الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


I. معضلة المنهج كإحدى تجليات الأزمة الراهنة (الفصل الأول من كتاب -وجهة نظر 1996: من أين إلى أين؟-)

وائل السعيد

2019 / 1 / 16
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


1- الخط السياسي، لا الاسم، لا التنظيم، ولا حتى الحركة!
لنبدأ نقاشنا بهدوء، ولتكن بدايته بسؤال: ماذا نحاكم؟ أي حينما نناقش الفرق بين القاعديين ووجهات النظر التحريفية الخارجة من رحمهم، المتحدثة زورا باسمهم، فما الذي نبحث عنه؟ هل نبحث عن "من هو القاعدي؟" من جهة، و"من هو غير القاعدي؟" من جهة أخرى؟ إن الحديث عن كون القاعديين يتحددون بالميدان والممارسة العملية إنما يستند ضمنيا لهذا السؤال، الذي يطرح بدوره المسألة على درجة بالغة من السطحية والإسفاف. كلا، ليس سؤالنا هو "من هو القاعدي؟ ومن ليس بقاعدي؟"، وربما احتج معترض قائلا: "ولماذا لا يكون هذا هو سؤالنا، ما دمنا نتحدث عن الفرق بين القاعديين والخطوط التحريفية؟" واتبعه بآخر: "وما هو السؤال إذن، في بحثنا في هذا الموضوع؟". والإجابة بنظرنا بسيطة ومعقدة في آن، المرور من تعقيدها إلى بساطتها يتطلب ضبط وتدقيق الحدود الفاصلة بين ثلاثة مفاهيم نظرية أساسية: مفهوم الحركة، ومفهوم الإطار التنظيمي، ومفهوم الخط السياسي. إن كما هائلا من الخزعبلات التي تحيط بالموضوع، فتطوقه، مرده إلى الخلط الفظيع بين هاته المفاهيم الثلاثة.
إن الحركة هي على المستوى الفلسفي، شكل وجود المادة بتعبير إنجلز، فلا يمكن تصور المادة بدون حركة ولا الحركة بدون مادة، لا فرق في القول بأن الكون مادة متحركة، أو بأنه حركة مادية. والحركة كشكل لوجود المادة تنبع من التناقض الذي يعتملها، والذي يتسم بطابع العمومية الذي يعني وجوده في الأشياء جميعها وفي كل مراحل تطور الشيء من "بدايته" إلى "نهايته"، وطابع الخصوصية الذي يجعل لكل تناقض محدد مميزاته الخاصة. والحركة، كالمادة والتناقض الذي يعتملها، كلها معطيات موضوعية مستقلة عن إرادة ووعي الإنسان. لا يمكن الحديث عن "خلق" المادة أو "خلق" الحركة أو "خلق" التناقض، وهذا يصح على الحركة الطبيعية مثلما يصح على الحركة الاجتماعية، مع فرق أساسي يجب أن نعيه جيدا.
وهذا الفرق هو أن الحركة الاجتماعية إنما تتضمن عنصر الوعي، الذي هو نفسه نتاج لتناقضات المادة، لدى أعلى درجات تطورها، فليس الفكر بتعبير ماركس، سوى أرقى ما ينتجه الدماغ، وليس الدماغ بدوره، سوى أرقى ما تنتجه المادة، إن الوعي هو الذي يمكن من توظيف قوانين الحركة، أي العلائق الموضوعية لتناقضات المادة عند مستوى محدد، في اتجاه خدمة مصالح اجتماعية محددة. وبالتالي فإنه حينما نتحدث عن اتجاه تطور المادة، اتجاه حركتها التي تفرزها تناقضاتها الخاصة، فإننا نتحدث هنا عن عامل الوعي الذي يفعل فعلته بهذا المنحى أو بذاك: إن تناقضات المجتمع الاشتراكي ذات طابع موضوعي: التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، بين البنية التحتية والبنية الفوقية، بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، بين العمل الذهني والعمل اليدوي، بين المدينة والريف، إن الخط السياسي الثوري - المعبر عن مصالح البروليتاريا- للحزب الشيوعي يقود المجتمع إلى الأمام، باتجاه الشيوعية، والخط السياسي البرجوازي يقوده باتجاه إعادة تركيز الرأسمالية، مثلما وقع في الاتحاد السوفياتي سنة 1956 أو بالصين الشعبية سنة 1976.
إن الحركة الطلابية هي بدورها نتاج للتناقض بين الجماهير الطلابية والإدارة الرجعية التي هي ممثلة النظام القائم من داخل الساحة الجامعية، والتي تعد انعكاسا لتناقض أعم، هو التناقض بين الجماهير الشعبية والنظام القائم، أساس وجود حركة أعم هي الحركة الجماهيرية، ومن هذا المنطلق بالضبط توجد الحركة الطلابية كجزء من الحركة الجماهيرية، ويصح القول بأن الحركة الطلابية رافد من روافد حركة التحرر الوطني. وعلى هذا الأساس أيضا، يبطل القول السخيف بـ"بناء حركة طلابية قوية" ذاك أن الحركة الطلابية كما الحركة الجماهيرية معطى موضوعي مستقل عن الإرادة والوعي لأنه نتاج لتناقضات مادية تعتمل البنية الاجتماعية، وبما أنها تناقضات تطرح على المستوى الاجتماعي لحركة المادة فإنها تفرض استحضار عامل الوعي في تحديد منحى تطورها، وهنا ننتقل من الحديث عن الحركة إلى الحديث عن الخط السياسي. فكيف تطرح معضلة الخط السياسي داخل الحركة الطلابية؟ هذه مسألة على جانب خطير من الأهمية.
إن القول بأن الحركة الطلابية جزء من الحركة الجماهيرية، يستتبع أن التناقضات التي تخترق الحركة الجماهيرية تلقي بظلالها على الحركة الطلابية نفسها، وبالتالي فإن الصراع ما بين الخطين الثوري والإصلاحي صلب الحركة الجماهيرية، ينعكس على صعيد الحركة الطلابية، في شكل صراع ما بين الخطين الديمقراطي والبيروقراطي، حيث أن الثوري سياسيا، ديمقراطي نقابيا، في حين أن الإصلاحي سياسيا، بيروقراطي نقابيا، وهذا يصح على الحركة الطلابية مثلما يصح على الحركة العمالية مثلا، في الصراع الذي تعرفه نضالاتهما النقابية. إن الثوري لأنه الوحيد القادر على السير مع الجماهير إلى أبعد الحدود، إلى نقطة التحويل الثوري لعلاقات الإنتاج القائمة، فإنه على الصعيد النقابي لا يمكن أن يكون إلا ديمقراطيا، بوضعه النضالات النقابية على سكتها الصحيحة، أي سكة الأفق الثوري. كما أن الإصلاحي نظرا لأنه عاجز عن السير مع الجماهير إلى أبعد الحدود، فلا يمكن له على الصعيد النقابي أن يكون إلا بيروقراطيا، أي حرفه للنضالات النقابية عن سكتها الصحيحة، أي سكة الأفق الثوري.
ما يمكن استشفافه، لحد الآن، أن الانتقال من نضالات الحركة الطلابية -بتضحياتها ومعتقليها وشهدائها ومسيراتها وإضراباتها ومقاطعاتها واعتصاماتها... إلى آخره– إلى اتجاه نضال هذه الحركة، الأفق النهائي لنضالها كجزء من الحركة الجماهيرية، هو هو هذا الانتقال الضروري من نقاش الحركة إلى نقاش الخط السياسي. من الفعل "سار" المصرف في زمن المضارع: "نسير"، إلى السؤال المرعب: "أين نسير؟". فالبيروقراطية والديمقراطية داخل الحركة الطلابية لا تنحصر في الارتباط بالجماهير عن العزلة عنها (وهذا الارتباط شكلا ومضمونا سنخصص له حيز نقاش وافر فيما بعد) بل في الأفق السياسي للنضال النقابي، أهو أفق الثورة أم أفق الإصلاحات. ثم إن البيروقراطية كذلك ليست هي البيروقراطية التنظيمية، إذ يدعي أنصار "الكلمة الممانعة" و"الطلبة الثوريون" ومن لف لفهم، أنه لا يصح حديث عن البيروقراطية في أوطم ما دامت غير مهيكلة. وعند المستوى الذي تطرح فيه الأمور بهذه الصيغة، ننتقل من مناقشة الحركة إلى مناقشة الإطار التنظيمي.
إن الحركة الطلابية شيء، والاتحاد الوطني لطلبة المغرب شيء آخر، إن الحركة الطلابية سابقة لوجود الإطار وتتجاوزه. فالأولى نتاج كما قلنا، لتناقضات موضوعية صلب البنية الاجتماعية تضعها كجزء من الحركة الجماهيرية، بينما الثاني ليس غير وعاء يستوعب الطاقات النضالية للحركة ويعكس في كل مرحلة من مراحل تطورها، موازين القوى في الصراع صلبها، بين ما يخترقها هي نفسها من خطين يتصارعان. وتطور المواقف السياسية لأوطم عبر تاريخ نضال الحركة الطلابية لهو أسطع دليل على هذه الحقيقة. إن المؤتمر الخامس عشر مثلا، يعد قفزة نوعية في هذا التاريخ لأنه وضع الحركة الطلابية
على سكتها الصحيحة بما هي جزء من الحركة الجماهيرية، أي في المرحلة الراهنة، سكة الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية. أما المؤتمر السادس عشر فقد كانت مقرراته تعبيرا عن شعارات النظام نفسها في تلك الفترة: "السلم الاجتماعي" و"الإجماع الوطني" و"المسلسل الديمقراطي"، وبالتالي فإنها قد وضعت الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في خط مناهض لاتجاه الحركة الطلابية نفسها بما هي جزء من الحركة الجماهيرية، فكان المؤتمر 16 بالتالي ملزما للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، غير ملزم للحركة الطلابية.
تتبدى ضرورة هذا التمييز (الحركة / الخط السياسي / الإطار التنظيمي) في استنتاج أشياء أخرى: السبب الذي يجعلنا نقول أن البرنامج المرحلي إجابة علمية لأزمة الحركة الطلابية، دون أن نقول "أزمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب" كما تدعي بعض الأطراف السياسية التي تختزل أزمة الحركة في أزمة إطارها التنظيمي. وكذلك المضمون العلمي لمفهوم البيروقراطية باعتبارها جزءا من أزمة الحركة الطلابية، فالنقطة البرنامجية: مواجهة البيروقراطية، إنما تطرح أزمة الحركة الطلابية في شقها الذاتي، في نقطة قيادتها السياسية. والقيادة السياسية للخط الديمقراطي في الحركة الطلابية جزء من سيرورة توفير متطلبات وشروط المواجهة الشاملة لبنود التخريب الجامعي من جهة، ورفع الحظر العملي كجوهر وليس كتجليات فحسب. وبالتالي فإن تحقيق هذه النقطة رهين بتوفير الخط السياسي الثوري الذي يضع الحركة الطلابية ضمن موقعها من الحركة الجماهيرية في أفقها الثوري الصحيح.

2- هل الفعل الميداني هو ما يحدد النهج الديمقراطي القاعدي؟
إن "جبهة الطلبة التقدميين" التي استطاعت الصعود إلى قيادة المؤتمر الخامس عشر سنة 1972 كانت أول شكل تاريخي للخط الديمقراطي صلب الحركة الطلابية، ثم لحقها النهج الديمقراطي القاعدي ابتداء من سنة 1979. والسؤال هو: بناء على التحليل السابق، لماذا نعتبر الطلبة الجبهويين من جهة، والطلبة القاعديين من جهة أخرى، شكلين للخط الديمقراطي؟ أي بتعبير آخر: ما الذي أكسبهم هذه الميزة؟ أهي قتاليتهم الميدانية؟ صمودهم البطولي؟ تضحياتهم ومعتقلوهم وشهداؤهم؟ القمع الممارس ضدهم؟ ارتباطهم اليومي بالجماهير؟ كلا، بل يوجد ما هو وراء هذا كله، إنه خطهم السياسي، إنه وضعهم لنضالات الحركة في أفقها الصحيح، أفق الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية. ما جعلهم ديمقراطيين نقابيا، وما جعلنا نقبل القول بأن "النهج الديمقراطي القاعدي"، نهج ديمقراطي بالفعل نقابيا، لأنه على النهج الثوري سياسيا، ما جعلهم ديمقراطيين هو الخط، وليس الحركة.
وبالتالي فإن القاعديين ليسوا غير شكل تاريخي من أشكال الخط الديمقراطي، في صيرورة تطور الحركة الطلابية، كما أن وجهات النظر التحريفية التي خرجت من رحمهم، ليست غير شكل تاريخي محدد من الخط البيروقراطي، متجلبب بمظهر واسم الخط الديمقراطي نفسه، المجسد في الشكل التاريخي للنهج الديمقراطي القاعدي، فالكل يقول أنه ديمقراطي، بما في ذلك القوى الإصلاحية نفسها، وفي نطاق أضيق نجد أن الكل يقول بأنه قاعدي، لكن وبتعبير أبي نواس:
لـو كـان مـن قـال نـارا أحـرقت فـمه *** لـما تـفوه بـاسم الـنار مـخلـوق
فمناقشة الفرق بين القاعديين وبين وجهات النظر التحريفية لا تعني إذن البحث عن القاعدي، بل عن الخط الديمقراطي، الذي يتجسد في اللحظة الراهنة، في النهج الديمقراطي القاعدي. من هذا المنطلق لا نتحرج في القول: إذا أعلن القاعديون، في بيان رسمي لهم، أن ما يحددهم إنما هو الممارسة والفعل الميداني وليس الخط السياسي، فهم ليسوا بالتأكيد، موضوع بحثنا. فليس خط القاعديين مرجعية إيديولوجية يتم الاحتكام إليها في كل كبيرة وصغيرة من قضايا الكون وما وراء الكون، فاعتبار "القاعدي" مكافئا لـ"الشيوعي" أو "الثوري" ليس غير إحدى تجليات العجز النظري والسياسي الفاضح الذي يعشش صلب الحركة الشيوعية المغربية، أقصى امتداداتها ما عبر عنه تيار الخيدق –الخيار اليساري الديمقراطي القاعدي– في إحدى وثائقه الرسمية، بـ"الماركسية القاعدية" كمرجعية إيديولوجية! لكن رفض هذا التكافؤ "قاعدي/ ثوري" لا يعني أن كل من أعلن كونه قاعديا فإنه بالفعل كذلك، مثلما حاولت "وجهة نظر 2005" أن تنظر له عبر اسقاط متعسف لأطروحة ماو تسي تونغ حول صراع الخطين داخل الحزب، على النهج الديمقراطي القاعدي، إذ عدت في عداد القاعديين كل من يرفع هذه التسمية غير مستثنية حتى أنصار الكراس 1984 والكلمة الممانعة 1989 وبالتالي جمعت بين تنظيمات لا تربط بينها أي وحدة تنظيمية إذ أقصى ما يوحد بينها هو الاسم! وبالتالي قفزت على القاعديين كشكل للخط السياسي الديمقراطي في الحركة الطلابية ونظرت إليهم كحركة داخل الحركة الطلابية، مستعيدة في ذلك أطروحات الكلمة الممانعة بصدد "الحركة القاعدية" و"شجرة القاعديين".
لنفترض أن مناضلا كان يدافع عن "وجهة نظر س" مفترضة، قطع تنظيميا مع النهج الديمقراطي القاعدي، ويعتقد جازما أن وجهة النظر هاته هي التي تمتلك الرؤية الكفيلة بوضع الحركة الطلابية على سكتها الصحيحة ضمن موقعها في الحركة الجماهيرية، أي أنها هي الشكل التاريخي الراهن للخط الديمقراطي، فإنه حتما ليس بحاجة لأن يقول إنه قاعدي، ويكفي أن يقول ببساطة –ونحن معه- أن القاعديين على خطأ، بل على ضلال مبين، فما نبحث عنه هو سدادة الخط السياسي، وليس جمال التسمية. ولنكن على يقين تام بكون جميع وجهات النظر التحريفية التي خرجت من رحم القاعديين إنما قد حافظت على تسميتهم نظرا للتراث الكفاحي للقاعديين بتضحياته وانجازاته، مما جعلها تنحو للاسترزاق على هذه التسمية واعتبار أنها الممثل الشرعي للقاعديين دون غيرها، مما يذكرنا بهذا الصدد بالطليعة أول خروجهم من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1983 إذ قالوا "نحن الاتحاديون الأقحاح"، ورفاق بوكرين عند خروجهم من الطليعة سنة 2007 إذ قالوا "نحن الطليعيون الأقحاح" – الذين هم، على فكرة، "الاتحاديون الأقحاح" بنظر أنفسهم - وهكذا يتحول النقاش من نقاش للخط السياسي في سدادته من عدمها، إلى مزاحمة حول التسمية والتراث.
ولنركب ما توصلنا إليه لحد الآن: (1) نحن لا نبحث عن القاعديين بذاتهم ولذاتهم، ولكن كشكل تاريخي راهن -يلحق الطلبة الجبهويين ويسبق الشكل الذي سيكون مرتبطا بالتنظيم الثوري خارج الجامعة مستقبلا– للخط الديمقراطي صلب الحركة الطلابية، وبالتالي بحثنا هو بحث عن الخط السياسي، وليس عن التسمية. (2) لا ننفي إمكانية أن يكون النهج الديمقراطي القاعدي نفسه على خطأ في مسائل عدة وجب تقييمها ونقدها، ولكن هذا لا يلغي التمييز المبدئي بينه، وبين خطوط تحريفية صريحة خرجت من رحمه (3) محاولتنا إذن تنصب في رسم الخطوط الفاصلة ما بين القاعديين، بما لهم وما عليهم، وبين الرؤى التحريفية الخارجة من رحمهم المتحدثة زورا باسمهم.
انطلاقا من النقطة (1) إن ما يروج في بعض الأذهان بكون القاعديين يتحددون بالممارسة العملية والفعل الميداني ليس غير ضرب من الخرافات لا أكثر، وقد يكون هذا دافعا لطرح سؤال آخر: أليس مقياس صحة النظرية، ماركسيا، هو الممارسة؟ وبالتالي أليست الممارسة العملية هي الدليل القاطع على صحة خط سياسي من عدمه؟ للقارئ الحق في طرح السؤال بهذا الشكل، وعلينا الواجب في تذكيره بجدال سابق مع تيار "البديل الجذري" في هذه النقطة بالذات، معيدين اقتباس إحدى الفقرات من الجزء الأول من دراسة "طريقان أمام الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، نقد الأسس الفلسفية لتيار البديل الجذري المغربي" صادرة سنة 2013: "...هذا ليس سوى استنتاج أول نهتدي إليه في تحليلنا لمثال ليسنكو، ويوجد ثان، وهو أن "الممارسة" التي يقيم عليها رفاق "البديل الجذري" الدنيا ولا يقعدونها، ليست بذاتها، كافية للحكم على علمية نظرية من عدمها، إذ على الرغم من أن الأطروحات الميتشورينية – الليسنكية في علم الوراثة قد دعمتها التجارب حول النباتات وفعالية استخدامها في الإنتاج الزراعي، تبين في النهاية أن هاته الأطروحات كانت خاطئة. وهذا يعني أن اختبار صحة النظرية في الممارسة العملية، لا تتحدد نتائجه فقط بالمعطيات التي يقدمها على المدى البعيد وحسب، ولكن أيضا، ولكن بالتحليل العلمي لهاته المعطيات نفسها. فانتظار نتائج بعينها من التجربة، بكونها هي الفيصل في استصواب إحدى الفرضيات النظرية أو تخطئتها –والحكم بالتالي على هاته الفرضية في ضوء هاته النتائج– سيصير عملا صبيانيا اذا لم يقترن بتحليل نظري علمي لحدود العلاقات بين هاته النتائج وبين هاته الفرضية النظرية، إذ قد يكون محتوى هاته النتائج من أسباب ليس بالضرورة الأسباب التي تعبر عنها الفرضية. نهج التجريبية / والبراغماتية هذا يتم استعماله على أوسع نطاق أيضا لدى مقاربة الحركة الاجتماعية، وهو الذي اعتمده بالأساس -وعلى سبيل المثال– تحريفيو ما يسمى بخط إعادة البناء 1979، لدى تقييمهم للخط الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي لمنظمة "إلى الأمام" في ضوء ممارستها العملية، ونتائج هاته الممارسة خلال عشر سنوات من الكفاح الثوري والصمود البطولي." ((1)) وبوسعنا استحضار أمثلة أخرى: فالتقدم الذي كان يسير نحوه حزب العمال الفيتنامي في انتصاراته على الإمبريالية الأمريكية لم يعن إطلاقا أنه ذو خط سياسي سديد، وقد حققت أحزاب برجوازية صغيرة مثله، انتصارات مبهرة في تاريخ حركة التحرر الوطني العالمية دون أن يصح اعتبارها أحزابا شيوعية، فبالأحرى مكون طلابي في الجامعة يقود نضالات نقابية للطلاب تتخللها مناوشات مع قوى القمع ليست في أقصى حالاتها شيئا إذا ما قورنت ببسالة وعنف المواجهات التي قادها الثوار الكوبيون بقيادة تشي غيفارا، دون أن يكونوا بالمناسبة، ذوي خط سياسي سليم! فلنوسع دائرة رؤيتنا، ولتكن عقولنا أكبر وفكرنا أشمل، فلا تتسرب إلى أذهاننا ثقافة القناعة بما هو موجود وحاضر أمامنا رافعينه إلى أعلى عليين، وكأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان. يقول صفي الدين الحلي في إحدى قصائده:
وأحـــزم النــاس من لـو مـات مـن ظـما *** لـم يـقرب الـورد حتى يـعرف الصـدرا
إن التحريفيين العرب الذين نظروا للتطور اللارأسمالي بقيادة البرجوازية الصغيرة في بعض الأقطار العربية من قبيل سوريا ومصر والجزائر واليمن والعراق وليبيا والسودان هم الذين لم يفهموا مغزى هذا البيت الشعري، وحولوا صعود البرجوازية الصغيرة إلى السلطة، والذي هو ظاهرة عرضية، إلى مرحلة استراتيجية من مراحل العملية الثورية نفسها! لا ندعو بهذا إلى تبخيس تضحيات المناضلين والصراخ بوجههم: "نضالكم باطل"، فهي تضحيات تستحق التنويه والدعم، لكن الخط الخاطئ يظل كذلك ولو أغرق الدم الشارع، فلا نرى الممارسة في ذاتها ولذاتها ولكن نبحث عن مضمونها السياسي، لأن كل ممارسة هي ذات مضمون، نبحث عن الذي تراكمه تلك الممارسة في اتجاه الهدف النهائي، هل تسير فعلا في منحاه أم هي حائدة عنه، ولحدود الساعة، وعلى ما يحمله "توثين الممارسة" عند هذا المستوى من خزعبلات بينة، فإنه رأي يقبل النقاش. وماهي طامة الطامات؟ إنها في رأي يقول بغياب الممارسة لدى قوم وإن كان خطهم السياسي سديدا!
لنتخيل تنظيما له أهداف صحيحة، لكنه "لا يمارس" للوصول إليها، وتنظيم "يمارس" بغض النظر عما إذا كانت له أهداف صحيحة أم لا. وبذلك يكون الثاني أفضل من الأول، فهو على الأقل "يمارس"، "يتحرك"، "يفعل في الميدان"، "كيقطع الصباط" كما يقال عندنا في المغرب. حسنا إذا كان هذا التنظيم ذو الأهداف السديدة لا يمارس في اتجاه تحقيقها، فما هي مشروعية وجوده كتنظيم إذن؟ ألا يجب أن يحُل نفسه؟ أليس التنظيم وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية عبر الممارسة؟
وإذا كان التنظيم الثاني "يمارس"، "يتحرك"، "يفعل في الميدان" و"كيقطع الصباط"، فمن أجل ماذا؟ ألا تكبد أحد السادة الأفاضل عناء عملية حسابية يقوم فيها بطرح هذه الصيغة من صيغة برينشتاين: "الحركة هي كل شيء، الهدف النهائي لا شيء"، فكم يكون حاصل عملية الطرح: صفرا. فضلا عن شيء آخر خطير، هو أن هذه الصيغة إنما تختزل الممارسة في الممارسة الجماهيرية، في العمل الجماهيري. فإذا جمعنا، وفقا لهذه الصيغة، الوقفات الاحتجاجية والمسيرات والحلقيات النقاشية والتقريرية، والاعتصامات والإضرابات الطعامية، والمقاطعات الجزئية والكلية للدراسة، ومقاطعات الامتحانات، والإخبارات والبلاغات والبيانات، والمواجهات مع القمع والقوى الرجعية، كان المجموع يساوي: الممارسة! كلا يا رفاق، إن الممارسة العملية، في الجامعة وخارجها، تتجاوز ذلك بكثير، توجد إلى جانب العمل الجماهيري، أشكال أخرى للنضال الثوري لولا وجودها لكان العمل السري مثلا، مصنفا في إطار "النظرية"، ذلك أن هنالك، في شروط التفسخ النظري للحركة الشيوعية المغربية، من لا يؤمن بالعمل الثوري إلا إذا كان مرئيا، وليعذرنا الرفاق إذا قلنا لهم بكل وضوح، أن هذه ليست هي الممارسة، بل هي الهرولة.
فعملية التمييز بين القاعديين ووجهات النظر التحريفية، والبحث عن الفروق بينهما، شاقة شاقة، لها طابع الجد لا طابع الهزل. حتى أن ذلك يولد وهما إيديولوجيا خطيرا بأن هذا التمييز مزعوم ومختلق، آت من الصراعات "الشخصية" و"الذاتية" ومن "صبيانية الطلبة" وما إلى ذلك، وأغلب هذا الكلام يصدر عن خريجي تجربة الحركة الطلابية، "ناضجون" و"عقلاء" تجاوزوا الصراعات والحساسيات بين المواقع، وصار الكل بالنسبة لهم قاعديا. فعلام يستند هذا الطرح وما هي مقومات انبثاقه وانتعاشه داخل الحركة الشيوعية المغربية؟ لنبحث الأمر.

3- هل البرنامج المرحلي هو ما يحدد النهج الديمقراطي القاعدي؟
يستند هذا الطرح لكون ما يجمع ما بين القاعديين، على اختلافهم في بعض "الجزئيات"، إنما هو البرنامج المرحلي، وبودنا أن نقول بعض الكلمات بخصوص هذه الفكرة. لنتخيل قطارا (1) ينطلق من الدار البيضاء إلى وجدة، وله في هذا السفر مرحلتان: الأولى من البيضاء إلى فاس، يقطعها بالطاقة الكهربائية، ثم يتوقف مدة أربعين دقيقة بفاس يغير القاطرة ليكمل رحلته إلى وجدة بالفيول. هنا تكون رحلة القطار ذات معنى. لكن لنتصور من جهة ثانية قطارا آخر (2) سينطلق من البيضاء أيضا، لكنه سيغير السكة بسيدي قاسم –قبل أن يبلغ فاس- ليتوجه إلى طنجة. ولنتخيل من جهة ثالثة جماعة من الناس ترغب بقوة في الذهاب إلى وجدة، تقف بمحطة الرباط أو القنيطرة أو مكناس. إن مرور القطارين (1) و(2) عليها سيجعل هذه الجماعة تنقسم جماعتين: جماعة أولى ستهرول نحو أي قطار بدا لها أقرب، ستنبهر بشكله وسرعته ومقطوراته، وبدون أن تسأله عن وجهته النهائية بل وتعتقد أن كل القطارات التي تمر من محطة مكناس أو القنيطرة أو الرباط هي ذاهبة لا محالة إلى وجدة، أو على الأقل، مرحليا، إلى فاس، وتبقى الاختلافات الأخرى "مختلقة" و"زائفة". وجماعة ثانية ستتريث لتسأل عن الوجهة النهائية للقطار، فهي تعلم أنه إذا كان القطار غير قاصد وجدة فلن يمر حتى على فاس نفسها في هذه الحالة، وتكون هذه الجماعة أحكم الاثنتين.
وهكذا فإن المهام المرحلية تستمد مضمونها من الأهداف الاستراتيجية، والبرنامج المرحلي الخاص للطلبة القاعديين 1986 ليس غير تكثيف لبرنامجهم الديمقراطي العام 1979، فإذا وقع على البرنامج الديمقراطي تغيير أو تحريف أفلا يكون البرنامج المرحلي نفسه في خبر كان؟ إننا هنا ونحن نناقش القاعديين وليس الحركة الطلابية، نبحث عن الهوية الفكرية والسياسية والبرنامجية للنهج الديمقراطي القاعدي، بمنطلقاته النظرية وتصوره السياسي بأهدافه الاستراتيجية وبرنامجه المرحلي، وليس عن الحد الأدنى الذي يطرحه القاعديون كأرضية للوحدة مع القوى الإصلاحية. فإذا اعتبرنا أن "كل من يتبنى البرنامج المرحلي" قاعدي، قمنا بتحويل القاعديين إلى جبهة للنضال المرحلي بدل خط ديمقراطي داخل الحركة الطلابية يتداخل في رؤيته الاستراتيجي بالمرحلي، فضلا على أنه حتى هذه المهزلة غير قابلة للتحقق ولندرس مثالا طريفا.
يعتبر أنصار "وجهة نظر 97" القوى السياسية ذات طبيعة رجعية، وأن الحديث عن القوى الإصلاحية ليس غير مبرر ومدخل للعمل الوحدوي معها، لن نناقش هنا المنطلقات النظرية لموقف "الكل رجعي" لدى هؤلاء الرفاق والدواعي التي جعلتهم، تاريخيا ونظريا، يقولون برجعية القوى السياسية ويحيدون عن موقف الطلبة الجبهويين وبعدهم القاعديين، باعتبارها قوى إصلاحية ذات ممارسة انتهازية. لكن ننقل خلاصة القول هي أن التمييز الوحيد القائم هو بين التقدمي والرجعي، وهذا إذن، تغيير عميق في البرنامج الديمقراطي العام بتغيير الموقف من القوى السياسية، ولنلق نظرة على ما حل الآن بالبرنامج المرحلي: إذا كان الثوري سياسيا، هو الديمقراطي نقابيا، والإصلاحي سياسيا، هو البيروقراطي نقابيا، كما ذكرنا قبل قليل، وإذا كان ما نسميه نحن "الإصلاحي" ليس في حقيقة الأمر إصلاحيا، بل رجعيا. وكانت تجليات الحظر العملي -ومن ضمنها القوى الشوفينية الرجعية والقوى الظلامية– قوى رجعية أيضا بطبيعتها. أفلا نعتبر الكل "الرجعي" ضمن تجليات الحظر العملي وكفى الله المؤمنين شر القتال؟ فما فائدة وجود ثلاث نقاط في البرنامج المرحلي؟ ((*)) ألا يصح أن تكون هنالك نقطتان فقط، إحداهما رفع الحظر العملي على أوطم والثانية مواجهة ما يمكن مواجهته من بنود التخريب في أفق المواجهة الشاملة؟ وهاكم خطاطة تفسر هذا الوضع الحرج:
(يمكن الاطلاع على الخطاطة التوضيحية في النسخة الأخيرة من الكتاب التي ستنشر كاملة بصيغة PDF).
وهذا معناه أنه لا يمكن أن نبني هوية النهج الديمقراطي القاعدي على ثلاثة جمل، إذ أن الالتقاء السياسي لا يكون على الوحدات الصوتية واللغوية ولكن على الفهم السياسي، مما يُذكر بحديث بعض التائهين فكريا وسياسيا عن ضرورة لم شمل من يقولون بالثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية في النقابات والتنسيق بينهم في العمل النقابي، بل يذكر أكثر، بحديث نبوي: "عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ). رواه أبو داود (3116) وحسَّنه الألباني في "إرواء الغليل" (3/149). وربما قد يكون الأمر سليما إلى حد ما لأن أهداف من يحتضر فيذكر الشهادة، أهداف ميتافيزيقية، يود أن يلقى ربه راضيا عنه، فيقول كليمات قبل وفاته تقيه شر الجحيم. أما أهدافنا فهي أهداف سياسية مادية تاريخية طبقية، لن ترسمها الجمل أو الصيغ، بل الفهم السياسي السديد.
بوسعنا أن نسوق الآن، أمثلة أخرى بما لا يحصى تبين أن البرنامج المرحلي لا يمكن أن يكون مرتكزا لهوية النهج الديمقراطي القاعدي بإهمال تصوره السياسي العام واعتبار تلك الفروق "الدقيقة" غير ذات بال، فعلى تلك الفروق "الدقيقة" يتوقف مستقبل الحركة لسنوات طويلة جدا، بتعبير لينين، لكن نعتقد أن هذا المثال كاف لحد الآن، وسنذكر غيره في سياقات أخرى من النقاش. يظل في هذه النقطة سؤال مهم: ما الذي يجعل قسما واسعا من المناضلين يأخذ بهذه الفكرة، هي كون كل من "يتبنى" البرنامج المرحلي إنما يدرج في دائرة القاعديين؟ بنظرنا هنالك نوعان من الأسباب: ذاتية وموضوعية.
أما فيما يخص الأسباب الموضوعية، فإنها ترجع إلى أن إرث الصراع مع الاتجاهات التي نظرت للهيكلة البيروقراطية في سنوات الثمانينات، ونقصد هنا الكراس العتيد 1984 والكلمة الممانعة 1989، والطلبة الثوريين 1989، والانبطاح الذي عرفته هذه الاتجاهات في فترة الصراع الدموي مع القوى الظلامية ثم مع القوى الشوفينية الرجعية، قد أدى إلى أوهام تقيم فرقا بين هاته الاتجاهات من جهة ووجهات النظر التحريفية المسترزقة ليس بتسمية القاعديين وحدها، ولكن بالبرنامج المرحلي نفسه. وبالتالي فإنه كما قلنا سابقا، أن هذه العملية قد أدت إلى إنتاج نوع من الوهم الإيديولوجي عند الرفاق حول الخطوط الفاصلة بين النهج الديمقراطي القاعدي وغيره.
هنالك أسباب أخرى ذات طابع ذاتي، وهي التي جعلت الأسباب الموضوعية تفعل فعلتها في مناضلي الحركة الشيوعية المغربية، في مقدمتها القصور النظري والمنهجي وكيفية نظرهم إلى مهماتهم نفسها. إذ أن غياب بعد الأفق في طرح مهام الشيوعيين خارج الجامعة وسيادة النزعات "العملية" والولع بالنجاحات الوقتية والأهداف المرحلية وابتلاع التكتيك للإستراتيجيا والسياسات للسياسة في نظرية وممارسة الحركة الشيوعية المغربية، قد أثر على نظرة قسم واسع من الشيوعيين لصراعات الجامعة وإعادة قراءتهم لهذه الصراعات من منظور عجزهم الخاص وجهلهم الخاص. وبالتالي فإن الانقسامات الإيديولوجية والسياسية قد صار ينظر إليها كظاهرة عرضية أو مؤقتة، في تناس فظيع لكون انقسام الواحد إلى اثنين، جوهر الديالكتيك. وأنه كما ظهر تحريفيون تحت اسم الماركسية في عهد لينين، وتحت اسم الماركسية-اللينينية بعده، ليس هنالك من غرابة في أن تظهر خطوط بيروقراطية صلب الحركة الطلابية باسم التصور الديمقراطي، بل باسم القاعديين، بل بجلباب البرنامج المرحلي.
وهكذا تكون فكرة "كل من يتبنى البرنامج المرحلي" هي الأخرى خرافة لا تقل عن سابقاتها من حيث السخافة والابتذال والسطحية، رغم أنه هنالك من يقول أنه ليس فقط "كل من يتبنى البرنامج المرحلي قاعدي"، بل بالنسبة إليه "الكل يتبنى البرنامج المرحلي"، وهذا ما فهمته "وجهة نظر 2005" من عبارة "البرنامج المرحلي برنامج للحركة الطلابية" إذ اعتبرت أن جميع الأطراف تناضل ضد بنود التخريب الجامعي وضد تجليات الحظر العملي –دون أن تذكر البيروقراطية طبعا– وبهذا يكون مشروع وحدة الحركة الطلابية إشكالا محلولا من حيث الحد الأدنى لوحدة القاعديين مع الأطراف السياسية، إذ الكل يتبنى البرنامج المرحلي فهلموا نتوحد، إذ المنطلقات الفكرية لعملية الوحدة محلولة بصيغة وحدة – نقد – وحدة، والبرنامج السياسي للوحدة كذلك جاهز إذ الجميع يتبنى البرنامج المرحلي، ولم تبق سوى الآليات التنظيمية لتحقيق هذه الوحدة وهو ما ستحققه ندوة 23 مارس الأولى والثانية، في أفق غير مذكور، هو بناء لجان انتقالية جديدة – كتلك التي عملت "الكلمة الممانعة" بمعية أنصار "الكراس" و"وجهة نظر 1994" على بنائها سني التسعينيات، التي ستعمل أخيرا على هيكلة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
للقارئ أن يطلع بهذا الصدد على نشرة "ماي الأحمر، نشرة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب – مراكش" في عددها الأول لسنة 2009، وبالضبط في مقال "حول الحركة الطلابية"، الذي يناقش فيه أصحاب هذا الطرح مشروع وحدة الحركة الطلابية على ثلاثة مستويات: (1) مستوى المنطلقات الفكرية لعملية الوحدة، (2) مستوى البرنامج السياسي للوحدة (3) مستوى الآليات التنظيمية لتحقيق الوحدة. وله أن يطلع، على هذا المقال بجزئيه وكذا المقال المنشور في الأنترنت موقعا باسم "عبد الرزاق الكاديري" ومعنونا بـ"وحدة الحركة الطلابية: تلخيص تجربة الماضي لفتح آفاق المستقبل". ويستوعب هيكل هذه الرؤية بتفاصيلها، والتي لا يهمنا منها الآن غير شيئين: الأول، هو أن منطلقاتها الفكرية والفلسفية لا تختلف كثير اختلاف عن تلك التي ولدت طرح "الكل قاعدي" السائد خارج الجامعة. والثاني، هو أنها على تحريفيتها وخطئها، أكثر تقدما ونضجا وجدية، بالإضافة إلى أنها منسجمة مع ذاتها أيما انسجام، فلا ترفض اعتبار "القاعديين التقدميين" (الكلمة الممانعة) و"التوجه القاعدي" (التروتسكيون الجدد) و"فصيل الطلبة القاعديين" (الكراس) في نطاق القاعديين، بينما يرفض ذلك أنصار الطرح السخيف الذي يعتبر الكل قاعديا شرط ألا يتخلى لفظيا عن البرنامج المرحلي. وأيا كان، فإن القضية بالنسبة للاثنين قضية لفظية، ما يختلف هو فقط "اللفظ الأخير" الذي عليه يكون الفصل، أهو "القاعديون" أم "البرنامج المرحلي"، وهي نفسها قضية الحديث النبوي المسند إلى معاذ بن جبل: من كان آخر كلامه...

4- هل الروايات التاريخية هي ما يحدد النهج الديمقراطي القاعدي؟
إلى حد الآن نكون قد فرشنا أغلب المقدمات المنهجية والنظرية الأساسية لدراسة المشكلة، ما عدا إشكالين اثنين هما سؤال "تعدد الروايات" ومعضلة "قلة الكتابات". يشتكي مناضلون كثر، وجملة من القواعد المناضلة، من أن المشكل الذي يعترض دارس تاريخ الحركة الطلابية والقاعديين، هو كثرة الروايات عن هذا التاريخ وتضاربها الواضح، فلا تقتنع برواية فلان حتى يأتيك علان بخلافها، وعند فلتان ثالثة ولدى علتان رابعة... إلى ما شاء الله من روايات تتناسل وتتكاثر وتتضارب، لتجعل ايجاد الحقيقة مستحيلا، ولتفتح "تناقضات العقل الخالص" بإشكالاتها غير المحلولة ومفارقاتها المنطقية أوسع الأبواب نحو التصوف "العملي"، نحو العرفان "الميداني" طريقا للحقيقة، ورفع راية "كذب الظن لا إمام سوى الميدان مشيرا في صبحه والمساء!". بالإضافة إلى مشكلة قلة الكتابات حول هذا التاريخ وكونه في معظمه تاريخا شفويا، ونوافق الرأي، على أن هذه تشكل نقيصة فظيعة ليس في الحركة الطلابية وحسب، وإنما في الحركة الشيوعية المغربية أيضا. وقبل أن نمر لتفسير هذه الظاهرة الكارثية، نحب التنبيه بكل هدوء على أنه حتى "كثرة الكتابات" لن تشكل، على فائدتها وفعاليتها للصراع الإيديولوجي، حلا نهائيا لـ"تعدد الروايات"، ما سيحدث فقط، هو تحول الروايات الشفهية إلى روايات مكتوبة، وستظل مع ذلك متضاربة. فأين يوجد جوهر المشكل إذن؟
لنلق نظرة على أكبر "تضارب روايات" في تاريخ الشيوعية، إنه الصراع ما بين الماركسية-اللينينية والتروتسكية، والذي هو في منظور هذه الأخيرة، الصراع بين الستالينية والماركسية الثورية، وهاكم بعض المعطيات والأقاويل والمصادر، التي تدخل كلها تحت إطار هذا الصراع، حتى نتمكن من إلقاء الضوء على جزء من بلبلته وانفجاراته:
- "ستالين كان سفاحا وديكتاتورا، ستالين أمر باغتيال تروتسكي في المكسيك سنة 1949".
- "تروتسكي كان عميلا للإمبريالية والصهيونية، وقد خطط لعمليات إرهابية في الاتحاد السوفياتي وساعد الصهاينة على استيطان فلسطين".
- كتاب تروتسكي "الثورة المغدورة – نقد التجربة الستالينية"، والذي يتعرض فيه للتجربة السوفياتية باعتبارها "دولة عمالية مشوهة بيروقراطيا".
- كتاب ستالين "أسس اللينينية" الصادر سنة 1924 والذي أتى بمثابة رد على أطروحات تروتسكي في كتابه "تاريخ الثورة الروسية".
- "كتب ستالين (أسس اللينينية) لتشريع سيطرته على أجهزة الحزب الشيوعي السوفياتي، وأدخلت البدع الستالينية إلى تفكير وخطة الحزب تحت غطاء "الماركسية-اللينينية".
- "ترك لينين وصية قبل وفاته يحذر فيها من استلام ستالين لقيادة الحزب".
- "كان ستالين هو الذراع الأيمن للينين، بينما لم يكن لتروتسكي مواقف مبدئية في أية قضية من قضايا النضال الثوري".
هذه مجرد مقتطفات "عصف ذهني" حول الصراع بين الماركسية-اللينينية والتروتسكية، وبالنسبة لفكر يرعبه "تضارب الروايات"، فإن هذا "تضارب روايات" حقيقي، بل هي فوضى حقيقية، ولندع جانبا الصراع صلب الحركة الطلابية وننصرف عن "هل هؤلاء 94 أم أولئك 96، ومن خرج من رحم النهج الديمقراطي القاعدي، هؤلاء أم أولئك؟" فإن ذلك السؤال هو بالنسبة لهذا حول التروتسكية مجرد لعبة أطفال. فما هو السبيل لتقييم الصراع حول التروتسكية؟ ما المخرج الممكن من وضعية "تضارب الروايات"؟ إن هذا يتوقف على منهجنا في النظر إلى الصراع الإيديولوجي والسياسي نفسه، والذي لا يمكن أن يكون غير واحد من اثنين:
1- اعتبار الصراعات الإيديولوجية والسياسية تعبر دائما عن صراعات طبقية في جوهرها، أو قل إنها ممارسات إيديولوجية وسياسية للصراع الطبقي.
2- اعتبار الصراعات الإيديولوجية والسياسية قد تعبر أحيانا، أو دائما، وفي جوهرها، عن صراعات بين أفراد وعصابات سياسية ومجيمعات، وبالتالي ليست ممارسات إيديولوجية وسياسية للصراع الطبقي.
والمخرج من وضعية التضارب انطلاقا من المنهج الأول هو غير المخرج الممكن منها انطلاقا من المنهج الثاني. فإذا نظرنا علميا للبنية الاجتماعية وللمستوى الإيديولوجي فيها، وللممارسة الإيديولوجية للصراع الطبقي في إطار هذا الأخير وليس بمعزل عنه، يكون موضوع بحثنا وتقييمنا هو المضمون الإيديولوجي والسياسي لأطروحات هذا الطرف أو ذاك، وبالتالي ما تعبر عنه طبقيا. فلا يهمنا طيبوبة فلان أو خبث علان، بل وأن نؤطر حتى الممارسات السلبية والرجعية في سياقها السياسي والطبقي. أما إذا نظرنا إلى الصراع الإيديولوجي غيبيا، ورأيناه صراعا بين مجموعات وكتل وأفراد، لا بين خطوط سياسية ذات مضامين طبقية محددة، كنا آنذاك الأحرى بأن ندوخ ونتيه وسط "تضارب الروايات" وأن نقتنع اليوم برأي ونقتنع في الغد بخلافه. ذلك أننا نوجه تفكيرنا نحو كل شيء ما عدا الأفكار نفسها، ونحن الآن ننتصر لستالين ضد تروتسكي ليس لأننا نحب ستالين، أو لأنه أجمل منه مظهرا أو أكثر "كاريزمية" منه، وليس حتى لأننا صدقنا رواية ستالين ولم نصدق رواية تروتسكي، بل لأن الخط السياسي الذي كان يدافع عنه ستالين كان هو الخط الكفيل ببناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، وتقدم الثورة العالمية، بينما كان الخط التروتسكي هو الخط الكفيل بتخريب الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، وإعاقة الثورة العالمية، هنا تبنى الرواية التاريخية انطلاقا من الخط السياسي ومن المضمون الطبقي للصراع، وليس العكس، ولهذا ننتصر لستالين ضد تروتسكي، لماو ضد خروتشوف، وقس على ذلك من الصراعات الكبرى التي عرفتها الحركة الشيوعية العالمية خلال تاريخها المجيد.
أي نعم؛ إن التاريخ لا يزيد في ظاهره عن الإخبار ولكنه في باطنه نظر وتحقيق، هكذا تكلم ابن خلدون. وإذا كان ابن خلدون يقصد بالنظر والتحقيق معرفة القوانين التي تعتمل الحركة التاريخية فإننا هنا نقصد به، استخدام هاته القوانين التي نعرفها مسبقا لنفهم الصراع الطبقي في مستوياته، بما فيها المستوى الإيديولوجي. وهذا ما يحاول بعض المتفلسفة من فاقدي البوصلة وضيقي الأفق عندنا في المغرب، أن يبخسوا تاريخ الصراعات الإيديولوجية التي عرفتها الحركة الشيوعية المغربية... بما فيها الصراعات التي عرفها الن.د.ق. إنهم بهجرانهم للمنهج الأول وبتسلحهم بالمنهج الثاني، قد أعلنوا أن تلك الصراعات كانت غير ذات أساس مبدئي، وليس لها مضمون سياسي، ولا تعدو كونها صراعا بين أشخاص، أو صراعا بين مجيمعات، أو في نظرية سخيفة: صراعا شخصيا وذاتيا ونفسيا تغلف فيما بعد بالإيديولوجي والسياسي! إنه منهج الفكر الذي يكون ماركسيا في قضايا معينة ولا يكون كذلك في أخرى، بل إنه لا يكون ماركسيا في قضيته الأولى.
وما قضيته الأولى؟ إنها قضية بناء الخط الفكري والسياسي السديد للحركة الشيوعية المغربية، إنها قضية مواجهة الانحرافات اليمينية واليسارية، قضية التمييز المبدئي ما بين الثوريين والانتهازيين، ما بين الماركسية والتحريفية. وهذه هي الخلفية الانتهازية لهذه النداءات والدعوات: تبخيس الصراع الإيديولوجي والدعوة إلى الانغماس في النشاط العفوي، الهروب من القضية المركزية التي تواجه الحركة اليوم: قضية الخط. وبوقوع المناضل تحت أسر هذا المنهج من التفكير، فإنه يصير، بتعبير خطير لمظفر النواب، يدافع عن كل قضايا الكون، ويهرب من وجه قضيته.

5- هل الكتابات والوثائق المتوفرة هي ما يحدد النهج الديمقراطي القاعدي؟
إذن هكذا تطرح قضية "تضارب الروايات" على أرضية علمية سليمة، هي وحدها قادرة على احتضان بذور الحل وانباتها، وبقي أن نعيد بناء علاقتها مع "قلة الكتابات"، على هذه الأرضية نفسها من جهة، وأن نفسر تاريخيا، السبب وراء "قلة الكتابات"، على هذه الأرضية أيضا، التي تطرح عليها قضية "تضارب الروايات"، أي في هذه العلاقة نفسها التي نعيد بناءها ذهنيا بين العنصرين، وبالتالي نتملكها معرفيا. لماذا ظاهرة قلة الكتابات التي تتناول صراعات الحركة الشيوعية المغربية، وبالتالي القاعديين، سلبية؟ لماذا نحتاج للكتابات وتعيقنا قلتها أمام طغيان الشفهي؟ لقد قلنا سابقا إنه حتى وجود الكتابات الكثيرة والغزيرة لن يلغي "تضارب الروايات" بل سيحول هذا التضارب إلى تضارب مكتوب، فلماذا يظل نقص الكتابات مع ذلك ظاهرة سلبية؟ لماذا نحتاج ما يجب؟
لعل الجواب عن هذا السؤال قد صار أقرب إلى الذهن بعدما طرحنا حل محنة "تضارب الروايات" الشهيرة، وهو يتلخص في فكرة واحدة: اكتشاف المضمون الإيديولوجي والسياسي في الدراسات المكتوبة أسهل من اكتشافه في النقاشات الشفهية. وذلك لعدة أسباب، أهمها، الانتظام المنهجي والمنطقي للمكتوب الذي يكتسي طابعا أكثر تماسكا من الشفهي، في هذا الجانب، مما يسهل على القارئ اكتشاف الثغرات في الأفكار ومحاكمة الوثيقة في ضوئها، أما النقاشات الشفهية، فمضللة مضللة، ولها في أحايين كثيرة طابع السفسطة والتلاعب اللفظي أكثر من طابع المنطق والحجاج. فالقضية إذن هي قضية سهولة وصعوبة، قضية كمية الجهد المطلوب في اكتشاف المضمون الإيديولوجي والسياسي في هذه الحالة، وليس قضية قدرة الكتابات بذاتها ولذاتها في حسم الموقف، هي قضية مجهود، قضية "اقتصاد الفكر" نحو الهدف وليس قضية تحقيقه الفوري، وعدم الوعي بهذه القضية هو الذي يولد الوهم الإيديولوجي الذي يقدس الكلمة المكتوبة، ويلغي الصراع الإيديولوجي بمجرد أن القسم الأغلب منه غير مكتوب.
والوعي بمكامن أهمية الإنتاج النظري المكتوب في وجودها الفعلي، لا الوهمي، هو الذي يفتح باب التفسير التاريخي لظاهرة شح الوثائق المكتوبة في تاريخ الصراع الإيديولوجي للحركة الشيوعية بالمغرب. إذ أن أول ما يجب أن ننتبه إليه هو أن هذه الظاهرة كانت مميزة بالأساس لسنوات التسعينات، والمتتبع لتراث الحركة يلاحظ وكأنها انفجرت فجأة ما بعد سنة 1989، لتسير في مد تصاعدي بلغ أوجه في أواخر التسعينات، وبالتحديد بعد سنة 1997. فكيف نؤطر هذه الملاحظة الحسية في سياق تفسير جذور هذه الظاهرة؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أولا، الانتباه إلى نقطتين: الأولى هي مركز الثقل في الحركة الماركسية-اللينينية المغربية منذ سنة 1979، والثانية هي ما حبلت به سنة 1989 -أي بعد عشر سنوات بالضبط- من تطورات سياسية خطيرة داخل هذه الحركة. فبالنسبة للنقطة الأولى كانت سنة 1979 سنة المنعطف التحريفي في منظمة "إلى الأمام"، الذي دشنت تراجعاته بما سمي بخط "إعادة البناء"، إن تأسيس فصيل النهج الديمقراطي القاعدي داخل الحركة الطلابية كان هو الإجابة الوحيدة الممكنة على تراجعات منظمات الحملم، إذ لم تكن الشروط الذاتية للماركسيين-اللينينيين مهيئة لبناء منظمة ثورية بديلة تستكمل المهام التاريخية للحملم، هذا ما جعل مركز الثقل في الصراع الإيديولوجي ينتقل إلى الحركة الطلابية وإلى النهج الديمقراطي القاعدي، وإن كان في حقيقته يعكس الصراع صلب الحركة الماركسية-اللينينية ككل، وهذا ما وعاه القاعديون أنفسهم: "..فنظرا للشروط الذاتية والموضوعية التي تمر بها الحركة الجماهيرية المتمثلة في غياب الحزب الماركسي اللينيني المغربي المعبر عن مصالح الطبقة العاملة التي ستجعل من تجربة الطلبة القاعديين تاريخا ملازما لبروز التحريفية..." (ن.د.ق – "لا بديل عن مواجهة القوى الشوفينية الرجعية" 18 – سبتمبر 2007). ((2))
النقطة الثانية هي بالضبط الانفجار الذي عرفته سنة 1989 في ذات القاعديين، بظهور وجهة نظر "الكلمة الممانعة"، والتي كانت أكبر رجة تدميرية عرفها النهج الديمقراطي القاعدي في تاريخه إلى الآن. فهذه الورقة الجديدة التي أعادت صياغة كراس 1984 بشكل أكثر تماسكا وبتبريرات وحجج أكثر انتظاما، مع النقد والهجوم الدائم على "طرح الهيكلة البيروقراطية لدى أنصار الكراس" من جهة، ومحاولة احتواء البرنامج المرحلي ولي عنقه ليتلاءم مع الطرح البيروقراطي، وذلك من قبيل القول بأن
سنة 1981 وفشل المؤتمر 17 كان بداية فرض الحظر العملي على أوطم، وأن سني 87-89 كان فترة هبة جماهيرية وطلابية قوية بلورت وعيا سياسيا ونقابيا متقدما قادرا على توفير شروط عقد مؤتمر استثنائي لأوطم وهيكلة المنظمة هيكلة ديمقراطية قاعدية. إن هذا كله، وبالتزامن مع واقع انهيار جدار برلين وتصاعد المد الظلامي في الجامعة المغربية، قد أحدث استجابة واسعة لأطروحات الممانعين الاستسلامية وسط العديد من المناضلين، مما أحدث هزة كبرى بالنسبة للنهج الديمقراطي القاعدي، وهنا نشير إلى أننا نتفادى عرض وجهة نظر الكلمة الممانعة بكامل نسقها، ونقتصر على تبيان مظاهر قوتها التي جعلتها نقطة فاصلة وحاسمة في مسار الصراع الإيديولوجي داخل الحملم.
إن الجهود التي بذلها مناضلو النهج الديمقراطي القاعدي، وبالأساس بموقعي فاس – ظهر المهراز ووجدة، ضد وجهة نظر "الكلمة الممانعة"، لأجل فضحها إيديولوجيا وسياسيا، قد ترافقت مع تطورات جديدة بالساحة السياسية: اشتداد الهجوم الظلامي على الاتحاد الوطني لطلبة المغرب من جهة، وانهيار الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى، بالإضافة إلى مخاض "التجميع" الذي أطلقه المعتقلون السياسيون السابقون للحملم، والذي اتجه نحو إنشاء إطار "ديمقراطي"/ "ديمقراطي جذري" لتجميعهم، بعيدا عن المبادئ الثورية والخط الماركسي اللينيني. إن هذا كله، قد أدى إلى أن ينقسم الصراع الإيديولوجي والسياسي ضد "الكلمة الممانعة" نفسه إلى اثنين، وبالتالي أن يولد إلى جانبه صراعا صلب النهج الديمقراطي القاعدي، ضد وجهة نظر جديدة، هي وجهة نظر 1994. ومن يقوم بقراءة وثيقة "ضد الانتهازية دفاعا عن القاعديين، افلاس وجهة نظر 94 وصمود النهج الديمقراطي القاعدي" سيعيد اكتشاف دور الصراع ضد الممانعين في انبثاق هذا الطرح الجديد في جامعة ظهر المهراز، وليس يهمنا الآن عرض أفكاره أو نقدها، فذلك قد تم انجازه في تلك الوثيقة، نكتفي بأن نشير، إلى ملاحظة مهمة.
ألا وهي أنه منذ ظهور الممانعين تولدت نزعة خطيرة من الجمود العقائدي في صلب القاعديين والماركسيين-اللينينيين عموما، كردة فعل على الخيانة التحريفية للكلمة الممانعة، وقد تعمقت هذه النزعة أكثر فأكثر مع ظهور طرح 1994، وهذا ما أدى إلى شح في الإنتاج النظري الكتابي، إذ أن كل من كان يحاول الكتابة كان يخاف تهمة التحريفية، وكان التركيز يتم على النقطة والفاصلة، طبعا هذه ظاهرة سلبية، ولكنها كانت تجد شروطها التي تغذيها باستمرار في تلك المرحلة، خاصة مع التجارب السالفة للقاعديين منذ الكراس العتيد 1984 من جهة، والخصوصية الذاتية لتجربتهم من جهة أخرى. وبالإمكان العودة إلى مقال بعنوان: "ملاحظات انتقادية في التعاطي مع الأدب المكتوب في أوساط الماركسيين المغاربة" موقعا باسم "محمود أبو نضال"، وهو يلقي ضوءً على هذا التحول الخطير. فباستحضار بنائنا السابق لمكامن أهمية الإنتاج المكتوب، نستخلص أنه كان يتضخم الميل إلى هجران المكتوب مع توالي الانشقاقات التحريفية ومع نمو النزعة الدوغمائية في آن، لأن اكتشاف المضمون الإيديولوجي والسياسي ونقده يكون أصعب في شكل النقاشات الشفهية، ولهذا ارتكزت الاتجاهات التحريفية أكثر على هذا الأسلوب لترويج أطروحاتها، وارتكز عليه القاعديون والماركسيون-اللينينيون عموما، الذين كانوا قد أصيبوا بداء الدوغمائية، خوفا من "ظهور اتجاهات تحريفية" –وفي الحقيقة من مشقة التدقيق والنقاش في الأفكار المكتوبة- وهو خوف خاطئ وغير علمي، وبالتالي كان خوفا رجعيا.
إن تضخم الميل إلى هجران المكتوب مع توالي الانشقاقات التحريفية ومع نمو النزعة الدوغمائية في الوقت نفسه، قد تعمق بعد وجهة نظر 94 بظهور وجهة نظر 96 المؤطرة بوثيقة "التحاق الشجعان بالقوى السياسية" والتي ولدت في نفس مخاض تجميع شيوخ "اليسار الجديد". حتى توج هذا التضخم السرطاني ببلوغ الحد الذي تحولت فيه الدوغمائية نفسها إلى تحريفية عند البعض، وذلك بظهور وجهة نظر 1997 "أنصار القوى الرجعية"، والتي أعلنت الطلاق النهائي مع كل ما هو مكتوب ولم تخلف أي وثيقة مكتوبة تعبر فيها عن طرحها عدا البيانات والبلاغات، والمعلوم أن أنصار هذا التيار يعتبرون أنه من المحمود أن يكونوا "ضد الإنتاج الكتابي وأن الشفهي يضمن عدم تحريف مواقف الطلبة القاعديين بعكس ما هو مكتوب"!. إن حجم الإدانة والاستنكار الذي قد يقفه أي مناضل ثوري مخلص من هذه الفكرة البلهاء، يجب ألا يعميه عن تحليل التطور التاريخي الذي أنتجها، والشروط التاريخية التي نمت فيها نزعة معاداة الإنتاج الكتابي وتضخمت بشكل مريع.
أما بعد تاريخ 1997، فقد بدأت الأمور تنفرج بعض الشيء في هذا الجانب، وبدأ الاتجاه نحو الإنتاج الكتابي يقوى وشرعت نزعة معاداته في التقلص المتزايد، نظرا لشروط أخرى برزت على الساحة ومن ضمنها التحدي الذي طرحه "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" أمام القاعديين لتنظيم ذواتهم وتصليب وحدتهم لأجل قيادة معركة مواجهة الميثاق، وهذا ما تجلى في القراءة النقدية للميثاق المنجزة سنة 1999 والمعنونة بـ: "قراءة نقدية في الميثاق الوطني للتربية والتكوين: ميثاق وطني للتربية والتكوين أم مخطط طبقي للتركيع والتبضيع؟". ولكنه يمكن القول الآن، كتقييم عام، أن حجم ذلك الانفراج والاتجاه إلى الإنتاج النظري المعبر عنه في شكله الكتابي لا زال غير كاف ليفي بمتطلبات الحركة، ضمن القاعديين وقياسا إلى إشكالات الحركة الطلابية نفسها، فما بالك بإشكالات تتجاوز هذه الحركة كمسألة التنظيم الثوري والحزب وغيرها.

6- خلاصة: انحلال كافة المحددات الوهمية في محدد واحد هو الفعل الميداني:
وفي هذا الاتجاه، اتجاه التمييز المبدئي بين القاعديين والخطوط التحريفية، يطيب لنا مناقشة "وجهة نظر 96": سياق بروزها، أفكارها، تطورها، ومآلاتها. ولن يندهش القارئ إذا ما قلنا أن كل الصفحات السابقة ما كانت إلا توطئة وتمهيدا لهذا الموضوع. الذي نرى –وقد يرى معنا بدوره– أن مشكلة البحث فيه هي أولا مشكلة البحث في منهج البحث نفسه، وهذا ما حاولناه خلال الصفحات السابقة: بلورة ملامح المنهج العلمي الكفيل بالبحث في الموضوع، وذلك في سيرورة دحض الأفكار والأطروحات التي توظف ضد بحث هذا الموضوع بحثا علميا، ولنجمل أهم هاته الأفكار:
(1)- "تحديد القاعدي من غيره يتم عبر مقياس الميدان، القاعديون يتحددون عبر الميدان." وهذه فكرة أوفيناها حقها من النقد ما أمكن.
(2)- "الكل قاعدي" أو "كل من يتبنى البرنامج المرحلي قاعدي"، "الاختلاف فقط في الجزئيات"، "الصراع ذاتي وشخصي تغلف بالإيديولوجي والسياسي وليس صراعا مبدئيا".
(3)- "تضارب الروايات حول تاريخ القاعديين تجعل من غير الممكن الحسم في موقف محدد من هذه القضية".
(4)- "قلة الكتابات حول تاريخ القاعديين تجعل من غير الممكن الحسم في موقف محدد من هذه القضية".
هل يصدق أحد أن كل هذا الجهد كان من أجل دحض أربعة أطروحات لا غير؟ كيف يمكن أن يكون لهاته الأفكار الأربعة كل هذه القوة وكل هذا التأثير؟ لا نتعمد حقيقة الزيادة في تعجب القارئ بإخباره أن هذا الجهد كان من أجل دحض فكرة واحدة. نعم فكرة واحدة هي الفكرة الأولى: "تحديد القاعدي من غيره يتم عبر مقياس الميدان، القاعديون يتحددون عبر الميدان."، الأفكار الثلاث الأخرى إنما تنحل في الفكرة الأولى. فإذا كان تضارب الروايات (3) وقلة الكتابات (4) يجعل من غير الممكن الحسم في هوية القاعديين، يكون الحل لهذه المعضلة هو حسمها في الميدان، وإذا كان الكل قاعديا، أو كل من يتبنى البرنامج المرحلي قاعديا، وأن الصراع محض صراع ذاتي (2) فإن الاختلاف بين "القاعديين" ليس في الأفكار ولا في الخط، إن كان من اختلاف واقعي ومعقول بينهم، فهو إذن في الميدان، في مدى "ميدانية" كل منهم في تجسيد أفكار القاعديين، أو البرنامج المرحلي (غير المختلف عليها) ميدانيا.
هذه الفكرة (1) هي الجذر، وهي أصل الداء في التخبط والاضطراب المنهجي الذي يظهر في صورة عشرات بل مئات الأوهام حول القاعديين والحركة الطلابية، والمنتشرة في صلب الشيوعيين خارج الجامعة، وهذا السبب هو الذي يجعل من معالجة هذا الموضوع بالنسبة لنا ذات أهمية بالغة. إذ قد يقول قائل: وما شأننا بالحركة الطلابية والقاعديين؟ نحن مناضلون ماركسيون-لينينيون خارج الجامعة، فلنترك عما اختلفنا عليه جانبا، ولنعالج واقع الشيوعيين خارج الجامعة لا داخلها"، بل إن هنالك من يفسر أزمة الحركة الشيوعية المغربية بكون عقدة عقدها هي "انعكاس" و"انتقال" صراعات الجامعة إلى خارج أسوارها، وبالتالي الحل هو ترك قضايا الجامعة جانبا والتفرغ لما هو خارجها. في هذه الفكرة جزء صغير من الحقيقة، فلا يجدر أن يعامل المناضلون بعضهم بعضا على أساس كونهم أطرافا سياسية هي ظلال للأطراف السياسية داخل الحركة الطلابية، ففي تعاملنا مع رفاق أمضوا تجربتهم السياسية في الجامعة، لما كانوا طلابا، مع أنصار وجهة نظر 94، سيكون من الحمق أن نتعامل معهم باعتبارهم "وجهة نظر 94" -إلا اذا كنا نعتقد أننا قاعديون حتى خارج الجامعة، وهذه سخافة سنأتي على نقاشها فيما بعد- ولكن سيكون من الجنون أيضا، التخلي عن تحليلاتنا وموقفنا من وجهة نظر 94 حتى نحافظ على الود الرفاقي معهم، بل على العكس من ذلك، يجب أن نناقش ذلك بمسؤولية وجدية كلما كان ذلك موضوع نقاش.
لماذا؟ لأن بناء الخط الفكري والسياسي للحركة الشيوعية اليوم يتطلب تقييم تجربة الحركة ليس فقط عالميا وعربيا، بل وأيضا على الصعيد المحلي منذ نشوء تنظيمات الحملم ابتداء من سنة 1970 وحتى انحرافها وتأسيس النهج الديمقراطي القاعدي سنة 1979، إن تقييم تجربة القاعديين على الأصعدة الفكرية والسياسية والتنظيمية هي حلقة في مسار تقييم الحركة ككل، ذلك لأن تجربة القاعديين نفسها حلقة في مسار تطور الحركة ككل. ولكي نقوم بالتقييم يجب أن يكون موضوع التقييم واضحا، أن نعرف من هو النهج الديمقراطي القاعدي الذي يجري تقييم أفكاره ونقدها، أن نميز مبدئيا بينه وبين وجهات النظر التحريفية الخارجة من رحمه. إن رفض هذا التمييز المبدئي يعني تعويم موضوع التقييم، يعني تشويش تجربة الحركة الماركسية-اللينينية ككل، وبالتالي تصفية مهمة بناء خطها الفكري والسياسي السليم، إن مقولة "القاعديون يتحددون عبر الميدان" إنما ترمي، في أبعادها الانتهازية، خوف أن نقول التصفوية، إلى صرف النظر عن المهمات الأساسية للحركة اليوم، إلى إبقائها تراوح مكانها في حالة العفوية والتجريبية والانتظارية، وضد هذا كله، ولأجل المساهمة في بناء الوضوح الفكري والسياسي، كان النقد، وكانت هذه الدراسة.




هوامش واحالات:
((1))- المغربي فهد، "طريقان أمام الحركة الماركسية-اللينينية المغربية: نقد الأسس الفلسفية لتيار البديل الجذري المغربي – الجزء 1"، 2014.
((*))- يحل أنصار وجهة نظر "القوى رجعية" هذا المأزق بكون البيروقراطية تنحصر في البيروقراطية غير المنظمة، ولكن واقع الحال إذا كانت البرجوازية الصغيرة رجعية، فإن الميوعة صلب الجماهير الطلابية ليس في واقع الأمر تعبيرا عن بيروقراطية غير منظمة، بل هي تجليات حظر عملي على أوطم غير منظمة!!
((2))- فصيل النهج الديمقراطي القاعدي، "لا بديل عن مواجهة القوى الشوفينية الرجعية" – 18 سبتمبر 2007.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا


.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024




.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال