الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثلاثية الكلاب

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2019 / 1 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


1
(لا يعلم ما في الخف إلا الله والإسكافي)

هل يمكن للكلام أن يكون أشدُّ وقعاً على المرء من وقع الحسام المهند؟ كيف يكون ذلك و عمل السيف القتل الصريح؟ أما الكلام, فهو سمح سهل, يؤلف بين القلوب, يُعجم أحياناً, ويفصح أحياناً أخرى, يُضمر ألماً موجعاً, أو يُظهر فرحاً وسروراً. صدر هذا الكلام شبيه بشيء لا بأس بروايته في هذا الموضع, فقد قالت العرب: إن كلباً وقف بباب دكان إسكافي, وأطال الوقوف, نهره صانع النعال قائلاً : ما فائدة وقوفك ببابي, ابحث عن دكان قصَّاب؟ إلا أن الكلب تمهل, وراح يحشر أنفه هنا وهناك و يُبعثر النعال المشدودة على قوالب الخشب المنقوعة في الماء, فما كان من الإسكافي إلا أن استشاط غضباً, فرمى الكلب بخف , فأوجعه جداً, فجعل الكلب ينبح , فقال له أصحابه من الكلاب: أكل هذا من خف؟ فقال: لا يعلم ما في الخف إلا الله والإسكافي. لا شيء في يده, أوجعه الضرب فنبح, وهذا من حقه. تلك الأيام كان الإسكافي يعمل النعال من جلد الحيوان يُخيطه بيده ويشدّه على قالب من خشب الزان الثقيل. ومن هنا قالت العرب: اشدد يديك بغرزه. يُضرب المثل في حثّ المرء على إتقان عمله , وقد استعيرت كلمات هذا المثل من رفيقنا الإسكافي الذي كان يصنع النعال ويشدُد يديه بغرزها.
2
(الكلب كابي من فرقة الحكيم فيتاليس)

كلب الإسكافي استحضر الكلب الأمين كابي من فرقة الحكيم فيتاليس الموسيقية الجوالة المؤلفة من الفتى الطيب ريمي والكلاب كابي و زربينو و دولس والقرد الفطن جولي كور وهم أبطال رواية الفرنسي هكتور مالو (بدون عائلة) والمنشورة عام 1878.
وها هي الفرقة قد حطت رحالها في مدينة تولوز الفرنسية حيث وجدت فسحة جميلة مجاورة لحديقة النباتات في المدينة فنشرت أدواتها وصنعت مسرحاً بسيطاً في ذلك الحيز فحظت بجمهور غفير منذ عرضها الأول. ولكن أحد رجال الشرطة المكلف بحراسة المكان نظر إلى اقامة الفرقة بعدم رضا, سواء لأنه لا يحب الكلاب, أو أن أفراد الفرقة شوشت مهمته, أو لأي سبب آخر, فقد طلب من فرقة فيتاليس اخلاء المكان فوراً. نظر الحكيم فيتاليس في الأمر جيداً, فأيقن أن معركة فرقته مع الشرطة غير متكافئة. ولكن بما أنه لم يقم بأي عمل مخالف للقوانين أو لأنظمة الشرطة, فقد رفض اطاعة الأمر. في ذلك اليوم أدار الشرطي ظهره و فيتاليس يرافقه باحترام زائف ولكنه عاد في اليوم التالي فعبر الحبال التي تشكل سور المسرح واندفع وسط العرض قائلاً بخشونة لفيتاليس: يجب أن تُكمم أفواه كلابك. دُهش الحكيم فيتاليس وقال مستغرباً: أُكمِّم كلابي؟ قال الشرطي بجدية وعبوس: نعم تكمِّم كلابك, لأنه يوجد قانون في قسم الشرطة يقضي بذلك.
كانت فرقة فيتاليس تقدم تمثيلية فكاهية بعنوان: مريض الاسهال. وكان هذا هو العرض الأول. وقد أثار تدخل الشرطة تذمر واحتجاج الجمهور لكن فيتاليس وامعاناً في السخرية خلع قبعته محيياً الشرطي بانحناء زائد وهو يسأل: أقال ممثل السلطة الموقر أن أكمِّم أفواه ممثليّ الهزليين؟ أجاب الشرطي: نعم كمِّم كلابك وبسرعة. صاح فيتاليس متوجهاً إلى الجمهور أكثر من توجهه إلى الشرطي: كيف يمكن للكلاب أن تمثل بأفواه مكمَّمة؟ هي تعتمد النباح في أداء أدوارها المسرحية. انظر إلى الكلب الطيب كابي مثلاً إنه يمثل دور طبيب معروف في العالم أجمع كيف سيعطي الدواء لمريض مكمَّم الفم؟ يا سيدي الشرطي فكر في الأمر جيداً. عند هذه العبارة انطلقت عاصفة من الضحك الصاخب تجاوب معها القرد جولي كور الذي أخذ مكانه خلف ممثل السلطة مكشراً ومقلداً له. صالب يديه خلف ظهره كما يفعل الشرطي عندما يغضب. دار الشرطي ساخطاً من ضحكات الجمهور ومن كلام فيتاليس يريد المغادرة ولكنه لا حظ أن القرد جولي كور وضع قبضته على وركه متحدياً ساخراً من هيبة الشرطي. وقف الإنسان والحيوان كل في مواجهة الآخر. لكن الضحكات انطلقت صاخبة من الجمهور مرة ثانية ووضعت حداً لهذا المشهد وصاح الشرطي وهو يتوعد بقبضته: إذا لم تكن كلابك مكممة في صباح الغد ستكون في مواجهة سلطة الدولة. وفي صباح اليوم التالي ظهرت فرقة فيتاليس بكلابها المكمَّمة بشرائط من الحرير الملون. كانت كمَّامات مسرحية تُمعن في السخرية من السلطة الغاشمة.
3
(كلب صدقي إسماعيل)

كلاب فرقة فيتاليس الظريفة استدعت هي الأخرى "كلب" صدقي اسماعيل الذي اكتسب حرية النباح بعرق الجبين, وكان صدقي إسماعيل يشدد أصابعه بغرز جريدته و ظلَّ كلبه ينبح لأكثر من ربع قرن في سبيل حرية الإنسان والحيوان. واستمر نباحه متقطعاً بقلم رفيق دربه الكاتب والمترجم السوري الهُمام غازي أبو عقل. جريدة الكلب تصدر بنسخة واحدة يكتبها الأديب السوري صدقي اسماعيل بخط يده في أوقات القيلولة مع نفس الأركيلة في مقاهي دمشق. يرسم عنوانها, ينظم كل ما فيها شعراً ساخراً عميقاً لاذعاً, يستعرض فيه كل ما يخطر على باله من شؤون الأدب والسياسة. كانت جريدة الكلب تصدر دون ترخيص ودون اعتراف بوجود سلطة الدولة التي تُعطل الجرائد التي تتحداها أو تكممها وتمنعها من النباح. أصدر صدقي اسماعيل جريدته عندما رأى أول ديكتاتورية تقام على رؤوس العباد في سورية بعد الاستقلال. لقد شعر باشمئزاز من التصرفات المجنونة والمزيج العجيب من القسوة المتناهية, وكان لابد من عمل شيء ما لكشف هذه المتناقضات, فكانت جريدة الكلب التي كُنت تستعيرها ولا تُعيدها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح