الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[30]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 16
الادب والفن


صبري يوسف

30. ترجمتِ ديوان: السَّلام أعمق من البحار، وقدّمت دراسة موسّعة عن أدب صبري يوسف، ما رأيك في آفاقه الأدبية والفنِّيِّة نحو فضاءات السّلام، وما رأيك في مجلّة السَّلام الدَّولية الَّتي يصدرها سنويَّاً؟

د. أسماء غريب

لكلِّ خشب ساعة الحرق عطرٌ ورائحةٌ زكيّة مُعَيّنيْن، ولكلّ مبدع أسلوبٌ وبصمةٌ يُميّزانه عن غيره من المبدعين، وأنا كلّما كنت أمام تجربة إبداعية لأديب ما، شعرتُ بمحنة ما بعدها محنة، إذ عليّ أن أبحث عن هذه البصمة، أو هذا العطر الَّذي يميّز شجرة الإبداع عنده، حتَّى لا تصبح الكتابة التّرجميّة أو النَّقديّة تكراراً لما سبق وكتبتُه عن غيره، ممّا يعني أنّه عليّ أن أبدأ سفري من القراءة المكثّفة عن هذا المبدع، ثمَّ بعد ذلك المرور إلى مرحلة البحث والمصادر الَّتي تتوافق مع ما أنا بصدد القيام به من دراسة أو ترجمة. وإنّي لأعتبرُ نفسي من المحظوظين في هذا المجال، لأنّ الوهّاب منّ عليّ بنعمة النّسيان: نعم، أنا كثيرةُ النّسيان، أنسى بسرعة ما أقرَؤُه من كتب ومصادر، وروايات وقصص، بل حتّى ما أراهُ من أفلام أو ما أسمعه من قطع موسيقيّة، وهذا قد يجدُهُ البعض مشكلةً، لكنّني أعدّه كنزاً ما بعده كنز، لأنّه يعني أنّ نفسي وروحي وعقلي كلّهم معاً في تجدّد مستمرّ، ففيهم المساحة الكافية دائماً لتلقّي المزيد والمزيد، وفي هذا، أشْبِهُ النّوتيّ البحّار؛ وهو حيوان بحريّ صغير بحجم قبضة اليد، ويحيط برأسه المخروطي قرن استشعار قصير، يتواصل به مع العالم المحيط به. وأغرب شيء فيه هو صدفته المتكوّنة من غرف كثيرة، كلّ غرفة أكبر من سابقتها ومغلقة بإحكام من جميع الجوانب بواسطة جدران دقيقة ما عدا الغرفة الأخيرة الَّتي يوجد بها جسم النّوتي الرَّخو.

وهذا النّوتي، كائن مائيّ "أعمى"، يعيش خلال النّهار في أعماق المياه المظلمة ولا يقترب من سطح الماء إلّا ليلاً، وكونهُ أعمى فهذا يعني أنّه مكتمل البصيرة القلبيّة والرُّوحيّة، أمّا عن كونه ينتقل من غرفة إلى أخرى، فهذا دليلٌ على أنّه منشغل بالبناء والتَّجديد، فهو دائماً يبني حجرات جديدة أكبر حجماً كلّما نما جسمه بشكل أكبر ويهجر الحجرة القديمة كي يقيم في الجديدة، وفي بعض الحالات يمكن لغرف قوقعته أن تصل إلى ثلاثين غرفة. وكلّ هذه الصِّفات لا يملكها إلّا المبدع المتنوّرُ من أهل الحرف، المنشغل بالتّفكيك والهدم وكسر القواعد من أجل شرب حليب الأبجديّة والوقوف على أسرارها.
وأذكر أنّني كنتُ خلال قراءاتي الأوليّة لمؤلّفات صبري يوسف وإبداعاته التّشكيليّة، كلّما مضيتُ قُدماً في الدِّراسات الأوليّة، أحاطت بي الرِّسالات والصُّور من كلِّ جانب، قادمةً من أماكن مختلفة. وهو أمر كان يحتاجُ منّي إلى الكثير من الصّبر والجَلَد حتّى أستطيع استيعابها كاملة، لأنّها كانت تحملني إلى آفاق أكثر شساعة وشموليّة، حيث الحرف يُفصح عن نفسه وبأشكال جديدة، فوجدتني وأنا في غمرة القراءة والتّرجمة، أنظِم قصائد جديدة شكّلتْ جسد ديوان آخر هو (مالمْ تبح به مريم، ويليه متون سيدة)، والذي تحوّل بشكل أو بآخر بين يدي الأديب صبري يوسف إلى ديوان آخر نابع من التَّجربة ذاتها وأعني به (تجلِّيات من وهج الانبهار)، وقد كان هذا كلّه نوعاً من الدَّوران في الاتّجاه المعاكس لعقارب السَّاعة، أو لأقُلْ صلاة دائريّة تشبهُ دورة تلك الخطوط المنحوتة على جسد النّوتي أو قوقعته الّتي ترمز إلى كمال الخلق والتَّخليق.
ماذا يعني كلّ هذا؟ أنّ السَّلام الّذي كان يتحدّثُ عنه صبري يوسف في ديوانه هو الله. ولستُ هنا بصدد حصر الدِّيوان في إطار لاهوتيّ ميتافيزيقيّ محض، بقدر ما أنا بصدد الحديث عن شفافيّة رسالة ديوان (السَّلام أعمق من البحار) والّتي وصلتني كاملة، وفتحت عين قلبي بشكل جميل جدّاً، حتّى أنّي صرتُ في تلك الفترة لا أجلس في مكان إلّا وأجد حروف السَّلام وإشاراته من حولي. لقد بتُّ آنذاك أرى كلمة (السَّلام) مكتوبة فوق الجدران وفوق السِّيارات، وفي اللَّافتات، وعند مداخل الأزقّة والطُّرقات، سواء هنا في إيطاليا، أو هناك في المغرب.
وكلّ هذا دفعني إلى المزيد من التَّأمّل في تاريخ الإنسان: فأنّى له أن يجدَ السّلام، وقد قتل اللهَ بداخله؟!
سيقول المتفيقهون إنّ الله لا يُقتلْ، إنّه حيّ دائم باقٍ، وأقول: نعم هو كذلك، لكن في قلوب القلّة، وأمّا في قلوب أغلبيّة النّاس فهو ميّت غائب ومُغَيَّب، وإن كانوا من ذوي الأذكار والتّلاوات، والرّكوع والسّجود في المعابد والكنائس والمساجد، فهذا لا يعني شيئاً بتاتاً مصداقا لقوله عز وجل: ((وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً)) (الأنفال: 35).

هي الأجساد تصعد وتهبط، والأفواه والشِّفاه تمكو مكاء لا ينقطع، لا أقلّ ولا أكثر. لن يحلّ السّلام في قلوب لا تعرف اللهَ ولا تعترفُ به: إنّه هو السَّلام، ومهما بلغ الإنسان من التَّقدُّم، فإنَّ عقله يبقى الحجابَ الأكبر الَّذي يحول بينه وبين الوصول للسلام والطّمأنينة. السَّلام لغة القلب والرُّوح، ويجب التَّجرُّد من كلّ شيء من أجل الإحساس به، وتحقيقه.

كلّ الأنبياء جاؤوا به، وكلّ المؤمنين والأولياء اضْطُهدوا من أجله. وحينما عذّبَ الحاقدون المسيحَ مثلاً، إنّما أرادوا قتل الله في صورته، وبالتَّالي محو صورة السّلام، وهو الشَّيء نفسه الّذي حدث مع أمير المؤمنين عليّاً (ع)، ومع ابنيْه من بعده. ثمّ بعد ذلك يتساءل المتفلسفون وأدعياء الفكر؛ من أين تأتي الحروب ولماذا كلّ هذا العذاب على الأرض؟!

ليس بالأمر الهيّن قتلُ الله كلّ يوم؟ وعبثاً يحلم النّاس بالفردوس والجنان والحشر مع الصّدّيقين والأبرار: يجبُ إحياء السَّلام في القلوب، يجب إحياء الله، يجب النّزول إلى الجحيم إذا أراد النَّاسُ الجنّة، فالطّريق يبدأ من هناك، وعبثاً يتحدّث العرفاء عن الحبّ ما لم يتحدّثوا عن الكراهيّة، وعن الملائكة ما لم ينظروا في عينَيِ الشّيطان ومواجهته وجهاً لوجه، ونسف وجوده من الأعماق. أعتقد أنّه قد حان الأوان لتفكيك منظومة الجحيم والجنّة، والملائكة والشَّياطين، من أجل السَّعي إلى السَّلام الحقّ، وعلى أطبّاء النّفس وعلومها أن يعيدوا النَّظر في كلّ إرث فرويد ويونغ وغيرهما، لأنّ جنون الإنسان المستمرّ وشقاءَه الَّذي لا نهاية له، أثبتَ فشل هؤلاء في تقديم الحلول النّاجعة لتفادي كل هذا الخراب الرُّوحيّ الكبير.

السَّلام يشفي الإنسان من كلّ شيء، وأنا أعني ما أقول جيّداً، وقد خبرتُ هذا الأمر لأكثر من مرّة، وآخرها كانت يومَ وفاة والدي: حينما جاءني الخبر، لم أبكِ ولم أصرخ أبداً، حتّى أنّ السَّائقَ الَّذي حملني إلى مراكش لأحضر مراسيم العزاء والدّفن، استغرب الأمرَ كثيراً.
كنتُ أشعر بطمأنينة كبيرة مصحوبة بجرح وألم، كان الأمرُ يُشبه جرح العاشقة في ليلة زفافها، وهي تتعرّفُ لأول مرّة على السَّعادة العشقيّة. والموتُ بالنّسبة لي، هو نوع من الزّفاف، حيث الرُّوح تخرجُ عروساً من دار إلى أخرى، والجرح والألم هو فقط وقتيّ من أجل سعادة أبديّة.

كنتُ أعلم أنّ روح والدي قد بدأت رحلتها نحو هذه السّعادة، ولم يكن يعنيني أبداً إذا كانت سعادتها ستبدأ بعروج نحو المحرقة (الجحيم)، أو نحو (الفردوس). لأنّني على يقين أنّ كلاهما مطهّر، وأن لا أحد في الكون كلّه أرحم من الله على النّاس، فهو خالقهم. هذا الشُّعور جعلني أشعر بخفّة في الرّوح والجسد بين الأهل وهم يبكون ويصرخون من شدّة ألم الفراق. وحينما كنت في مطار الدَّار البيضاء عائدة إلى إيطاليا، شعرتُ أنّني ريشة تطير في الهواء، وأحسستُ بسعادة تغمرني ما بعدها سعادة. أيْ نعم كان جسدي مرهقاً من كثرة الأسفار وهول المفاجأة لكنّ روحي كانت تحلّق في السَّماء. إنّه نفسهُ السَّلام الّذي ترجمتُه في ديوانِ صبري يوسف، والّذي يتحدَّثُ عنهُ أهل الحقّ، إذا حلّ بالرُّوح شفاها من أسقامها وأحزانها. لذا فإنّي أرجو من الله عز وجلّ أن يُنوّر قلوب الفقهاء المفسّرين ويرأفوا بالنَّاس وهم يُحدّثونهم عن النّار والجحيم والعذاب، لأنّ الأمر فيه صور مجازيّة، ورموز ينبغي تأويلها بعين الحكمة والتَّروّي والمحبّة قبل كلّ شيء.

حينما ركبتُ الطَّائرة المتوجّهة إلى إيطاليا، ابتسمتُ وفي القلب رعشة ونور: قلتُ في نفسي، يا لهذا اليوم العجيب: دُفِنَ والدي بمرّاكش في مقبرة المطار، وكأنّه أراد أن يقول لي إنّ الحياة مجرّد سفر. لقد كان يحبُّ الأسفار كثيراً، ودُفنَ في مكان تقلع فيه الطَّائرات على مدار الأربع وعشرين ساعة، وقبره يحمل رقم السَّنة التي وُلِدْتُ فيها. ربُّ السَّلامِ أراد هذا، وأراد لي أيضاً أن يكونَ أوّل ما قمتُ به بعد عودتي أن أراجع وأنقّح ديوان (السلام أعمق من البحار) لأكثر من مرّة، وأدفعَهُ لدار النّشر وأتتبّعَ كلّ خطواته إلى أن أصبح حقيقة على ورق، فصدر وفي القلب فرح ما بعده فرح.
أمّا عن مجلّة السلام الّتي يرأس تحريرها الأديب صبري يوسف، ويسهر على نشر موادّها الموسوعيّة الواحدة تلو الآخر، فكلّ ما يمكنني أن أقوله عنها، إنّها يمامةُ محبّة تشدو بالجمال والعشق وسط هذا الزّخم الكبير من النّشاز المحيط بنا من كلّ جانب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه