الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[26]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 16
الادب والفن


صبري يوسف

26. كيف استلهمت معالمَ ديوان: "مقام الخمس عشرة سجدة" الصَّادر باللّغتين العربيّة والإيطاليّة؟

د. أسماء غريب

هذا الدّيوانُ لهُ قصّة ضاربة في جذور الرّوح؛ بهِ عُدتُ إلى لغتي العربيّة الأمّ الّتي كنتُ قدْ توقّفْتُ عن الحديث بها لما يزيدُ عن خمس عشرة سنة. أيْ نعمْ، بقيتُ أقرأُ وأكتبُ بها هنا في إيطاليا، ولكنّي لا أتكلّمُها؛ لا في الشّارع ولا حتّى في البيت. والكلُّ يعلمُ جيّداً أنّ اللّغةَ الَّتي لا تُمَارسُ ولا تُسْتخدمُ بشكلٍ مستمرّ في الحياة اليوميّة تُنسى أو يفقِدُ الإنسانُ طلاقةَ الحديثِ بها؛ فما بالك إذا كان ممّن اختارَ حياة العزلة مثلي: فأنا لا ألتقي النّاسَ إلّا قلّ ما ندرَ، كما أنّي اخترتُ تجنُّبَ الاختلاط بالعرب المهاجرين، أو النّاطقين باللُّغة العربيّة هنا. وإذا خرجتُ فإنّي لا أخرجُ إلّا لطلب علمٍ، أو لتقديم إصدارٍ لي معيّن بذاته، أو لضرورة قصوى أخرى. وأعتقدُ أنّ أمرَ الخلوة هذه له علاقة بتركيبتي الرّوحيّة الميّالةِ منذ أعوام الصّبا الأولى إلى الزّهد في الخروج بسببٍ أو بدونه، حتّى أنّ الكثيرَ منَ النّاس كانوا يعتقدون أنّ لوالديَّ بنتانِ لا غير، ولا يعرفون شيئاً عنّي أو عن درجة قرابتي ضمن بقيّة أفراد عائلتي: فأنا البنتُ البكر الّتي اختارت أن تبقى هكذا بعيدة عن الأضواء، حتّى بعدَ أنْ قدِمتْ للدّراسة ثمّ الاستقرار في إيطاليا. وعزلتي هذه هي عزلة تفكير وسلامة، وراحة نفسيّة، لا تعادلها راحة ولا سكينة. لكنّ حرف الشّعر الصّوفي أخرجني من صمتي، وبدأتُ أشعرُ بتلكَ الرّغبة العارمة في أن أخطّ خلجات الرُّوح والوجدان على الورق بلغتي الأمّ، لا سيّما أنّ صوت الشِّعر بداخلي كان كثيراً ما يسامرني بلسان عربيّ فصيح. لقد كان ذلك نداءً خاصّاً، وله رموز عميقة للغاية. وما كان منّي سوى أن استجبتُ للنداء، وعدتُ إلى قاعة الدّرس، ومعلّمه الملاك الفارس الحافظ لسرّ الحرف وأهله، وبدأت أخطّ كما الطّفل الّذي يحبو أولى مسامرات ومكالمات القلب، وكنت أعلمُ جيّداً أن أبياتي تلك كانت لا تخلو من بعض الهنّات النّحويّة أو اللُّغويّة، لكنّ ذلك كان لا يعنيني تماماً بقدر ما كان يعنيني جوهر هذه التّجربة العجيبة، الّتي كانت تأخذني في كثير من الأحيان إلى أبواب كنت أسمع فيها الحرف هطّالاً فيّاضاً في علوم الشّعر العرفاني، لم أكن أقوى على تذكّرها كاملة، لا سيّما وأنّني كثيرة النّسيان في مثل هذه الأمور، وكنت أكتفي بخطِّ الأثر، أو البصمة، وترك التّفاصيل الّتي كانت تغيبُ عنّي تماماً. هل يمكنني أن أقول إنّ هذه المرحلة كانت نوعاً من النّظرة الإلهيّة؟ ألا يقولون إنّ العشق يبدأ بنظرة؟ أجل، تلك كانت نظرة، نزلت على قلبي قطرة ففاض منه ما فاض من أشعار يمتدُّ حرفها حتّى سنوات طفولتي. وأحبّ أن أضيف شيئاً آخر أقول من خلاله، إنّ العشق أيضاً يبدأ بالسّماع، وأنا سمعتُ صوتَ الحرف يتحدَّثُ قبل أن ينظر إليّ، وقد كتبتُ عن هذا في العديد من قصائد هذا الدّيوان.
ثمّ صدر الدّيوان بخطأ نحويّ في العنوان، وكان هذا الأمر هو الرجّة الّتي دفعتني دفعاً عنيفاً نحو لغتي للمرّة الألف، وبدأتُ أركضُ بكل ما فيّ من عنفوان لأستعيدها وأعود للغوص فيها أكثر وأكثر، ليس بحثاً عن تنقيحها وتشذيبها، بل بحثاً عنّي أنا، وعن مقامي في لغتي، وعن المزيد الّذي مايزال في جعبة الحرف من رسائل وهبات وعطايا تخصّني لوحدي. وأذكر أنّني عن هذا الخطأ أو السّهو في عنوان الدِّيوان كتبتُ (محراب الخطأ)، وهو نصّ قصصي سيرذاتيّ، نشرتُه في مجموعتي القصصية الجديدة (أنا رع) التي صدرت سنة 2016 في العراق عن دار الفرات للثقافة والإعلام.
أمّا عن لماذا اخترتُ له كعنوان (مقام الخمس عشرة سجدة)، فإنّ ذلك فيه إشارة منّي إلى عدد سجدات تلاوة القرآن الكريم، وكذا إلى عدد السَّنوات الَّتي قضيتها صامتة لا أتحدّثُ فيها شفاهاً بلغتي العربيّة الفصحى إلّا في مرات قليلة جدّاً. ثالثاً، وهذا أمر اكتشفتُه بعد أن أنهيتُ تحرير نصوص المجموعة: هناك سيّدة مسيحيّة عُرفت قبلي بكتابتها عن (الخمس عشرة، لا سجدة، وإنما صلاة)، وأعني بها القديسة بريجيتا شفيعة السُّويد، وقد كانت من سلالة الملوك القوطيِّين، وكان والدها هو الأمير بيرجير. لا أتذكّر جيّداً كيف اكتشفتُ هذه الحكاية؛ ربّما حينما كنتُ أبحثُ عن القاعدة النّحوية الخاصّة بجمع الأعداد في اللُّغة العربيّة، لكنّي أتذكّرُ جيّداً كم كانت فرحتي عارمةً حينما عرفتُ بريجيتا، وحكاية صلواتها الخمسة عشر، سيما أنّ ديواني فيه بعضٌ من القصائد الّتي تتحدَّثُ عن سيّدنا المسيح (ع)، وإبراهيم الخليل (ع)، وعن روما الّتي قضت فيها بريجيتا فترة من حياتها حينما ذهبت عام 1350 لطلب موافقة البابا من أجل تأسيس طريقة رهبنتها الجديدة. ولا يفوتني أن أقول، إنّ اطّلاعي على قصّة بريجيتا هو الَّذي حفّزني على ترجمة الدِّيوان إلى اللُّغة الإيطاليّة، ولو كنتُ أعرف اللُّغة السُّويديّة لما تردَّدتُ في ترجمته إلى لغة بريجيتا أيضاً.

وعلى ذكر روما، أحبُّ أن أشير إلى أنّ العديد من قصائد هذه المجموعة الشِّعريّة كتبتُها في هذه المدينة، أيّ خلال السّنوات الّتي كنتُ أسافر فيها إلى جامعة المعرفة من أجل حضور دروس الدّكتوراه تخصُّص (تاريخ حضارات وثقافات كلّ من آسيا وإفريقيا).

وحينما صدرَ الدّيوانُ، أحببتُ أن يكون أوَّل من يطّلع عليه شيخٌ مُسنٌّ مشرّد، يعيش في ركن من شوارع روما الفسيحة. كنتُ قد رأيتهُ وتعرّفتُ عليه ذات سفر وأنا عائدة من الجامعة إلى فندق إقامتي. كان الدِّيوانُ في حقيبتي اليدويّة، فتحتها وأعطيته له، وكتبتُ إهداء خاصّاً بداخله: لقد كان اسم الشّيخ (ملاك)، وآلت حياتُه إلى ما آلت إليه بسبب غدر الأهل والإخوة بعد أن كان من الأثرياء.

بكى ملاك (آنجلو) كثيراً حينما عرف أنّ الدِّيوان يحملُ قصيدة تتحدّثُ عنه (مقام روما)، وروى لي ولزوجي تفاصيلَ حكايته المريرة، وكيف أدمنَ شرب الخمر وحياة الشّارع. وبكيتُ أكثر منهُ في صمت حارق حينما في اليوم الثّاني وأنا ذاهبة إلى الجامعة رأيتُهُ من بعيدٍ وقد اجتمعَ حوله السّكارى والمشرّدون وبين يديه ديواني يقرأُ لهم منه قصائدي. كانت تلك لعمري أجمل احتفاليّة تقديم للديوان أهدتني إيّاها مدينتي العارفة بالله: روما.

وحينما عدتُ إلى باليرمو، كتبَ لي النّاشر، قائلاً إنّهُ بصدد الاستعداد لتنظيم احتفاليّة باذخة تليق بالدِّيوان، وما كان منّي سوى أن اعتذرت منه بكلّ أدب ولباقة: فهو لم يكن يعرف أن روما قدّمت لي الكتاب واحتضنته واحتفلت به أفضل ما يكون الاحتفال، وذلك كان يكفيني!

رّت ثلاث سنوات على هذا الإصدار الأوَّل، ثمَّ صدرت للديوان نفسه طبعة ثانية سنة 2016، ولكن هذه المرة في العراق (بابل)، عن دار الفرات للثقافة والإعلام، ولقد كانت فرصة لكي أراجعهُ بشكل جيّدٍ، وأنقّحَ بعض نقاط السّهو والهفوات اللُّغويّة فيه.

وكلّ ما يمكنني أن أختم به حديثي عن هذا الدّيوان هو القول، إنّهُ كان ولم يزلْ تجربةً في غاية العمق، تلتْها تجارب إبداعيّة مختلفة من حيث الرُّؤيا والمنهج: إنّني وعلى الرُّغم من إصداراتي السّبع عشر مازلتُ في تطوّر وسفرٍ مستمرّيْنِ داخل روحي ونفسي، داخل قلبي وعقلي، وأحمق من يقول إنّه قد وصل مادام في القلب نبض، وفي الحياة متّسع من الوقت للعمل والعمل أكثر فأكثر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي