الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-أيام العجوز- و الشتاء و-المستقرضات- و-سالف العنزة-

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2019 / 1 / 14
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لما كنت في الجزائر، قصَّ عليّ صديق جزائري من "الأمازيغ" قصة ذات صلة بالشتاء بعنوان "سالف العنزة" والمقصود بها آخر يومين من كانون الثاني"الذي يدعى ينّار بالأمازيغية". و تقول الحكاية أن عنزة مغرورة كانت ترعى في ذلك اليوم و هي ترقص و تنط بفرح بالغ لقرب انتهاء ينّار، مما اثار حفيظة ينّار وغيظه فطلب من أخيه شباط "فورار بالأمازيغية" أن يقرضه يوماً أو يومان كي ينتقم من العنزة، فوافق على طلب أخيه، وحينها قام ينّار بإرسال عاصفة شديدة أطاحت بالعنزة. ومازال الرعاة في أعالي جبال لالا خديجة وجرجرة و تيكجدة يتجنبون الخروج بماشيتهم في نهاية ينّار خوفاً عليهم وهم يرددون طلب ينّار مخاطباً تلك العنزة سيئة الحظ: "نسلّف نهار من عند فورار، ونخلّي قرونك يلعبو بيهم الصغار.. في ساحة الدوّار". ‏
في مكان آخر ،على الساحل الشرقي للمتوسط ،قسّم الناس الشتاء-ربما بداعي الضجر من بين أشياء عديدة- إلى مربعنية و خمسينية* وتشمل"السعود"و "المستقرضات" ** و"الحسوم"*** وغيرها. و "المستقرضات" أو "أيام العجائز"**** أو"مستقرضات الروم"***** وتقع في خمسبنية الشتاء وتحديداً في سعد السعود الذي يبدأ من ظهر يوم 24 شباط إلى ظهر 8 آذار، وعددها سبعة أيام، آخر ثلاثة أيام من شباط و أول أربعة أيام من آذار ( و إذا كانت السنة كبيسة فتكون أربعاً من شباط وثلاثاً من آذار). و تتميز بالبرودة الشديد و لأمطار والرياح القوية. و الملفت للنظر أن المستقرضات تأتي بعد فترة دافئة نسبياً حتى ليخال المرء أن الشتاء قد انقضى، ويتندر سكان بعض قرى لبنان على تقلب الطقس بقولهم: “قالوا الشتوية خلصت وصار الأمر محسوم، تاري هالعالم نسيت هودي مستقرضات الروم”. كما يقول المثل الفلسطيني" في المستقرضات عند جارك لاتبات"كناية عن البرد و غزارة الأمطار حيث يستحسن أن لايبقى المرء طويلاً خارج بيته.
‏ومثلما دخلت سالف العنزة في الموروث الشعبي الجزائري الأمازيغي، فالمستقرضات أخذت نصيبها من الموروث الشعبي في بلاد الشام ، ورغم التنويعات المختلقة للقصة إلا أن مكونها الأساسي يدور حول سيدة عجوز لديها أغنام "عددهم ستة في بعض الروايات". تنهض العجوز في أحد أيام أواخر شباط لترى الجو صافياً و دافئاً وبدأ الحر يدب في الأرض ،فتقول لقومها " فات شباط الخباط وما أخذ مني لا نعجة ولا رباط وضربناه ع قفاه بالمخباط****** (أو وضربنا على ظهره بالمخباط باختلاف الروايات"، ‏وأمرتهم بحل الخيام والنزول إلى الوادي المجاور، فلما سمعها شباط لم يستطع كظم غيظه فهرع نحو آذار مستنجداً يقول" آذار يا ابن عمي ثلاثة منك وأربعة مني تنخلي وادي العجوز يغني" (أو ذار يا خوي يا إيذار ثلاثةٌ مني وأربعةٌ منّك نرد العرب إلى مشاتيها على اختلاف الراوي و بيئته) فاستجاب آذار لطلب شباط ؛ فبدأت الأمطار الغزيرة بالهطول لمدة سبعة أيام لتتتشكل السيولفي الوديان وتجرف من طريقها القطيع و العجوزا التي كان همها أغنامها أكثر من نفسها لاقتراب موعد تكاثرها ، فصارت العجوز تولول و تصيح "شباط ماله رباط وآذار غدار، ثم اتجهت نحو السيل تتوسله:" ياسيل درجهن على مهلهن ، معاشير لايرمن حملهن ".
و من التنويعات الأخرى للحكاية أن كان للعجوز حفيد من ابنها وحفيد من ابنتها ، و كانت العجوز تميل لابن ابنتها ( ابن الحبيبة) أكثر من ابن كنتها ( ابن العدوة )، فاستنجدت بابن الحبيبة لينقذ غنمها من السيل فلم يكترث لأمرها ، ونظر ابن كنتها لجدته تستغيث فهرع لمساعدتها أن تطلب منه ذلك فأنقذها و أنقذ أغنامها فقالت :"ابن الحبيبة عدّا وخلاني، وابن العدوة قطع البحر عشاني"
.....
*تبدأ المربعنية في نصف الكرة الشمالي يوم 21 كانون الأول حيث أقصر نهار وأطول ليل في السنة ..وتنتهي يوم 30 كانون الثاني. مدتها 40 يوما، وهي بداية الشتاء فتكثر الأمطار و تنخفض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر في بعض الأحيان، وتقسم إلى ثلاثة نجوم بأيام متساوية ،يطلق على الأول الإكليل، ويوصف بأنه" إذا طلع الإكليل هاجت الفحول وشمرت الذيول وتجرفت السيول". والثاني يسمى القلب وفيه أطول ليلة وأقصر نهار ويقولون عنه "إذا طلع القلب امتنع العذب وصار أهل البوادي في كرب"، أما الثالث فيسمى الشولة وهو آخر أيام المربعنية.
أما الخمسينية فتبدأ في أول شباط وتنتهي في 21 آذار ومدتها خمسون يوماً ،وتشهد ااخمسينية سقوط الجمرات الثلاث في شهر شباط ففي الخامس منه تسقط جمرة الجوا التي تدفىء الهواء و الرابع عش تسقط جمرة الماء حيث تبدأ مياه البرك و الانهار بالدفىء ثم في الحادي و العشرين من سباط تسقط جمرة الأرض التي تدفى التربة، وتقسم الى أربعة أقسام متساوية مدة كل قسم اثناعشر يوماً ونصف اليوم هي سعد الذابح وسعد السعود وسعد بلع وسعد الخبايا ولكل اسم معنى خاص يتوافق مع حالة الجو و التبدلات التي تحصل فيه.‏ويروى عن سبب التسمية أن شخصاً يدعى يعد عزم على السفر في نهاية الأربعينية ، رغم محاولة والديه ثنيه عن ذلك، فما كان من والده إلا أن نصحه بالتزود بالمزيد من الفرو و الحطب اتقاءً للبرد القادم ،لكنه تجاهل النصيحة وظن ان الجو سيبقى دافئا كما هو قبل سفره ،فركب ناقته و مضى، وبعد يومين من السفر نظرت والدته شمالا فرأت الغيوم الشمالية "وهي ريح جافة وشديد البرودة" ، فنظرت نحو زوجها مستفهمة ،فأجابها لاتقلقي (إن ذبح سعد سلم وإن لم يذبح هلك) .وتتبع سعد سيره ،اكنه لم يقو على مواجهة غضب السماء الملبدة بالغيوم المطيرة و ااثلوج و الريح الباردة ، فلم يجد ملاذاً له سوى ذبح ناقته و الاحتماء بأحشائها، فسمي( سعد ذابح)، وبعد أن فترة أحس يعد بالجوع فأكل من لحم الناقة وخبأ بقايا اللحم في الثلج وهكذا كان (سعد بلع )، ثم بعد ذلك هدأت السماء وبدأت الشمس بالظهور على استحياء ففرح سعد بها وخرج من مخبأه فكان ( سعد السعود ) ،فقام سعد بتابع سيره بعد أن صنع لتفسه معطفاً من وبر ااناقة و أخذ بقايا لحمها الءي خبّأه وتابع سيره وهكذا كان (سعد الخبايا ) .وثمة رواية أخرى عن ااخمسينية يقال أنها تعود لعصر الدولة الأموية حين عرف العرب البريد بواسطة الخيل والإبل، كان رجل يدعى سعد مكلف بنقل البريد في بلاد الشام، وذات في أوائل الخمسينية خرج سعد بالبريد من دمشق وكان الجو غلب عليه المطر و البرد ، فذبح ناقته واختبأ بداخلها فسمي سعد الذابح وقالوا فيه" سعد ذابح ما بخلي كلب نابح .‏ وبعد ان خفتت حدة البرد و المطر قام سعد من ناقته فأكل من لحمه ،فسمي سعد بلع،"بعتقد الفلاحون ان الأرض في سعد بلع تبلع كل المطر الساقط فلا يظهر بركاً على سطح الأرض.‏" ، وحيث أن سعداً هذا نجا من البرد و الجوع وحيث بدأ الجو دافئا أكثر مما سبفه من ايام فلابد ان يكون سعد سعيدا، ولذلك سميت هذه الفترة سعد السعود ،وقالوا عن هذه الفترة في سعد السعود بدور الدم في العود أي تحرك الدم في شرايين سعد بعد أن كان مُتجمداً من البرد؛ ويترافق مع هذا السعد نهاية شباط وبداية المستقرضات حيث تنتهي فترة سبات النبات استعداداً لفترة التلاقح "،وتقع في الحسوم" . وأخيراً تنتهي الخمسينية بسعد الخبايا، فتخرج الزواحف ذات الدم البارد من سباتها، مثلما خرج سعد من مخبأه
**تسمي العرب كل يوم من أيام المستقرضات باسم خاص به وهي: صن (لشدة البرد)، صنبر (يترك الأشياء متجمدة قاسية من البرد)، آمر (يأمر الناس بالحذر منه(، مؤتمر (يأتمر بالناس بالشر والأذية)، وبر (يمحي الآثار من شدة المطر والبرد)، معلل (يعلل الناس ويمنيهم بتخفيف البرد)، مطفئ الجمر (من شدة البرد، وبعده لا يوقد جمر لارتفاع البرد).
***سميت بالحسوم لأنها تحسم فصلي الشتاء و الربيع ، وتبدأ في العاشر من آذار حتى السابع عشر منه ، وهي فترة تلاقح النبات وتتميز بكثرة هبوب الريح،وفي الموروث الشعبي كان يعتقد أن الحسوم أيام منحوسة، فكانوا يمتنعون عن الأعمال الزراعية و التجارة ولا يتزوجون ولايعاشرون نساؤهم فيها لاعتقادهم أن النساء لو حملت فبها فسوف تلد أجنة مشوهة، وردت الحسوم في القرآن في سورة الحاقة و عددها سبعة أيام (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍسَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍفَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ).ويرى المفسرون أن المقصود بها الريح التي أرسلها الله للقضاء على قوم عاد فحسمتهم ولم تبق على احد منهم .
****يقال في سبب هذه التسمية أن عجوزاً من العرب كان عندها حاسة التنبؤ بأحوال الجو ( تشبه حكاية زرقاء اليمامة ،أو ربما هذا أحد تنويعات حكايتها) فأخبرت قومها أن برداً سيقع آخر الشتاء وسيتلف الزرع والضرع فلم يصدقوها لكن حدث في آخر الشتاء ما كانت قد نبأتهم به فسموها أيام العجائز .‏وقيل أيضاً في سبب التسمية إن عجوزاً لها سبعة بنين سألت العرب أن يزوجوها فقالوا:‏ نزوج على أن تعرض جسدها للهواء سبع ليال ففعلت فماتت سابع يوم فسموها أيام العجائز .‏
***** “مستقرضات الروم” بالنسبة للطوائف الشرقية التي تتبع التقويوم اليولياني تتأخر 13 يوماً عن التقويم الغربي. فتكون “مستقرضات الروم” عملياً هي نفسها، مضافاً إليها 13 يوماً، أي 11-12-13 آذار و14-15-16-17 آذار.
******قطعة خشبية غليظة و طويلة؛ مستدقة وعريضة من أحد طرفيها كانت تستخدم لتنظيف الصوف بضربه بها








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد