الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العنف السلطوي بين بن خلدون ومنظري الديمقراطية

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2019 / 1 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


العنف السلطوي
بين بن خلدون ومنظري الديمقراطية

البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-


علمنا التاريخ أن الدول الديمقراطية هي الأكثر إستقرارا وديمومة، مما يسمح بالتنمية وتراكم البناء، وذلك على عكس الدول ذات الأنظمة الإستبدادية التي تنهار بسرعة بسبب الصراع العنيف حول السلطة، سواء للوصول إليها أوالبقاء فيها، فتهمش الكفاءات والطاقات، وتتبدد الأرواح والأموال، ولا يمكن الخروج من هذه الدائرة الدموية المغلقة إلا بالآليات الديمقراطية التي تعد حلا سلميا لمشكلة السلطة، ولكل التناقضات المختلفة السائدة في المجتمع، ويبدو أن لهذه الأسباب ذكر الله تعالى قوة دولة سبأ، وأثنى على ملكتها، لأن نظامها شوريا .
لم يطرح المسلمون مشكلة السلطة بشكل جدي عبر تاريخهم، والتي كانت سببا للفتن والحروب منذ الفتنة الكبرى، فأستسلموا للملك العضوض وللصراعات الدائمة حول السلطة، فتسقط دول لتأخذ أخرى مكانها بعد صراعات دموية مدمرة، ولم ينتبهوا إلى إشارة القرآن الكريم إلى الطبيعة السلطوية للإنسان وخطورتها على مصيره، والتي سماها ب"الملك"-أي السلطة بشكلها الواسع-، فقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم، بأن إبليس أغوى آدم بالأكل من الشجرة الملعونة بعد إيهامه بأن ذلك سيعطيه "خلدا وملكا لا يبلى"، ولم يكن إنكشاف سوءاتهما بعد الأكل من الشجرة إلا ترميزا وإشارة إلى ظهور طبيعة الإنسان الحقيقية والمتسترة عند سعيه إلى السلطة والصراع حولها، وهي عادة ما تتصف بالدموية والهمجية في حالة هذا الصراع، وهو نفس ماتوصل إليه تقريبا الفيلسوف الأنجليزي هوبز عند وصفه طبيعة الإنسان بالقول "أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، مما يتطلب التفكير الجدي في آليات تحد من الصراعات الدموية بين البشر، وقال ذلك في فترة كانت فيه أوروبا تعج بصراعات دموية حول السلطة، فكان ذلك كله منطلقا فلسفيا وواقعيا لكل الفكر السياسي الذي أنشغل بالبحث عن آليات للتخلص من هذا العنف المدمر، فبرز لوك وروسو ومونتسكيو وغيرهم من واضعي الأسس والآليات الديمقراطية الحديثة، والتي تحتاج إلى تطويرها أكثر اليوم.
يلاحظ الباحث في التراث الفقهي الإسلامي غياب نسبي ل"فقه السلطة" والتفكير في إيجاد آليات لحل سلمي للصراع حولها، ويعود ذلك إلى الخوف من الإقتراب من قضايا السلطة التي أستحوذ عليها المستبد، وأكتفى أغلب الفقهاء بتحريم الثورة على السلطان حتى ولو كان ظالما، وذلك درءا للفتنة، فإكتفاءهم بذلك جعلت أوروبا تسبقهم إلى إختراع آليات الديمقراطية كحل سلمي لمختلف التناقضات والصراعات التي عرفتها مجتمعاتهم، ومنها مبدأ التداول السلمي على السلطة بواسطة الانتخاب الذي يعد حلا عمليا يجمع ويوفق بين مبدأي "حق الأمة في عزل السلطان" و"درء الفتنة".
لعلنا سنتفق مع بعض القائلين بإستحالة إنتاج الأجيال السابقة أفكارا محددة لعدم نضج الظروف، لكن بما نفسر بقاء بعضنا يعيش بنفس الأفكار القديمة المبنية على الغلبة والقوة والعنف للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها في القرن21؟.
يعد الفيلسوف الأنجليزي توماس هوبز من الأوائل الذين أنتبهوا إلى علاقة السلطة بالعنف من خلال تفسيره لتشكيل الدولة بالقول سببها هو العنف المدمر بين البشر بحكم أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وكي يحمي كل إنسان حياته وممتلكاته من العنف تنازل الجميع عن عنفهم إلى سلطان سماه هوبز ب"لفينتان"، وتكون مهمته إحتكار العنف مقابل تنازل كل فرد في مجتمعه عن بعض حقوقه مقابل أمنه، فالدولة في نظر هوبز هي نتيجة بحث الإنسان عن أمنه وسلامته، ولهذا فأول مهمة لأي دولة كانت هي حفظ الأمن للجميع داخل المجتمع الواحد الذي تسوده أو في مواجهة خطر خارجي عليه.
لكن هل كفل وجود السلطان الذي بيده كل شيء، وتنازل له الجميع للحفاظ على الأمن والأملاك -حسب هوبز- لضمان السلم والإستقرار والأمن، أم عرف هذا الإستقرار تقلبات وصراعات دموية من أجل الإستيلاء على السلطة السياسية المؤدية بدورها إلى النفوذ المالي والإقتصادي كلما فقدت السلطة القائمة شرعيتها الشعبية أو ضعفت بشكل أو آخر؟. يثبت التاريخ البشري تواصل هذه الصراعات الدموية والحروب الداخلية بهدف الوصول إلى السلطة، فقد عرفها التاريخ الإسلامي مباشرة بعد وفاة سيدنا محمد(ص)، فتقاتل الصحابة من أجل السلطة أثناء ما يسمى في هذا التاريخ ب"الفتنة الكبرى"، فلم تكن الأخلاق والدين والقرب من الرسول(ص) كافية لصد هؤلاء عن الصراعات السلطوية، فاستغل الكثير من هؤلاء الدين من أجل السلطة والوصول إليها بشكل لايمكن تصوره. أن هذه الظاهرة التي نعيشها اليوم من خلال توظيف الدين لأهداف سلطوية هي في الحقيقة قديمة سواء عند المسلمين أو الشعوب الأخرى، ففي البلاد المغاربية مثلا صور بن خلدون الظاهرة بشكل واف ومفصل جدا في مقدمته، حيث سادت الفوضى واللآإستقرار في هذه المنطقة بسبب الصراع بين بدو وحضر، حيث دائما ما يستغل البدو الدين بعد مايستندون على قبيلة ومذهب ديني، فيكفرون أصحاب الدولة الذين تمدنوا وتحضروا متهمين إياهم بأنهم أنحرفوا عن العقيدة والشريعة، فتندلع الحروب من أجل السلطة، وتأخذ طابعا قبليا وطائفيا أو مذهبيا، لكن بعد أخذ هؤلاء السلطة يأتي بدو آخرون، فيعيدون نفس الكرة مع السلطة القائمة، فيسود اللاأمن واللآإستقرار والحروب مرة أخرى، أن تشريح بن خلدون لهذه الظاهرة وتهجمه على البدو الذين سماهم ب"الأعراب" هو في الحقيقة دعوة غير مباشرة منه إلى إبعاد الدين عن الإستغلال السياسوي، وهي تعد محاولة تأسيسية علمية للأئكية في القرن 13م وفي تاريخ المسلمين.
أن هذه الظاهرة الخلدونية المرتبطة بالعصبيات هي التي دفعت فريدريك أنجلس في دراسة له عام 1894 في مجلة دي نيوزايت الألمانية die new zietإلى تفسير تخلف شعوب شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وقال أن ذلك يعود إلى هذا الصراع الدائم الذي جعل المنطقة لاتعرف الإستقرار وإستمرارية الدولة لمدة طويلة، مما يسمح بتراكم البناء والتنمية. ما يؤسف له أن هذه الظاهرة لازالت مستمرة في هذه المنطقة إلى حد اليوم، فظاهرة إستغلال الدين للوصول إلى السلطة التي ظهرت بقوة في العقود الأخيرة ماهي في الحقيقة إلا تكرار لهذه الظاهرة الخلدونية، فما لم نقم بقطيعة مع هذه الظاهرة المتمثلة في توظيف الدين لأغراض سلطوية وسيادة مختلف العصبيات القبلية والجهوية والطائفية والدينية واللسانية وغيرها، فإنه من الصعب جدا ضمان سلم وإستقرار دائم في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط يسمح بتراكم التنمية والبناء الإقتصادي.
ان ظاهرة الصراع حول السلطة المغذية بالقبلية والدين وغيرها عرفتها أوروبا أيضا عبر تاريخها الطويل، ولعل أشهرها تاريخيا الحروب الدينية في القرن17م التي دامت 30عاما بين البروتستانت والكاثوليك، لكن رغم سلبيات هذه الحروب وتأثيراتها على حياة البشر، إلا أن الأوروبيين أستفادوا منها فيما بعد، حيث أنتجوا محاولة لبناء السلام بموجب معاهدة ويستفاليا في 1648 التي أنتجت الدول الأوروبية الحديثة، ووضعت مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وبتعبير آخر أنتجت ما يسمى اليوم إحترام "مبدأ السيادة" الذي أقرته هيئة الأمم المتحدة في 1945، لكن أكثر من كل هذا مهدت هذه الحروب الدينية وغيرها لمبدأ "إبعاد الدين عن الإستغلال السياسوي" فيما بعد، والذي يعد عاملا رئيسيا في الإستقرار النسبي الذي عاشته، وتعيشه الكثير من الدول الأوروبية خاصة، والغربية عامة. تدل كل هذه الصراعات العنيفة على أن طرح هوبز غير كاف لضمان الأمن والسلم والإستقرار، وهو ما دفع مفكرون آخرون كجون لوك ومونتيسكيو وجون جاك روسو وغيرهم إلى التنظير للنظام الديمقراطي كحل سلمي لمختلف التناقضات السياسية و الأيديولوجية والإقتصادية والإجتماعية والطبقية والثقافية وغيرها التي تعرفها كل المجتمعات وأمم الأرض. أستهدف هؤلاء المفكرون والمنظرون تحويل الصراع العنيف والدموي حول السلطة إلى صراع سياسي غير عنيف مبني على التداول السلمي عليها بواسطة الإنتخابات المعبرة عن إرادة الأمة مع إحترام الحريات وفصل السلطات وإبعاد الدين عن الإستغلال السياسوي وغيرها من المباديء الديمقراطية التي تطورت تدريجيا عبر عقود من الزمن، مما جعل الكثير يعتقد أن هذا النظام هو الذي حد تماما من الصراعات الدموية من أجل السلطة في هذه الدول، بل سمح لها بالثبات والإستمرار والإستقرار لمدة طويلة جدا، مما سمح بتراكم عملية البناء والتنمية.

البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات