الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الألزاس، ذهاباً وإياباً بالسيّارة (الجزء ٢ من ٢)

منير المجيد
(Monir Almajid)

2019 / 1 / 17
السياحة والرحلات


قررنا، خلدون وأنا، أن نعود إلى ديارنا، بعد أن مسحنا منطقة الألزاس الفرنسية شبراً شبراً وزنقة زنقة، وكرعنا العديد من خمورها وتناولنا ما تيسّر من مطبخها الدسم. تناقشنا حول عدم ضرورة قيادة السيارة لساعات طويلة منهكة مرة اخرى، فاقترحت أن نتوقف في منتصف الطريق في قرية ما، كي نتمتع بمنظر فنادق الأرياف الألمانية التي رأيت مئات الأفلام والبرامج التلفزيونية عنها.
وقع الإختيار على منطقة هارز الجبلية المليئة بقصص الجنيات والساحرات والعجائز الشمطاوات، والتي رويت في قصص ورسومات الأطفال.
تمّ الحجز على إحدى مواقع الفنادق العالمية، فنحن، على ما أعتقد، مزوّدان بما يكفي من وسائل الإتصال الحديثة. وقع اختيارتنا على واحد. في صفحات الدعاية لشرح الفندق وجدنا العديد من تصريحات لزبائن مرّوا عليه يمدحون ويمجّدون، شاهدنا صور لحسناوات يقدمن خدمات التدليك والعلاج بالمياه المعدنية، وكان هناك صورة لفتاة جميلة تجالس شاباً يضاهيها جمالاً في مطعم الفندق، ومنظر الفندق من الخارج الذي يُشبه واحدة من البيوت الريفية بشكله الرومنتيكي المثالي. قلنا: هذا رائع.
أخذنا طريق فرنسا (الألزاس) إلى وسط ألمانيا، ونحن بشوق للوصول إلى المكان.
الأتوستراد السريع، لم يكن سريعاً بما فيه الكفاية بسبب أعمال التصليحات والصيانة، التي صارت علامة ألمانية بإمتياز، في الوقت الذي تجاوزتنا فيه كل سيارات الألمان المعروفة، مرسيدسات، آوديات وفولكسڤاغنات بسرعة أدارت رؤوسنا. تذكّرتُ وليد عكاوي الذي لم يتح لهم هذه السعادة قبل بضع أسابيع، حينما خلف الأمة الألمانية وراء مرسيدستنا العنيفة ذات العضلات الحصانية. رغم ذلك وصلنا بطريقة أسهل من طريق الذهاب، وانعطفنا، بعد خمس ساعات، إلى منطقة الغابات. كان هناك قرى ألمانية تعلّقت بالمنحدرات مظهرة أسطحها القرميدية التي بلون القرميد بطبيعة الحال.
وصلنا إلى بلدة «باد لاوتربيرغ» حيث يقع فندقنا بإسمه الفخم «پارك هوتيل ڤيبر-مولر جي ام بي اتش» ذي النجوم الأربع.
البلدة هي إمتداد لشريط سهلي (وسط سلسلة من المنحدرات والمرتفعات التي تجمع غابات هارز) يجمع عدة بلدات اخرى. بعد الكثير من الكيلومترات وبعد أن صببنا جام غضبنا على سيدة جهاز الملاحة (كنّا نظن دوماً أنها ترتكب أخطاء إلكترونية ولم نعترف لحظة أننا لّقمناها بالمعلومات الخاطئة أحياناً)، وجدنا الفندق.
صحيح! هو بالفعل يبدو كنموذج بديع لبيوت الريف الألمانية. على الدرج المؤدي للفندق جلس عجوز في كرسي متحرك وبادرنا بتحية «طاب يومكم» الألمانية، فأجبنا بأحسن منها، وفق تراثنا وأدبياتنا الشرقية. بهو الفندق حكى لنا بسرعة عن تاريخه. صورتان غير متقنتان مرسومتان بالألوان الزيتية المشعّة، قد يكونان للسيدة والسيد «ڤيبر»، أو «مولر»، لست متأكداً تماماً، والأثاث يشي بماضٍ جميل، بينما كانت سيدة الإستقبال ذات الردفين الكبيرين تتحدث مع مقيمة، مسترسلة بحديث طويل. وحينما تفرغت لنا أخيراً قالت بصوت طازج «شُن غوتنتاغ»، فبادرنا، طبعاً، بما هو أحسن على الفور. لم نر مطلقاً ما يماثل الوصف والصور الدعائية. لكن، من يهتم، فنحن لسنا هنا من أجل ذلك.
بينما كنّا نملأ إستماراتٍ دوّنا فيها أسمائنا وعناويننا في مملكة الدانمارك، كانت تبحث لنا عن مفاتيح الغرف، في الوقت الذي لاحظت عدداً من المقيمين وهم يسيرون بصعوبة متعكزين.
تبادلنا النظرات، خلدون وأنا، دون حوار، إلا أننا تفاهمنا جيداً. «نحن في ورطة، أي مكان هذا الذي تعثّرنا به!»، هكذا كان الأمر.
قادتنا السيدة هازّة ردفيها المُترفين بإيقاع عسكري ناعم إلى غرفتينا. أنا سارعت إلى البحث عن الإتصال الإنترنيتي كي أُفعّل أجهزتي الإلكترونية، دون أن أدقق في وضع الغرفة. فغرف الفنادق صارت متشابهة، سواء أكانت بناءً قديماً أم حديثاً.
لم تمض الكثير من الدقائق حتى جاء خلدون وكان يحمل وجهاً غاضباً وقال أن غرفته لم تُنظّف ومليئة بنفايات الزبائن الذين غادروها، وقد حصل مباشرة على غرفة جديدة بعد أن أثار زوبعة من الإحتجاج. حينها فقط لاحظت أن غرفتي مرّت في نفس الأزمة. بقايا جرائد ألمانية، صندوق مليء بزجاجات خمور فارغة، وفي الحمام مناشف قذرة وزبالة في سلة المهملات.
عدتُ إلى السيدة ولم أكن سعيداً على الإطلاق، بينما وقفت هناك محمّرة الوجه ضامة يديها إلى صدرها، قائلة بنبرة مهشّمة «أنا لا أعرف كيف أعتذر عن هذا الخطأ»، ومدّت إليّ بمفتاح غرفة اخرى.
غرفتي الجديدة كانت نظيفة وأكبر بكثير من الأولى، ولها شرفة تطل على الحديقة. في الحديقة تناثرت أجهزة عديدة لممارسة الرياضة وتحريك العضلات.
حسناً، لقد جئنا مسافة أكثر من خمسمائة كيلو متر لنبيت في فندق يعوم على بحيرة من المياه المعدنية، خصّصوه لشفاء المرضى والعجائز الذين يعيشون أيامهم الأخيرة. كم من عجوز، يا تُرى، لفظ أنفاسه على أسرّة هذا الفندق التراثي؟ هؤلاء يتحركون بصعوبة بالغة وبحفيف لا تلتقطه أذن الإنسان، وهناك مصاعد عادية وأخرى تربط بضع سلالم مع الأرضيات المستوية بأجهزة كهربائية تعمل على أزرار. هؤلاء عاجزون، في الواقع، عن الحركة.
بعد مشقة السفر تطيب البيرة، وخاصة الألمانية الشقراء منها. جلسنا في مطعم الفندق، وحيدين، وجاءت لنا سيدة مفرطة الطول بقدحين رفيعين طويلين يوشكان أن يبلغا طولها، وكانت تسعل وتوقف سيلان إنفها بمحرمة قماشية بيضاء.
وحين أردنا دفع الحساب، قالوا لنا أنها تقدمة من الإدارة. شكراً، قلنا لهم.
وحين سألنا عمّا يمكن مشاهدته في البلدة، قالوا ببساطة «لا شيء». بالرغم من ذلك ذهبنا في مشوار قطعنا فيه الشارع الرئيسي الوحيد المُحاط بالبيوت من جانبيه، تعلوها المرتفعات المرتدية غابات داكنة واسعة، وأشجار تحمل قصص الشياطين.
عشاء الفندق كان بديعاً ومتقناً تناولناه وسط العجائز المتوقفين عن الحركة. لم يكن هناك سوى ألمان، وأنا في شكّ يصل إلى مستوى نظريات المؤامرة، أن هذا الفندق لم تطأه يوماً أرجل سوريّين مُغامرين. غُسل العشاء بكأسين شقراوين من البيرة إيّاها في الكأسين إياهما، فنسينا متاعب اليوم. حكمة: متاعب اليوم يغسلها عشاء جيد وقدح من البيرة!
هل من أفضل من حمّام ساخن بعد مغامرة اليوم؟ حينما أشعرتني المياه براحة مترعة، كانت حاوية الشامبو فارغة، عصرتها، علّني أحصل على قطرة، فأصدرت صوتاً يشبه الضراط.

ألمانيا، سبتمبر ٢٠١٧








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحة وقمر - القرصان أكلة شعبية سعودية بطريقة الإيطالية مع قمر


.. صنّاع الشهرة - لا وجود للمؤثرين بعد الآن.. ما القصة؟ ?? | ال




.. ليبيا: لماذا استقال المبعوث الأممي باتيلي من منصبه؟


.. موريتانيا: ما مضمون رسالة رئيس المجلس العسكري المالي بعد الت




.. تساؤلات بشأن تداعيات التصعيد الإسرائيلي الإيراني على مسار ال