الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[33]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 17
الادب والفن


صبري يوسف

33. ديوان: "99 قصيدةً عنْكَ"، ديوان متفرّد ويشمل جوانب متعدِّدة من الحياة، كيفَ تحافظين على وهج الشِّعر وأنتِ بهذه الآفاق الرَّحبة والغزارة الشِّعريّة المدهشة؟

د. أسماء غريب

أوّل ما يحضرني في الذّاكرة من هذا الدّيوان مُقدّمتكَ النَّقديّة الّتي كتبتَها عنهُ متناولاً فيها بالتّحليل والدّراسة تفاصيله العميقة، وهي المقدّمة الّتي سيجدها القارئ الكريم بالملاحق في الصَّفحات الأخيرة من هذا الجزء الأوّل. وكلّ ما يمكنني أن أقوله عن هذا الإصدار إنّهُ يحكيني ويحكي قصّة مدينتي العارفة بالله ويحكي أسرار المتلقّي الدَّفينة، وإذ أقول مدينتي فإنّني أعني بها آسيف، وهو الإسم الأمازيغي القديم للمدينة الّتي رأيتُ فيها النّور، ويعني الوادي أو النّهر. واستناداً إلى النّظرية الّتي تقول بأنّ وجود الأنهار في منطقة جغرافيّة ما، غالباً ما يكونُ السّببَ الحقيقيّ لنشأة وظهور المدن، فإنّ أسيف نَشأتْ على ضفاف نهر عظيم اسمه (الشّعبة)؛ وشَعَبَ الشيءَ في اللُّغة العربيّة يعْني جَمَعَهُ ثُمّ فَرّقَه، وشَعُب النّهر، تفرقتْ منهُ المياه، أمّا الشِّعبُ فهُو مسيل الماء في بطن الأرض، وهي كلّها دلالات لغوية كافية لاستنتاج المعنى الحقيقي لاِسم هذه المدينة، صاحبةَ النّهر الّذي يتشعّبُ منه الماءُ ويتفرّق. وكيف لا تكون كذلك وقد كان نهر الشّعبة كلَّما حَبلَ سريرُهُ بالمطر الغزير، هاج وفاض ماؤه ودخل إلى جنان وحقول المدن المجاورة.

وأسيف هي من مدن العالم العريقة جدَّاً، وقد ذكرها عالم الفلك اليونانيّ بطليموس في كتابه الجغرافيا باِسْم (تائسفه)، وهي مدينة فينيقيّة، أسَّسَها الملكُ والقائد العسكري حانون الّذي جاء إلى المغرب بأسطوله العسكري بنحو 1500 سنة قبل الميلاد، وقد كانتْ في عهد هذا القائد ذات عمارة، تأتيها السُّفن التِّجاريّة من كلّ صوب وحدب، وتنقسمُ اليوم إلى ثلاثة أقسام: المدينة المسوّرة بالسّور البرتغالي، ورباطُ الشّيخ أبي محمد صالح الماكري، أمّا القسمُ الثّالث فَهُو الَّذي ظهر بعد أن اتّسع العمران وامتدّتِ الدّور والبنايات، وهُو على ثلاث جهات: الجهة الأولى وتوجدُ بجنوب رباط المدينة، والجهة الثّانية وتسمّى بالمدينة الجديدة، أمّا الجهة الثّالثة فتوجد في الشّمال، وقد امتدّ فيها العمرانُ إلى أن أصبحتْ أشبه بمدينة أخرى في قلب المدينة الأُمّ.

مدينتي الحبيبة اليوم تُسمّى بآسفي، وهي اللُّطف الخفيّ والجنا الحفي، والوعدُ الوفيّ، وهي الدّماثة والجمال، والصّبر والاحتمال، والزّهد والمال، قليلة الأحزان، صابرة على الاختزان، وافية المكيال والميزان، رافعة اللِّواء بصحة الهواء. بلد موصوف برفيع ثياب الصّوف، وبه تربة الشيخ أبي محمد صالح، أجل، هو هذا الشّيخ الوليّ الَّذي كانت تحملني أمّي إلى ضريحه في طفولتي البعيدة كلّ ليلة قَدْرٍ، وأصبحتُ أذهبُ إليه حينما كبرتُ كلّما اشتعل بقلبي الحنينُ إلى ذكريات الطّفولة، وإلى تلك اللَّيالي القَدْريّة المُضمَّخة بنفحات الذّاكرين المسبّحين المحوقلين وهُم يرتِّلون القرآن الكريم ويقرؤون إلى الفجرِ دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصَّلاة على النَّبيّ المُختار.

وكانت آسفي إبّان المرابطين مركزاً خاصّاً بتجميع قوافل الذَّهب الإفريقي الّذي كان يُنقل عبر السّفن إلى الأندلس لسكِّ النُّقود هناك، كما أنّ ميناءها كان ولم يزل من أهمّ موانئ المغرب لتصدير الحبوب والسُّكّر والصُّوف، وقد أقام بها سلاطين المملكة ما بين 1716 و1830 م، داراً لسكّ النُّقود ومعالجة الذَّهب والفضّة، كانت متواجدة بالمكان الّذي يوجدُ به اليوم ضريح سيدي أبو الذّهب. وقد كان القرن الثّامن عشر فترة ازدهار وتنافس كبير بين الأوربيين على ساحل ومرسى آسفي، وخاصة بين فرنسا وبريطانيا، والدّنمارك الّتي نجحت في عقد اتفاقيّة مع السّلطان المولى عبد الله سنة 1715 تحتكرُ بموجبها التّجارة في ميناء المدينة لمدّة ثماني سنوات. وقد ظلّت آسفي محتفظة بنشاطها التّجاري خلال حكم السّلطان محمَّد بن عبد الله الّذي اعتمد في مداخيلها الماليّة على الإيرادات الجمركيّة، فقام بتحصين المدينة مزوَّداً إيّاها بعددٍ كبير من البحّارة والمدفعيّات العسكريّة. وظلّت النّقودُ تُضرب بدار الذَّهب هناك طوال حكمه، وبعد وفاته اتخذ ابنه المولى هشام مدينة آسفي عاصمة له بعد انتقاله من مدينة مراكش ما بين سنة 1794 و 1797م .

مُذْ طفولتي، كانت مدينتي وَلَمْ تَزَلْ تخطفُ بَصَري ببحرِها المُشمس الصّافي، وسمائها القمراء ذات النُّجوم السّاحرة. والجميلُ في كلّ هذا أنّني كنتُ أعرفُ مَنْ تكونُ شموسُ مُحيطها الأطلسيّ، ونجوم سمائِها كذلك، وإن أهمَلهَا التّاريخ وجارتْ عليْهَا يدُ النّسيان، وغفلتْ عنها الدِّراسات والبحوث الأكاديميّة. أمّا الشُّموسُ فأعني بها أولياءَ الله الصّالحين وأتقياءَه من أهل الزُّهد والتَّصوُّف الَّذين أثروا الدُّنيا بعِلْمهِم وعَمَلهِم وفاضوا بوهجِ النُّور وعطر الحروف على الأرض، مِنْ مشارقها إلى مغاربها. وأمّا النُّجومُ فهي أسماء عُلماء آسفي الكبار الّذين وهبوا حياتهم لشتّى العلوم كالرّياضيّات والميقات والطّبّ والفقه والقضاء وغيرها من العلوم الأخرى. ولَمْ أكُ لأعرفهم لولا نُزهاتي الطُّفوليّة البسيطة الّتي كانت تحملُني من حين لآخر إلى المدينة القديمة، وإلى رباطِ الخير.

ففي المدينة القديمة كُنتُ أبقى مشدوهةً أمامَ هذا العددِ الُمدهش من أفران الطّين الّتي تُصنَع فيها أواني الفخار والخزف ذات الشّهرة العالميّة، وأمامَ تلكَ الدّكاكين الزَّرقاء الصَّغيرة المرصوصة الواحدة تلوَ الأخرى كأحجارٍ مِنَ الفيروز الكريم في تناسقٍ وتناغم عجيبيْن، والّتي كانَ مُعظمُها في الأمس البعيد، زمنَ الحُكْمَيْنِ المُوَحّدِي والسَّعْدِي، وفي بداياتِ العهْدِ العلويّ مِلْكاً لرجال العلم الّذين كانوا يتطوَّعون بالتَّدريس في مساجد المدينة وفي الوقت ذاته يمتهنون التّجارة أو الفلاحة للتعيّش منهما.

أمّا في رباط الخير، فإنّني كنتُ أشعر دائماً بهذا الوصل والتّواصل الجميل بين زمنيْن يبحثُ أحدُهما عن الآخر بشغفٍ وعشق قلّ نظيره؛ حاضرٌ عن ماضٍ، وأبناءٌ معاصرون عن أسماء من ذاكرةٍ عِلميّة رحَل أصحابُهَا وتركُوا العديدَ من الكتب القيّمة الّتي تشهد للمدينة بعُمق ورقيّ حضارتها وحضارة المغربِ كافّة؛ أمثال الشّيخ الإمام أبي محمّد صالح الماكري المتوفِّي سنة 631، وتلميذه العلّامة الأصولي النّحوي أبي الحسن علي بن مسعود الرّجراجي مؤلّف (مناهج التَّحصيل فيما للأئمة على المدوّنة من التَّأويل)، والإمام الفقيه أبي عبد الله بن شعيب الدّكالي نزيل تونس، والفقيه محمّد أمغار الكبير وأولاده الشّيوخ الّذين سارتْ بذكرهم الرّكبان وصارت زاوية تيط مركزَهم العلمي، والفقيه الفلكي أبي الطَّيب عبد الله بن ساسي الآسفي صاحب كتاب (الكوكب اللَّامع في العمل بدوائر المطالع)، وابنه الفقيه الميقاتي، الطيّب بن عبد الله بن ساسي مؤلّف كتاب (رياض الأزهار في علم وقت اللَّيل والنّهار)، وأبي حفص عمر بن مبارك الزّبدة صاحب كتاب (الكوكب السّاني في النّسب الكتّاني)، ثمّ أحمد بن علي الصّويري الآسفي، شارح قصيدتي (الهمزيّة والبردة)، دون نسيان ذكر الأديب التهامي الفاروقي صاحب كتاب (الأقمار في مناقب الأخيار) وشارح قصيدة (بانت سعاد)، ومحمّد بن أحمد التّريكي صاحب كتاب (إرشاد النّبيه إلى معاني التّنبيه). ولا يمكن الحديث عن العلم والعلماء ونجوم آسفي وكواكب سمائها القمراء دون ذكر ما كان للزّوايا من دور فعّال في إثراء الحضارة الثّقافيّة والعلميّة والسّياسيّة للمدينة على مرّ العصور، بدءاً من الزّاويّة الماجريّة، ومؤسِّسُها هو الشَّيخ أبو محمّد صالح الماجري الآسفي (1115 ـــــــ 1234) ويعتبر أوّل من حاول في المغرب الخروج بالنّشاط الصُّوفي من المجال الفرديّ الضَّيِّق إلى مجال جماعيّ أوسع، مروراً بالزّاوية الجزوليّة الّتي أسّسها الشَّيخ والإمام محمّد بن سليمان الجزّولي على شاطئ أموني قرب رباطِ الشَّيخ أبي محمّد صالح، وفيها أعلن عنْ طريقه الصُّوفي ليقصده أثناء حياته أزيدَ من اثني عشر ألف من الأصحاب، ووصولاً إلى الزّاوية الغنيميّة ومؤسِّسُها ببادية آسفي هو الحسن بن رحّو، وعنها تفرّعتْ عدّة فروع أخرى في دُكّالة والشّاويّة وسطّات وأولاد سعيد وابن سليمان وغيرها من مناطق المغرب.

آسفي أو حاضرة البحر المحيط كما نعتها ابن خلدون في مقدِّمته، هِيَ البئْرُ الَّتي شربتُ مِنْهَا حرفَ العشق والمحبّة، ليس فقط لأنّها كانتْ ولمْ تزلْ مُعلّمي الأوَّل، وإنّما لأنّها صورةٌ مُصغّرة لبلدي المغرب الحبيب؛ هذا الأبُ الحنون، والأمُّ العطوف الرّؤوم الّتي رضعتُ مِنْ ثديها كيْفَ أكونُ مؤمنة قبْلَ أن أكونَ عابدة، وكيْفَ تكون لغتي لغةَ سماء ملكوتيّة قبْل أن تكونَ لغةَ أرضٍ ناسوتيّة، وكيْف يكونُ حَرْفِي حُرّاً ناطقاً بشهادة الإسلام، ومُرتِّلاً للقرآن الكريم وحافظاً لأدعية السّجّاد وابنِ ناصر الدّرْعيّ، وعارفاً بالصّلاة الربّيّة، وباحثاً في البذور والمواعيد، وكيفَ تكونُ كتاباتي يمامةً تُرفرف في مجرّةٍ لبنيّة يتزاوج فيهَا المئزرُ بالسُّها، ويتعانقُ فيها محمّد بداوود ويسوع، وهُدهُداً يروي حكايةَ حاضرةٍ تحتضنُ لليوم أكبر كاتدرائيّة مسيحيّة في المغرب هي الكاتدرائيّة البرتغاليّة ثمَّ عدداً من الكنائس الّتي تُعَدُّ على رؤوس الأصابع ككنيسة سان فنسان دي بول (Saint Vincent De Paul)، وكنيسة سيّدة جبل الكرمل (Notre Dame du Mont-Carmel) الّتي أصبحتِ اليومَ مقرّاً للجمعيّة المغربيّة للأطفال الصّمّ، ناهيكَ عن المقبرة الكاثوليكيّة الّتي لا يمكنُ أن تُمحى آثارها من ذاكرتي، سيَّمَا وأنّ قدمَيّ كانتا كثيراً ما تحملاني إليها، لأنّها كانتْ توجد على بُعد مسافة قصيرةٍ منْ بيتنا الّذي كنّا نقطن فيه سابقاً أثناء بدايات العشرينيّات من عمري، حتّى أنّني لم أزل أحملُ لليوم أسماء الأموات المسيحيِّين في قلبي، وصُوَر قبورهم المغطاة بالحشائش والزُّهور. هذا دُون التَّغاضي عنِ الإشارة إلى وُجود أكبر مَشهد عِبْريّ بآسفي، هُو مقام أبناء زميرو السّبعة.

ولم تكن وحدها دروس التَّسامح التَّوحيديّ العظيم الّتي كانت تُلقّنُني إيّاها مدينتي العارفة بالله في كلّ يوم وحين، وإنّما فيها تعلّمتُ أيضاً كيْفَ تكونُ قصيدتي نحلةً تتَّخِذُ مِنْ شجرةِ الشِّعْرِ بيتاً تكونُ فيهِ الحروفُ بلابل عدنيّة تشدو بأحلى التّرانيم، والكلماتُ صوتاً لا مرئيّاً يتحرّكُ ويتمدّدُ إلى أنْ يلامسَ أبعدَ نقطةٍ في المدى الواسعِ، ويُصبحَ هديّةَ عيدٍ هي روحٌ تخترقُ المكانَ والزّمان لتدْخلَ عوالمَ اللّافضاء واللّازمان. وهديّةَ فجرٍ قُطبيّ هي صورةٌ تنعكِسُ فوق مرآةِ القصيدة ولا يستطيعُ أحدٌ أنْ يُمْسِكَ بها أو يَلمسَها لأنّها قادمةٌ من الفردوس الملكوتي البهيّ. وهديّةَ ليلةٍ قمراء هيَ تجلٍّ صوتيّ لفِعْلٍ سَمْعيٍّ يصدُرُ عنْ فكرٍ خلّاق بسرّ: ((قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)) (آل عمران: 47).
أجلْ، فَمِنْ ((كُنْ فيكون)) وُلِدَتْ شجرتي الشّعريّة، وكلُّ ما فيها من قصائد ومناجيات ومشاهدات ومقاماتٍ هُو ممّا أثمَرَتْهُ من فاكهة الحرفِ. وشجرتي هيَ شجرةُ مُلْكٍ لها ثلاثةُ أغصان فضّيّة: غصنٌ على اليمين، خاصّ بإشكاليّة قراءة النَّصّ الصُّوفي وتفاعلِ المتلقِّي معه وتُمَثّلُه في الدِّيوان قصائد مختلفة من بينها على سبيل المثال لا الحصر؛ (القصيدة الذَّهبيّة) و(لا)، و(لا يقرأ)، ثمّ (عجيب غريب)، و(إرباك) و(مكتبة النّقطة الذّهبيّة) وكذلك قصيدتيْ (لماذا؟!) و(القِدْرُ والسّيْفُ والنّمر). أمّا الغصنُ الثَّاني فهُو على يسار الشّجرة وفَوْقَهُ أيْنَعَتْ كلُّ الثِّمار الخاصّةِ بحكاية أهل التَّوحيد عبر نصوص عديدة أسردُ منها: (حانة العشَّاق) و(خمسةُ أسرار)، و(خمسُ خزّانات)، ثمّ (جرس) و(هجرة) و(شجرة الصَّوم) وكذلك قصيدة (مظلّة هوائيّة). وبين الغصنين الأوَّل والثَّاني ثمّة غصنٌ ثالث مُنْتصبٌ نبتَ من بذرةِ (فاستقمْ كما أُمرتَ) وهو مُجسّدٌ بقصيدة واحدة هي (جمال آسر) ومنْها خرجتْ كلّ الآيات القرآنيّة الّتي جاء ذكرُها في العديد من النّصوص الشِّعريّة، وبهَا اهتزّت طرباً شجرة الدِّيوان كاملةً، وزقزقتْ عصافيرُها مغرّدة أنشودة الفرح في حضرة الحرف الَّذي تلاقَحت بِسِرّه أسماءٌ عديدة نقشتْها يدُ التّأريخ بمدادٍ من ذهب لمَا قدّمته مِنْ خدماتٍ عظيمة للإنسانيّة في كافّة مجالاتِ العطاء والإبداع، وخصّصتُ لها في الدّيوان قصائد تحكي عنها بصَوتِ التّسبيح والتّبليغِ، مثلا قصيدة (فيثاغورس والقنفذ)، و(نفرآتون)، و(نارام سين) وغيرها من القصائد والنّصوص.
فرحُ الدِّيوان وألوانه لا يعني فقط الإشادة بأسماء متنوّعة من أرشيف التّأريخ الكبير، والّتي قد يفوق عددهَا التّسعة والتِّسعين اِسماً، ولكنَّهُ يعني أيضا كيْفَ أنّ عطر هذه الشّجرة وصلَ لأقصى المدى، فبدأ يقتربُ منها الشّعراء والنّقّاد بعين المحبّة ويدِ العناية بُغية محاذاة بعض معانيها أو قطف بعض ثمارها، فجاءتِ القراءاتُ النّقديّة مُتَتَاليةً الواحدة تلو الأخرى طيلة الفترةِ الّتي قضيتُها في محراب هذا الدِّيوان، أعملُ ليل نهار على كتابةِ وتنسيقِ قصائده المئة والخمسِ والعشرين، وعلى ترتيبها وفهرستها وتنقيحِها وتشذيبها بما فيها تلك الَّتي كتبتها مُنذُ أزيد من عشر سنوات كنصوص (حفيدة جالينوس)، و(رقعة الشّطرنج)، و(كتابة المحو)، ثمّ (ليالي زفافنا السَّبع) و(حمامة الفجر) وغيرها من القصائد الأخرى.
أمّا عن السّادة الأفاضل الكرام من النقّاد الذين كتبوا عنْ بعض قصائد هذا الدّيوان فهُم وفقاً لترتيب تاريخ الكتابة؛ الأديب المسرحي صباح الأنباري، والنّاقد الفيلسوف حيدر علي سلامة، ثمَّ الباحثيْن الأكاديميين غسان العبيدي وأسامة غالي، والقاصّة نوال هادي حسن الجبوري، وختاماً الدكتور عوّاد الغزّي.

ليست هذه هيّ المرة الأولى التي أكتبُ فيها عن الحرف بلُغة الشّعر، ولا عن إشكاليَتَيْ؛ "حَرْفَنَةُ الإنسانِ وأَنْسَنَةُ الحَرْفِ" بلغةِ النّقدِ، ولا هذا هُو الدِّيوان الأوَّل الَّذي أناقش فيه قضايا النُّقْطةِ وأنْسَنَتِها، وقضايا الإنسانِ وَنَقْطَنَتِهِ، ذلكَ أنَّ علاقتي بالحَرفِ والنّقطة قديمة جدّاً، إنّهُمَا معاً صفةٌ حاضرةٌ في جسدي وعقلي وقَلْبي وقُلَيْبِي. صفةٌ وَرثْتُها عَنْ أجدادِي وَثَبَّتَهَا الخالقُ في حمضيَ النَّووي، تتحرّكُ بداخلي وتعملُ في صمتٍ ولا أشعرُ بالسّعادة والاطمئنان إلّا إذا كتبتُ عنهمَا بِنَفَسِ التّسبيحِ، هذا النَّفَسُ الّذي دفَعني دفعاً إلى أنْ أحزم أمتعتي وأشُدّ الرّحال إلى إيطاليا في رحلة عِلميّةٍ فريدة من نوعها، إلّا أنّني بدلَ أن تكون أطروحةُ إجازتي عن قضيّة تهتمُّ مثلاً بالشّأن الأدبيّ الإيطالي، أو بالشّأن التّاريخي والفلسفي أو الاجتماعي أو الإعلامي بهذا الوطن الثّاني الجديد، وَجَدْتُني وبدون أدنى تردُّدٍ أفكِّرُ في الحرفِ، فجاءتْ أطروحتي عنهُ وتحديداً عن الحروف النُّورانيّة في القرآن الكريم، لأنّني كنتُ أعلمُ تمامَ العلم، أنّهُ هُو وحدَه الاهتمامُ بالحرفِ سيزيدُ مِن قوّة تلكَ اللُّحْمة ورابطة الدّم الّتي تجمعُني برحمِ الكونِ، وسيجعلُ منْ تساؤلاتي عن جذور وهويّة الإنسان، وعن شأنه كيف كان؟ وكيفَ أصبح؟ ولماذا أضاع البوصلة وضلَّ عنِ السّبيل، تساؤلاتٍ أكثرَ عُمقاً وتأمُّلاً. نعمْ، هو الحرفُ كان ولَمْ يزَلْ طائرتي، وهي النّقطة مطاري الأبدي الّذي مُذ نزلتُ فيه لأوّل مرّة، لم أفكّر ولو لثانية بمغادرته، لأنّهُ كهفي الجديد القديم الّذي لا أدري كمْ ستدومُ فيه إقامتي! كهفٌ هُوَ مَنْحَتٌ أحفُرُ في صخورهِ باستمرار وبدون هَوادة، أبحثُ عن حفريات عتيقة هي كنوزٌ يحويها القلب، وملحٌ نادر لا يوجد إلّا في محيطاتِ العين، وكواكبُ درية تدور في فلكِ العقل، وكبريتٌ أحمر لا يوجدُ إلّا في مناجم الرّوح.
ومن الأطروحة الّتي ناقشتُها لنيل شهادة الإجازة في الدِّراسات الشَّرقيّة الإسلاميّة باللّغة الإيطاليّة، جاءت مرحلةُ الماجستير أو الدِّراسات العليا، وكانتْ وقفتي فيها مع الإسراء المُحمّدي وبهِ نلتُ شهادةً جامعية دوليّة أخرى من خلال أطروحةٍ جديدةٍ قاربتُ بها الرّحلةَ المحمَّديّة وفقاً لمناهج التّفسير العديدة والمتنوِّعة مع التَّركيز بشكلٍ خاص على المنهج الصّوفي الّذي يعتمد التّفسير الإشاري لمقاربةِ حروف الذّكر الحكيم، وكانتْ هذه المحطّة فرصةً أخرى لي كيْ أضخّ دماءً جديدة في طريقةِ كتابتي للقصيدة العرفانيّة ممّا أدّى إلى ولادة نصوص مختلفة عن صاحبِ التّاج والمعراج وأهل بيته الأطهار الكرام، أهمّها قصيدتيْ (جمالٌ آسر) و(أساورُ الفجر) و(جدّي لا تبكِ ولا تحزنْ).

وبعدَ الماجستير جاءت مرحلةُ نيل شهادة الدكتوراه فشددتُ الرّحالَ من باليرمو عاصمةَ صقلية المجيدة إلى روما، وبدأتُ رحلتي الجديدة مع الحرفِ في جامعةِ المعرفة (La Sapienza) قسم الدراسات الشَّرقيّة (تخصُّص حضارات وثقافات دول إفريقيا وآسيا)، هناكَ حيثُ دخلتُ محراب الحداثةِ في الشّعر المغربي واعتكفتُ فيه لثلاث سنوات طويلة من البحث والجهد والتَّنقّل بين المغرب وإيطاليا للنّهل مِنْ معين مَنْ سَبَقَنِي من رواد الأدب المغربي وأعلامه من أهل العرفانِ والتَّصوف انطلاقاً من عهد الملكيّة السّعديّة وصولاً إلى الملكيّة العلويّة بما فيها الحقبة التّاريخيّة المعاصرة، وقد ركّزْتُ على الموروث الثّقافي الضّخم للمملكة المغربيّة بكلّ خزّاناته، العتيق منها والحديث وما تحويه من كنوزٍ وكتبٍ نفيسة، مع سردٍ لتجارب مميَّزة لعلماء أثروا التَّاريخ المغربي بمخطوطاتهم ومؤلّفاتهم بما فيهم بعضٌ من ملوك المغرب مِمَّنْ عُرف عنهم العلم واحترامهم وتشجيعُهُمْ لأهله. هذا ولم أهْمِلِ التَّطرُّقَ إلى الجانبِ النَّقدي لتجربة الحداثة الشِّعريّة في المغرب عبر أعمال لأدباء مغاربة مختلفين اخترتُ منهم كنموذج الشَّاعر والأديب محمّد بنِّيس باعتبار أنّه إلى جانب أسماء أخرى علامة فارقة في التّجربة الحداثيّة المغربيّة، دون أن يفوتني تسليط الضَّوء أيضاً على الشّعر من حيث كونه مصدراً تاريخيّاً لهُ قيمة علميّة كبيرة تقودُ الباحث إلى الاطلاع على مراحل مهمّة من تاريخ المغرب عبر الرّمز التَّاريخي الَّذي تحبل به العديد من النّصوص الأدبيّة والقصائد الشِّعريّة لأدباء وشعراء المملكة المغربيّة. ومن هذه التّجربة الجديدة وأسفاري الكثيرة وتنقّلي بين روما وباليرمو، والرّباط والدَّار البيضاء، والمحمَّديّة ومراكش تبرعمتْ قصائد جديدة في شجرة هذا الدِّيوان، أذكُر منها (رسالة دكتوراه) و(صيدليّة النّقطة)، و(مقامات روما)، و(أوتاد الله) ثمّ (باخ وكانط وبودلير). وهي كلّها قصائد ما إنْ تَفَتَّحَتْ عنها قريحتي الشّعريّة حتّى تهاطلتْ بعدَها قصائد أخرى تتغنّى بالحرف والنّقطة وتدخُل في جدل ونقاشٍ عرفاني فلسفيّ عميق يطرحُ العديدَ من علامات الاستفهام حول قضايا التَّصوُّف عبر التَّاريخ محاولة الإفادة من إرثِ الماضي معَ زعزعة ما علقَ بهِ من ترسّبات وتَكلّسات أفقدتِ الحرفَ العرفانيّ الإسلامي هيبته وقدسيّته، وأذكرُ من هذه القصائد على سبيل المثال قصيدة (حداثة عرفانيّة)، ثمّ (واعجبي!).
الشِّعْرُ قِدْرُ الكونِ الأخضر، والقصيدةُ هيَ الحنطة والخمرة المعتقة الّتي تُطهى بداخلها على نارٍ هادئةٍ، والشّاعرُ هو القيّم على تنّورِ الكتابة، يُدْخلُ مغْرَفَتَهُ الفضّيّة في القِدْرِ ويضعُ فوق المائدة صحونَ الكلمات طازجةً ينْبَعِثُ منهَا أريج الدّفء والمحبّة والحنان لكلّ جالسٍ إلى مائدةِ الحرفِ. وإذ أقولُ الجالس فإنّي أعني بهِ القارئَ، الّذي ما إن يبدأ في تناولِ أوّل قطعة خُبز، وشُرب أوَّل كأس من حانة القصيد، حتّى يشعرَ وكأنّه في بيت الأهل والأحبّة، وقدْ عادتْ بهِ السُّنون إلى زمن الطّفولة العدنيّة الأولى حيثُ البدءُ كانَ نقطةً وحرفاً، فيرى نفسَهُ في كُلّ قصيدةٍ كتبتُها، وينتابهُ شعورٌ بأنّ كُلّ حرفٍ منْ حروفي هو كلمةُ حبٍّ وعشقٍ موجّهة له، ويحسُّ كأنّهُ شمس تبريز والبدر الأحمر، أو بيكاسو وأينشتاين، أو إينخيدوانا وديهيا، أو كلّ الأسماء الّتي وردتْ في ديواني هذا. وكيفَ أُنْكِرُ هذه الحقيقة، وأنا أؤمنُ أشدّ الإيمانِ بأنَّ الشّاعرَ الحقّ هو الَّذي يختفِي تماماً ما إنْ يُنْهي قصيدتَهُ ويضعها بين يدي المتلقّي. ويُعْجبُنِي كثيراً أنْ أسجّلَ لحظة الاختفاء هذهِ، وذلك لحرصيَ الشّديد على أنْ ألتقطها بعدسة عينِ الرُّوح علّها تصبحُ مع مرور الزّمن صورةً أزليّةً بينَ صُورِ ألبوم الحَرْفِ الّتي لا حدَّ ولا حصر لهَا، فوحدهَا هذه اللّحظة، ووحدها هذه الصُّورة تُثبتانِ للشاعرِ بأنَّ قارئه لَمْ يعُدْ وحيداً، بَلْ أصبحَ يعيشُ برفقتهِ، يحملُ حرفَهُ في قلبهِ ووجدانهِ، وهي صداقةٌ منْ نوعٍ خاصٍّ متميّزٍ ومتفرّدٍ تدومُ بينَ الشَّاعر والمتلقِّي مادام الحرفُ هو الحبْلُ السّرِّيّ الّذي يجمعُهُما معاً كَمَا الأمُّ بصغيرهَا. وهذهِ هي الأمومة الّتي بهَا ومنها كتبتُ ديواني وجعلتُ منهُ قِدْراً يَغْرِفُ منها ليس القارئُ وحْدهُ ولكن شعراء آخرونَ استلهموا نصوصَهم الجديدة من بعضِ قصائدي لأنّها ذكّرتهم بشكل أو بآخر ببيْت الطّفولة العدنيّة، حيثُ الحرفُ لا يعرفُ شيئاً اسمه عُنفُ الإيديولوجيا أو المذهب أو الطّائفة، وحيثُ المتلقِّي طفلٌ يبحثُ عن حليبِ الكَلِمَةِ في زمنِ الجوع والعطش. ولقد كانت لقصيدة (لا) الصّدارة في تأكيد نظريّة هذه العلاقة الفريدة الّتي تجمع بين المبدع والمتلقِّي، إذ أنّها في ظرف وجيز من الزّمن أصبحت موضوع مساجلة شعريّة فيسبوكيّة كتب بصددها الشَّاعر السُّوري والأبُ القسّ الفاضل جوزيف إيليا المقيم في ألمانيا نصّا بعنوان (لا تهربي)، وأتبعهُ الأديب والفنّان التَّشكيلي صبري يوسف المقيم في السويد بقصيدة أخرى بعنوان (الشِّعْرُ ترتيلةُ شوقٍ إلى قُبّة السَّماء)، ردَدْتُ عليهما معاً بقصيدتيْن هُما (خمسةُ أسرار) و(سبعةُ قناديل وسبعُ لآلئ)، جاء بعدهما ردٌّ ثانٍ من الأديب صبري يوسف على شكل مقالة شعريّة فلسفيّة عميقة بعنوان (كيفيّة انبعاث تدفّقَات الشِّعر)، أجبتُ عنْها بمقالة ذات صيغة رسائليّة عنونتُها بـ (سيّدَة الصَّمت والرِّضا).

إلى جانب كُلِّ هؤلاءِ المتلقِّينَ مِنَ الأدبَاءِ والشعراء، وغيرهِم منَ القارئاتِ والقُرّاء الأعزّاءِ الّذين كانتْ تصلهُم قصائدي حمائمَ خيْرٍ ومطرَ عشقٍ عبْرَ البريد، وكانوا يجدونَ فيها أنْفُسَهم، وكأنّها تحكي حياتهُم وأسرارهم الدَّفينة، ثمَّةَ مُتلقٍّ آخر، غالباً ما لا يتحدَّثُ عنه أهل الأدب، متلقٍّ غير ذلك الّذي ينتمي لشبكة القرّاء الواسعة المنتشرة في كلِّ بقاع الأرضِ، وغير الشّعراء والأدباء الّذين يرون في ديوان ما، أو رواية ما، أو كتاب ما عن التَّاريخ أو الفلسفة أو الرّياضيات أو حتّى عن السِّياسة مادّةً دسمة لإشباعِ جُوع المعرفة؛ متلقٍّ لولاهُ، لما قرأَ أحدٌ كتاباً، لأنّهُ قارئٌ حينما يُدْخِلُ مِغْرَفَتَهُ الفضّيّة في قِدْرِ الشِّعْر ويتذوّقُ طعمَ خُبزهِ ونكهةَ حليبهِ وعذوبةَ خمرتهِ، يقعُ سريعاً في حبّ الحرفِ الأكبَرِ، ويصبحُ هُو الآخر من عشّاقِ النُّقطة وأهلها، يبحثُ عنْ ذهبِ المعنى ومُحّ الكلمة في أشعارِ القدامى والمحدثين من أهل الأدب العرفاني، هذا القارئُ هُو النّاشر، صاحبَ العينِ الذّهبيّة والقلبِ الزّمرّدي، الّذي أتوجّه له هنا بكلمة شُكرٍ عرفانا منّي بعظيم الدّور الّذي يقومُ به وإن كان الزّمن الرّقمي قدْ حاول أنْ يقلّص من حجمه ومن قيمة عِلْمِه وعمله في زمن الكتاب الإلكتروني وزمن المعلوميات الّتي قضتْ على كل شيء أصيل وجميلٍ في حياة الإنسان المعاصر، وحَفَرَتْ في ذاكرتهِ وتاريخهِ ثقباً مُظلماً عميقاً ومهوَّلاً، ابتلعَ كلّ الألواح الّتي كانت تروي حكاية آدم وحواء. لكن هل علينا نحن معشر الشّعراء أن نفقد الأمل؟ طبعا لا، فالأملُ هو باقة قصائدنا الّتي يفوحُ عطرها كلَّما سقيناها بماء المحبّة وحرصنا كلَّ الحرص على أن تصلَ إلى النّاس عبر يدِ ناشر، هو رسولُ حرْفي إليكَ يا قارئي العزيز أينمَا كُنْتَ وَحَللتَ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا


.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه




.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة