شامي كابور»، وأُستعيض عنها بعروض رقصات المُقاومة ووضعوا بندقيات مصنوعة من الخشب في أيدي الأبطال، وألبسوا الأمريكان والإسرائيليين والبريطانيين ثياب وطاقيات العيب والإمتهان. أنا لعبت دور الإسرائيلي وتعرّضت لبضع ركلات وأنا راكع.
ثانوية القادسية للبنات كانت تشارك أيضاً في مسرحية لا أذكر من تفاصيلها سوى وجه «جورجيت». كانت ترتدي فستاناً أبيض اللون، وتضع على رأسها تاجاً فبدت كأميرة حقيقية. كانت تقف على المسرح مع جمهرة من فتيات أخريات، وأنا لم أر سواها. جسدها المُتناسق، بشرتها البيضاء الشاحبة، وجهها الميلانكولي حامل أسرار الكون، وعيناها. نعم، العينان الزرقاوان بلون مياه البحر على أطراف السواحل حينما تشتّد زرقةً لازورديةً.
لقد إرتكب الله خطيئة حينما أحاطها بكل هذا الجمال. هو جمال قتّال.
بين فقرة وفقرة كانت تجمعنا الكواليس، وأنا لم أجرؤ على الإقتراب منها، لكنها، وأنا متأكد من ذلك، شعرت بنظراتي توخزها، فرفعت، مرّة واحدة فقط، رأسها نحوي وابتسمت بحركة من شفاهها.
تلك الإبتسامة صارت نذيراً لعشقي لجورجيت.

كنت أقابلها كل يوم. أحياناً مرتين. عندما كانت في طريقها إلى المدرسة صباحاً، لأنني عرفت الطريق الذي تسلكه، ومن ثمّة المشوار الإلزامي جيئة وذهاباً في شارع القوتلي. هي مع شقيقتها الكبرى على ذات الرصيف من الشارع، وأنا مع صديق أو إثنين.
في كل مرّة كانت تلتقي نظراتنا، وفي كل مرّة كانت تبتسم لي بذات الطريقة، لتجعل قلبي يقفز في مكانه مُفصحاً عن حبي، ولطالما كنت مُتيقّناً أن جمهرة الماشين في الشارع العتيد تراني عارياً وقلبي يخرج صاخباً من قفصي الصدري.

استمرّ الأمر على هذا النحو حتّى تحضّري لإمتحانات الشهادة الثانوية، وحينها تشجّعت ولملمت نفسي لأكتب لها رسالة.
جمعت كل كلمات الغزل التي لقّنتني إياها كتب المركز الثقافي، ولم أشعر أنها كانت كافية لتُعبّر عن حبي. أعدت كتابة رسالتي عشرات المرّات، وقرأتها مئات المّرات، وضعتها في ظرف اشتريته من دكان «كيزاوي»، بجانب مطعم «رفيعة»، وعزمت على تسليمه لها، وليحدث ما يحدث من كوارث وحروب.
اعترضت طريقها وهي ذاهبة إلى المدرسة حاملاً الرسالة بيدي، وعلى بعد خطوتين رميت الظرف أمامها على الرصيف، لكنها تجاوزتني واضعة ذات الإبتسامة على وجهها.
عدت وتلقّفت، مرتبكاً ومرعوباً، رسالتي بسرعة ثم أتممت طريقي.
حدث الأمر بسرعة جنونية، لذا فأنا لا أعرف إلى اليوم، إن تنبّهت جورجيت، في ذلك الصباح، إلى الرسالة أم لا. إلّا أن الحادثة تركت في قلبي أثر جرح خلتُ أنه لن يشفى.

أين أنتِ الآن يا جورجيت؟
تناهى إلى مسمعي نبأ زواجك وأنا في جامعة دمشق، وتواردت أنباء أخرى عن هجرتك إلى أمريكا. وفي رواية اخرى إلى كندا. لا بأس، هل شختِ كما هو حالي؟ لا أتصوّر التجاعيد تحيط بزرقة عينيك أبداً، هذا كفر وإجحاف.
هل أنجبت أولاداً وأنجب أولادك أولاداً فصار لك أحفاد؟ ما هو لون عيونهم؟

أينما كنتِ الآن، أنا مازلت أحبّك يا جورجيت. هذا ما أردت أن أقوله في مختصر تلك الرسالة، وفي هذه الرسالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبة على العقوبات.. إجراءات بجعبة أوروبا تنتظر إيران بعد ال


.. أوروبا تسعى لشراء أسلحة لأوكرانيا من خارج القارة.. فهل استنز




.. عقوبات أوروبية مرتقبة على إيران.. وتساؤلات حول جدواها وتأثير


.. خوفا من تهديدات إيران.. أميركا تلجأ لـ-النسور- لاستخدامها في




.. عملية مركبة.. 18 جريحًا إسرائيليًا بهجوم لـ-حزب الله- في عرب