الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 14

دلور ميقري

2019 / 1 / 15
الادب والفن


مع عودة العشيقة الصغيرة إلى مراكش، امتلأ داخلي مجدداً بشعور امتلاك الحرية. صممتُ على عدم تفويت الفرصة السانحة لانجاز المهمة الأدبية، الملقاة على عاتقي؛ أي بشأن إنهاء السيرة المراكشية، التي منحتني المصادفة حظوة لقاء أحد شخصياتها. الشيف " سيمو " هذا، كان من المفترض أن يتصل بي من منزله، حينَ يفيقُ ظهراً، كي نمضي معاً إلى مزرعة " مسيو جاك " السابقة. كان في نيتي معاينة المكان، تمهيداً للقاء الليليّ المرتقب، علّ ذلك يؤدي إلى إنعاش ذاكرة الشيف ويخفف من حَرَجي. على الرغم مما أبداه الرجلُ من مودة بالأمس، فقد كان عليّ توخي الحذر في مخاطبته طالما الأمر على درجة بالغة من الحساسية وربما الخطورة: جريمتا قتل، لم يُكشف مرتكبُ أيّ منهما، تقبعان في ظلال الذكريات وقد يُثبط ذلك تدفقها على لسان الشيف. عدا عن صعوبة مناقشة موضوعٍ آخر، محظور اجتماعياً، كما هوَ حال فحش المحارم؛ ناهيك أن الضحية كانت لزمنٍ مديد زوجةَ الرجل.
وكان على أفكاري الصباحية أن تتدفقَ، أولاً، قبل أن يحين موعدُ تلك المكالمة الهاتفية. على أثر قضائي وقتاً في المقهى، قررتُ المسير إلى السقالة الشمالية لمراقبة مشهد تلاطم الأمواج وتحطمها على الصخور السوداء وما تسببه من هدير يبعث الرهبة في النفس. بلى، كنتُ بأمس الحاجة إلى هكذا تأثير قويّ، وذلك بالنظر للقلق المعتمل في داخلي. على أنني ما كدتُ أقوم متجهاً إلى مدخل السقالة، الكائن على مقربة من المقهى الإيطاليّ، إلا ونحيتُ الفكرة جانباً. هكذا تابعت المشي إلى ناحية السوق الجديد، وكان في نيتي تفحص لوحات فناني المدينة، من مواطنين ومقيمين أجانب، علاوة على أعمال الحرف اليدوية. ولكن، رأيتني مرة أخرى أغيبُ هنالك بذهني عن الموجودات تلك، مكتفياً بتمرير عينيّ عليها. قلقي الموصوف، جعلني أستعيضُ عن الأشياء المرئية بإشراقاتٍ غامضة، تفيضُ من الداخل فتذهلني عما عداها. فلما رنّ جهاز هاتفي المحمول بعدَ نحو نصف ساعة من التسكّع، فإنني تنفستُ الصعداء. للوهلة الأولى، ظننتُ أنه الشيف. وإذا هيَ " حسنة "، تتصل من مراكش كي تخبرني بوصولها إلى المنزل وأنها تشعر بالوحشة، والشوق إليّ!

***
كنتُ إذن أسيرُ بلا هدفٍ غيرَ إلهاء قلقي، لحين أن سمعتُ صوتَ العشيقة الصغيرة، المختلج المتقطع. وكان على صوتها، هذه المرة، أن يشحن داخلي بطاقةٍ جنسية طارئة، نتيجة تمثّل صاحبته لعين خيالي مثلما شهدتها عياناً في الليلة السابقة؛ بجسدها البض الجميل، المؤتلق العري في الملابس الداخلية تلك، المثيرة. مروري من درب المِشْوَر، المحصور بين سورَيّ القصبة والمدينة، جعلني أكبحُ توعاً جماح نفسي. فعند ناصية الزنقة الضيقة هنالك، المشكّلة ممراً لمدخل السور الرئيس، باب السباع، كان من الممكن رؤية غاليري تذخر جدرانه باللوحات فيما تتناثر في أركانه قواعدٌ عليها منحوتات مختلفة الأحجام والمواد. قبلاً، كنتُ أمر من أمام المحل، دونما أن يخطر لي أنه يخفي خلف واجهته جزءاً مهماً من تاريخ بعض شخصيات السيرة المراكشية: إنه غاليري " مسيو جاك "، كما حزرتم، وكان لزمنٍ مديد قد عهدَ إدارته لمعاونه " زكرياء " قبل أن يجعله من نصيبه بحَسَب الوصية الأخيرة. أيضاً، كان المكانُ منطلقَ أعمال الفرنسيّ الآخر، " مسيو غوستاف "، ومن خلاله تعرّفَ هذا على عشيقته " نفيسة ". بلى، كان الغاليري موئلَ أطياف من رحلوا، أشعر بنظراتهم الحزينة من خلف واجهته الأنيقة؛ أنا مَن كنتُ، بدَوري، مجروحاً بذكرياتي الخاصة.
ها نحنُ أولاء، شخصيات السيرة أمواتاً وأحياءً، نطوف في دروب المدينة البيضاء مع ذكرياتنا المتلاطمة مثل موج بحرها المحيط، مشحونين بكل ما أختُزن في دواخلنا من شراهة وشبق وشهوة، المُعرَّفة بها شقيقتها؛ المدينة الحمراء. كأنما حُمرة مراكش تصبغُ الرغباتِ المكبوتة في هذه الحاضرة ذات الجذر اليهوديّ، المحافظ المتطهّر، مشعلةً الطيشَ والغبطة في ملامح ساكنيها، المقطبة المكفهرة. وإذ تتنعّم نساءُ الصويرة بحرية أجسادهن في حمّام السوق، بين جدرانه الصمّاء، فإنهن غالباً ما يتكلفن الوقار والعفة فوق رمال الشاطئ أو داخل الأخاديد الطافحة بالمياه المالحة، المتخلفة عن مد الموج. على أنّ العطلات الأسبوعية القصيرة، والصيفية الطويلة، تدفع إلى المدينة البحرية أفواجاً من فتيات الكازا مع صراخ أجسادهن السمراء شبه العارية، المثير حتى دهشة المستجمين الأوروبيين.
لحنُ هاتفي المحمول، سيقطع أفكاري المحمومة. إنها " سلوى "، تتساءلُ أينَ أتواجد وتحثني على الالتحاق بمَن بقي من العائلة وهم عند البحر. على الأثر، أنعطفُ إلى جهة الكورنيش، المشكل صلة وصل بين المدينة وشاطئها الرمليّ، بين الجمود والتجدد! على أنّ الصخبَ ما عادَ يتسكّعُ في أجواء المكان، وذلك لكون اليوم ليسَ عطلة، علاوة على أنّ الصيفَ صار وراء أفق المحيط. وبينما كنتُ أفتش عن جماعتي بين مواطنيهم، المستجمين عند أقدام البحر، إذا بإحداهن تلوّح لي يدها عن بُعد. استطعتُ تمييزَ هيئة صغرى البنات، فأجبتها بإشارة مماثلة. فيما أمشي فوق الرمل الساخن بقدميّ الحافيتين، رحتُ أجتاز أولاً جمهرة المستجمين الأجانب، بوجوههم المخفية تحت المظلات وأجسادهم المعرضة للشمس، وصولاً إلى جماعات المواطنين المتناثرين بالقرب من البحر. البعض من هؤلاء وأولئك، كانوا يتبادلونَ الإيماءاتِ المستطلعة، المميزة لأصحاب الطبع الفضوليّ. " لمى "، كانت من هذه الفئة ولا شك؛ هيَ من أخذت على عاتقها مؤخراً مهمة مراقبة تحركاتي بوجهٍ خاص، يُحركها أيضاً دافعٌ آخر يمتُ إلى رغبةٍ مضمرة في الانتقام لجرحٍ نفسيّ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة