الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في - مرايا - نجيب محفوظ

فهمي عبد السلام

2019 / 1 / 19
الادب والفن


قراءة في "مرايا" نجيب محفوظ..........


-1-

المسيرة الروائيه عند أديبنا الرائع نجيب محفوظ مسيرة طويلة، تتميز بعطاء غزير فى الكم وتنوع هائل فى الشكل الروائى وفى الرؤية الفنية وفى التوجهات النهائية للعمل. فعلى سبيل المثال فى روايتى الشحات والطريق تطرحان متاهات فلسفية. إذ يتعرض بطلا العمل لمتاهات وجودية، تتعلق بجدوى الحياة والصراع الأزلى بين الخير والشر، ورواية" الحب تحت المطر"، مغامرة إبداعية خاضها نجيب محفوظ ،لاستعراض العضلات وإظهار القدرة على التجريب، ومحاكاة اللا معقول والعبث كصيحة أدبية كانت تسود الكتابة آنذاك. وفى ميرامار يتغير الشكل الفنى محاكيا شكل رباعيات الإسكندرية لداريل، عندما تتحدث عدة شخصيات وكل منها على حدة، وتروى الحدث نفسه من وجهة نظرها، محققا نسبية الحقيقة التى تمتلك أكثر من وجه ،وكتب محفوظ الروايات التى تدين أوضاعا او تحولات سياسية وأجتماعية برصد مباشر مثل الكرنك ويوم قتل الزعيم.

وإذا كانت هناك أعمال طغت عليها توجهات – أديبنا الكبير – السياسية أو الفلسفية أو الوجودية أو مغامرات الشكل الأدبى، إلا أن هناك مجموعة من الأعمال، لم يكن لمحفوظ شاغل سوى وجه الفن الجميل. فن الشخصيات الحية التى تنبض بالحياة، فن المصائر وضربات القدر الموجعة، والآمال وخيبات الآمال، وكل هذا بلا نية مبيتة، ولا هدف إلا وجه الفن الجميل. وتلك المجموعة تتربع على قمة العطاء الروائى عند محفوظ، وكأنها جواهر ثمينة فى تاج زاخر بالاحجار الكريمة، إنها روايات الثلاثية، وخان الخليلى، وزقاق المدق ورابعتهم درة زمانها ... رواية " المرايا ".

فى المرايا سنستمع إلى هدير الحياة وتلاطماتها العنيفة، وسنجد اندفاع الابطال إلى مصائر مروعة، وسنرى الحياة اللغز وهى تغدق على أوغاد بلا خلاق، وتنهال بالضربات على قديسين بلا منطق سوى منطقها المجنون.
وفى المرايا تتبدى قدرة الكاتب الفذة على استبطان الشخصيات والنطق بمنطقها، وألف باء العمل الأدبى الذى يظهر براعة الكاتب وموهبته، هى قدرته على أن يجعل القارئ يتوحد مع الشخصيات التى أبدعها، وأن يرثى لها، وهذا جانب يقدر عليه الكثير من كبار الكتاب، إلا أن هناك قلة قليلة من العمالقة تدخل بالقارئ إلى منطقة الإبداع الأعظم، فتجعل القارئ يغبط البطل الدرامى، على أحزانه النبيلة، ويتمنى أن يكابد القارئ الانعطافات الروحية الحادة التى تعصف به. وأنظر إلى هاملت ولير وإيفان كرامازوف وكمال عبد الجواد، وجوليان سوريل فى الأحمر والأسود لستندال، وفى فيرتر التى كان نابليون العظيم لايرتوى من قرائتها.
هذة القدرة لاتأتى إلا للقلة النادرة من كبار الكتاب، الذين وهبهم الخالق عز وجل منحة ملكية عظمى، ألا وهى موهبة الانحناء أمام الحياة تواضعا واكبارا. وهذا التواضع الجليل أمام الواقعة المعاشة بقدسيتها وبجلالها، هو مكمن العظمة الأدبية ولبها، وفى حوار بين الراوى ( وهو الراوى والكاتب ) وبين عبده البسيونى وهو كاتب أيضا – وسنعود اليه فى حينه – وكان الحوار يدور حول هجرة الطبيب بلال ابن عبده البسيونى، إلى أمريكا يقول الراوى :
بلال الطبيب يملك لغة العلم وهى لغة عالمية أما مهنتنا فهى " ألغاز محلية ". وإذا عرفنا أن المرايا مكتوبة عام 70 تقريبا، سنرى مدى تواضع أديبنا العظيم، الذى لا يرى فى كل إنتاجه الهائل من عام 38 حتى عام 70 سوى الغازا محلية. ولا يسع المرء أمام هذا التواضع النبيل الذى يعبر عن نفس صافية جميلة، إلا الإعزاز والإكبار.

ورواية المرايا من تلك الرواية التى أخلص فيها كاتبنا العظيم لوجه الفن. وهى سيرة ذاتية، وتلك السيرة الذاتية الرائعة فى جانب من جوانبها المتعددة، ما هى إلا اعتراف حميم حزين بالعجز والحيرة أمام الحياة وأهوالها، تلك الفاتنة المجنونة كما يقول عنها فى أكثر من موضع. فالمرايا هى قصة التواضع أمام الحياة .

وفى المرايا ينحنى أديبنا الكبير الى شكل أدبى لم يعرفه الادب الروائى من قبل، على المستوى المحلى أوالعالمى. فالاشكال الأدبية الروائية المعروفة، مثل أن تحكى الرواية تاريخ أسرة مثل الثلاثية، أو كرامازوف، أو حياة بطل فرد محورى وصراعه مع المجتمع والحياة، مثل" الأبلة " أو" اللص والكلاب "، أو مكان يضم مجموعة من الشخصيات مثل " زقاق المدق " أو " خان الخليلى " أو حكاية مكان مادى حتى لو كان جسرا، كما فى" جسر على نهر درينا ". لكن فى المرايا اعتمد محفوظ شكلا أدبيا يعتبر بكل المقاييس من المغامرات الكبرى، وإبتكارا خالصا ينسب إليه، فقد اعتمد شكل البورتريهات القصيرة المكثفة، بورتيرهات منفصلة وفى الوقت نفسه متصلة ببقية البورتيرهات. وكل بورتريه منها يصلح لأن يكون عملا أدبيا مكتملا فى حد ذاته.
آية ذلك هو أن أهل السينما أخذوا بورترية " عبده سليمان "وفصلوه عن بقية العمل فصلا تاما. وصنعوا منه فيلم " أميرة حبى انا ". تلك البورتريهات الشجية وعددها بالعشرات إذا ما أتم القارئ قرائتها اكتملت الرؤية الفنية. ووصلت المتعة الفنية إلى منتهاها، وكل هذا فى انسجام لا طاقة لكاتب به،إلا من دانت له الصنعة. وكشفت له ادق أسرارها. فالوحدة الفنية فى العمل والبورترية تضئ نفسها، وهى فى الوقت نفسه تضئ زاوية جديدة لشخصيات أخرى لتكون فى النهاية بانوراما عريضة طويلة ( الزمن من عام 20 تقريبا حتى عام 70 تقريبا )، حافلة بالبؤر المتوهجة والظلال الشاحبة والبين بين وهى بنوراما شجية وتاريخا فنيا رائعا ينبض بالحب للحياة وللإنسان وللوطن.
أما عن الاشخاص والابطال فهم خليط هائل جميل، حيث نتنقل من قادة الفكر فى الصالونات الأدبية والسياسية والفكرية، إلى أوكار البغايا ومناطحات القوادين ودنيا الموامس فى درب طياب. وننتقل من شخصية د. ماهر عبد الكريم أستاذ الأداب وقطب الحزب الوطنى العتيد إلى " صبرية الحشمة " صاحبة بيت الدعارة فى السكاكينى. الخلاصة أن الكاتب الكبير في مرآته الصافية يقدم لنا أشكالا وألوانا من النماذج الإنسانية المتفردة والعجيبة.
ونستطيع أن نحصرها داخل مجموعات. والمجموعة الأولى هى مجموعة رفاق الصبا والشباب الأول فى العباسية . ونرى من بورتريهات تلك الفترة كيف تفاوتت بينهم الحظوظ.

وحين يجتمعون فى جنازة أحدهم، إذا بالحياة قد جعلت منهم الطبيب اللامع ( سرور عبد الباقى )، مع تاجر المخدرات سيد شعير. وجعلت من رضا حمادة مناضلا متقشفا زاهدا متطهرا وهى نفسها الاقدار التى جعلت من خليل زكى قوادا رهيبا يسيطر على بيوت دعارة منطقة السكاكينى كلها، بينما يتقلب رضا حمادة بعد 67 فى نار الهزيمة كأنه الملسوع بالنار حزنا، فإذا برفيق الصبا وزميل المدرسة السابق سيد شعير وتاجر المخدرات يتوجه له بالسؤال قائلا:
- هل سيتوقف تهريب الحشيش بعد إحتلال سيناء ؟ وهذا يطلق عليه الراوى " غاية الاستلقاء خارج الزمن ".

-2-

إذا ماخرجنا من أقدار ومصائر شلة العباسية، سنجد مجموعة بورتريهات يجمعها خليط واحد أساسى. وهى خاصة بالجامعه والمناخ الجامعى من أساتذة إلى طلاب إلى موظفين يعملون في إدارة جامعة القاهرة.
ولأن كاتبنا عمل موظفا في وزارة الأوقاف لفترة طويلة يقدم لنا نماذج من الموظفين وعالمهم العجيب، ومن هذة العجائب مثلا أن هذة الوزارة التى تعتبر مؤسسة دينية عريقة يكشف لنا الراوى أن الشذوذ الجنسى كان يرتع داخلها بشكل مدهش. وكاتبنا منذ مطلع شبابه وهب نفسه للمعرفة والكتابة والثقافة( كتب روايته الأولى عام 38 )، سنجد بورتريهات عجيبة من الوسط الثقافى والفكرى والأدبى تشكل مجموعة رابعة من الرواية الفاتنة، والرواية الجميلة مكتوبة بلسان الراوى، وهو الروائى نجيب محفوظ ، ونستطيع أن نتعرف بشكل حقيقى على أعماق كاتبنا وعلى آرائه السياسية وعلى حسه الاخلاقى الرفيع من خلال مراته الناصعة. التى تنضج بالصدق والجمال وطيبة القلب وإذا كان محفوظ فى المرايا أخلص للفن وهو الفنان الكبير سنجد أن كاتبنا لم يبتعد لحظة عن هموم مصر السياسية.
طيله العمل يقدم مجفوظ انتماءه السياسي، فهو الوفدى المخلص، فإذا ضربت الثورة حزب الوفد وحلته وحبست وحددت إقامة رموزه، ويرى الثورة وقد أهدرت كل مثله العليا التى نشأ عليها مثل الديمقراطية والحرية ( مع حس عميق بالعدل الاجتماعى )، لكنه بالرغم من ذلك ، وهو صاحب الضمير المرهف ينصف ثورة يوليو فى نقطتين، اولها في تحقيق الاستقلال الذي عجز الوفد عن تحقيقه، وفى بعدها الاجتماعى وتحسين معيشة الفقراء.
وعندما وقعت الهزيمة عام 67 يحترق بها ويكتب: " عقب النكسة كنت فى تلك الايام ألتمس مجامع الزملاء والاصدقاء كما يلتمس المحترق مادة – غطاء أو ترابا او ماء – ليطفى به النار المشتعله فى ملابسه.
في يونيو 67 يكشف لنا محفوظ عن أحزانه العميقة، رغم أن الثورة أهالت التراب على معبودة الأول سعد زغلول فيكتب عن سرور عبد الباقى وغيره ممن أضمروا الشماته آنذاك " وشد ما جزعت عندما انست فى نبرته شماته عقب هزيمة يونيو عام 1976 ". وعندما يزور كاتبنا أحمد قدرى جلاد الشرطة فى عهد إبراهيم عبد الهادى وإسماعيل صدقى والذى أحالته ثورة يوليو 52 الى المعاش يعرب أحمد قدرى عن شماتته فيكتب أديبنا الرائع .
" ففطنت على البداهة الى من يعنى . كان 5 يونيو مازال ممتزجا بريقنا كالعلقم وادركت من فورى مدى الحقد الذى عاشره منذ إحالته على المعاش وكرهت مناقشة شماتته المنغصة بسوء حالة لتحديدها الجارح لعواطفى الشخصية "
أما عن تواضع أديبنا الرائع فيذكر فى حوار له مع عبده البسيونى بعد 67 وكلاهما من الكتاب ( الراوى وعبده ) بصدد هجرة بلال ابن عبده، وهو طبيب شاب كفر بالوطن وبالوطنية، فيقول:
العلم لغة عالمية أما مهنتنا يقصد ( الادب والثقافة ) فهى ألغاز محلية

هذة الجملة كتبها نجيب محفوظ في عام 67 تقريبا أو بعدها بقليل بعد أن كتب أديبنا الكبير روائعه الخالدة، وبعد ذلك العطاء الغزير، فلايرى في إنتاجه- من فرط التواضع سوى- "ألغازا محلية ". ونتأمل فى افسال لم يكد الواحد منهم يخرج من البيضة، وظهر له كتاب أو إثنان، فإذا به يصعر خديه زهوا وتطاوسا يدعيان للرثاء.

-3-

لأن المجال لا يتسع لتقديم كل تلك النماذج الفريدة والتى لاتنسى التى أبدعها محفوظ فى عمله الهائل المرايا سأقدم للقارئ نموذجين ناصعين ، النموذج الأول من عالم الجامعة، عام 30 حينما تولى صدقى باشا الوزارة وحل البرلمان، وإنقض بقبضته الحديدية على الحرية لصالح الملك والإنجليز حلال السنوات من 1930 إلى 1935، سنوات يرى فيها محفوظ بعين الشاب العشرينى " كانت أزمة تهاوت فيها القيم الى الحضيض وتقوضت كرامات الكثيرين من الرجال . ورمى الأبرياء المهزلة بأعين حمراء ولكن صفوفهم لم تبرأ من فساد . عصر البراكين المتفجرة والزلازل عصر أحباط الاحلام وانبعاث شياطين الانتهازية والجريمة . عصر الشهداء من جميع الطبقات ".
وفى هذا الجو الذى يشهد غليانا سياسيا يقدم لنا محفوظ فى عالم الجامعة بروتريهات لحماس نبيل من أجل الحرية والاستقلال الوطنى ، وجوه رضا حمادة وماهر عبد الكريم وعجلان ثابت وسالم جبر، وهى وجوه مضيئة لاساتذة وطلاب منهم، من تعرض للاعتقال، ومنهم من أوذى من أجل مبادئه. وفي الوقت نفسه يقدم وجوها انتهازية منحطة ، بل وجوه لطلاب مخبرين يكتبون التقارير على زملائهم.
وفى هذا الجو المكفهر يقدم لنا نجيب محفوظ وجه سعاد وهبى ليرطب به الوهج السياسى اللافح. يأتى وجه سعاد وهبى كما يقول امل دنقل" كنا بذكراك نرطب الشفاة اليابسة ". أنثى جميلة طويلة القامة " تضيق الفستان حتى ينطق " وهى جريئة نتحدث إلى الاستاذة بصوت مسموع وفى بعض الاحيان كانت تتلو ماتيسر من عطيل فى نعومة ساحرة، فتشعل الصفوف بالرغبات المكبوتة. وكانت تتعمد أن تدخل إلى المدرج متأخرة ريثما يجلس الطلاب ويقف الأستاذ على المنصة، فتتظاهر باللهفة وتهرول كالمعتذرة، فيرتج ثدياها النافران فتشتعل الفتنة فى الصفوف، وتند عنها همهمات كطنين النحل "
..... أتت لهم سعاد " كنجم هبط من السماء " فى جو مكبوت متزمت وعدد طالبات الكلية لايزيد على العشر عداَ، محتشمات فى الثياب والسلوك، يجلسن منكمشات فى الصف الأول " كأنهن فى غرفة الحريم بالترام " .أما سعاد وهبى ذات الجسد الذى يضج بالأنوثة، فهى مستعدة لأن تتحدث مع الزملاء فى جرأة. ومن القوة بحيث إذا ما حاول أحدهم إنشاء علاقات معها، فهى قادرة على أن توقفه عند حده. وأصبح إسمها على كل لسان، وكان طلاب الكليات الأخرى يحضرون لمشاهدة سعاد. ونحتت لها الاسماء والاوصاف فهى " أبلة سعاد " وأصبحت كليتهم هى " كلية سعاد "، و " بانت سعاد " ويلخص كاتبنا الموقف بأن زميلتهم سعاد وهبي " بالجملة تحدت الزمان والمكان ".
كان لابد وأن يحدث الصدام فالظاهرة السعادية تمادت أكثر مما تسمح به التقاليد والمناخ، وتصدى لها د . إبراهيم عقل أستاذ الآداب الذى كان يفرض سلطته الأبوية على طلابه. ذات مره دخلت سعاد وهرولت واشتعلت الصفوف، فوجه الدكتور إلى سعاد توبيخا جارحا فقال:
" أن هناك فرقا بين صالة بديعة وبين مدرجات الجامعة " بصوت عال، ثم طلب منها المثول فى حجرته، ووقف جموع الطلاب على باب الغرفة فى انتظار ماسيحدث، وخرجت غاضبة وقالت بتحد وبصوت مسموع:
" إانها لن تسمح بمصادرة حريتها الشخصية "
واستمرت متحدية الاستاذ والتقاليد، الفستان الذى ينطق، تلوين الوجه، وهرولة المدرج والثديين النافرين، وإشعال الصفوف. فأصدرت إدارة الكلية قرارا بفصلها، وبعد فترة حضر والدها الى الكلية ولازال بالعميد حتى حمله علي سحب قرار الفصل بعد أن تعهد والدها بتحقيق مطالب الكلية .
وعادت سعاد " واستقبلناها بالتصفيق " هذة المرة بوجهها الطبيعى بلا مساحيق وبفستان محتشم طولا وعرضا " أما ثدياها فلم يستطع تعهد الوالد بتغيير موضعهما ولا فتنتهما فظلا نافرين يتحديان العميد والتقاليد جميعا " !!
.. نالت سعاد هزيمة مريرة ، وهى كما يوحى لنا الراوى خلقت لتتحدى ولتزهو بنفسها وبجمالها وبأنوثتها، وأثبتت الأيام أن هزيمة سعاد كانت مؤقته، إذ سرعان ماتحدت الجميع من جديد، تحدتهم عندما رآها البعض مع مدرس اللغة الانجليزية، وهو الانجليزى الجنسية والشاب الحديث السن، شاهدوهما يسيران فى الحديقة اليابانية، وعندما سألها الطلاب أجابت أنهما تقابلا فى الحديقة مصادفة فسارا معا يتحدثان. سرعان ما سددت لهم سعاد ضربة مزدوجة مروعة فها هى تقيم مع مدرس اللغةالإنجليزية علاقة علنية. والادهى والامر أن علاقتها كانت مع إنجليزى محتل للبلاد. وبلغ الخبر جميع المسئولين فى الكلية و " تبودلت السخريات على مسمع من العميد لم يكن بمقدور العميد ان يتخذ إجراء مع المدرس، خشية إغضاب المندوب السامى، او مع سعاد خشية اغضاب المدرس، وقال أحد الظرفاء من الطلاب:
" انجلترا ازدادت من تحفظات 28 فبراير تحفظا جديدا خاصا بسعاد وهبى وقال آخر: " الاسطول البريطانى يهدد باحتلال الجمارك اذا تعرضت سعاد وهبى لأى ضغط "
وتسببت سعاد فى مشكلة فقد" تحدت الجميع بقوة لا مثيل لها "
... بقية بورترية سعاد وهبى أن العطلة الصيفية أتت وفى بدء العام الدراسى الجديد فوجئ الطلاب أن المدرس لم يشأ ان يجدد عقده وسعاد لم ترجع الى الكلية " وكان السؤال أين ذهبت سعاد قيل أنها سافرت مع المدرس الانجليزى، وقيل إنها أصبحت غانية فى شارع الألفى، ومع كثرة تقلبى فى أنحاء القاهرة لم تقع عيناى عليها منذ ذلك التاريخ"
واذا ما تأمل المرء هذة المصائر السعاد وهبى يرجح القارئ من السياق أن سعاد تزوجت وسافرت مع الانجليزى الذى لم يأخذ فى يدها غلوة . لأن هذا الجمال الخارق عادة ماينتظره مصير خارق أما حكاية غانية وفى الألفى فهذا خيال موتور ناقم ومصدر هذة النقمة هى رغبة مستعرة فى نيل هذا الجمال العصى والمستحيل المنال.
..... ولا يجد القارئ ذكرا لسعاد وهبى فى بقية العمل ، اللهم إلا مرة واحدة أخرى فى بورترية محمود درويش وكيف كان أول الواشين بسعاد عند العميد وكان يهتف حين يراها " إنها غانية "

-4-

وإذا كان هناك لغط يدور حول الوسط الثقافى، وكيف تحول في أيامنا هذه، إلى مستنقع كريه يطفح بالانتهازيين والوصوليين والأفاقين وتجار المبادئ. فيبدو أن المسألة قديمة، فالجاحظ العظيم يكتب فى رسائله، عن الكُتاب فيقول أن أهل المهن والحرف يتكاتفون إذا تعثر أحدهم كى يقيلوه من عثرته، لكن أهل حرفة الادب، أهل تحاسد وإحن ولدد فى الخصومة، لأن صنعتهم هى فهم النفس البشرية، فهم يعرفون كيف يضربون فى مقتل.
من خلال مجموعة بورتريهات الوسط الثقافى يقدم لنا محفوظ العظيم صورة روائية فنية رائعة للوسط الثقافى فى الاعوام من 40 تقريبا ( وقبلها بقليل ) حتى بعد النكسة بقليل ، وهى تضم مجاهدين عظام إلى جوار حشرات دنيئة، قديسون عظماء، وأوغاد بلا خلاق، ويكشف لنا محفوظ بالمرة عن حسه الأخلاقى الرفيع، فنرى لوحته الجبارة الخالدة ونتأمل حياتنا الثقافية ، فنصل إلى تأكيد مقولة أن لاجديد تحت شمس مصرنا الغالية فى مناخها الثقافى ...
وتظهر اماني محمد للمرة الأولى في " المرايا" في البورتيريه المخصص لها، عندما تتلفن امرأة إلى الراوى ( وهو الروائى والموظف بالاوقاف) فى مقر العمل والمرأة تطلب لقاء للنصح والمشورة فى دنيا الادب والثقافة. ولأنها لاتفضل جو العمل ( وزارة الاوقاف ) فتقترح إستراحة الهرم مكانا للقاء. فيقول الراوى أن هاجسا يقول له:
" أن الفن – وحده – لن يكون ثالثنا "
وعندما يرى الراوى أمانى محمد يصفها بأنها امرأة أربعينية ناضجة " تتأرجح فى الحد الفاصل بين حرية المرأة العصرية وبهرج الغانية " وهذة الجملة المسبوكة كسلاسل الذهب تجعلنا نرى أمانى محمد ونتعرف عليها. وفى أثناء ذلك اللقاء الأول في استراحة الهرم، إذا بيد أمانى البضة، تتسلل كى تستريح على يد الراوى فيقول لها :
" هل الى هذة الدرجة تحبين الفن "
فترد ضاحكة:
" بل الفن والحياة"

وأثناء تجوالهما فى صحراء الهرم وهما الآتيان لمناقشة التاريخ، فإذا بهما يناقشان الواقع المعاصر، وإذا بهما يتركان الواقع المعاصر كله، ولا يناقشا منه، سوى واقع الشقة الصغيرة التى تعيش فيها مع خالتها المسنة تحديدا ساعات نومها ..!!
ولننظر إلى السخرية العذبة وخفة الظل المفطورة والتى لا أعرف كاتبا عظيما إلا وجدتها سمة من سماته . و تخبره أمانى أنها مطلقة. ويتم اللقاء وتقدم أمانى أداء رائعا فى المودة وتعبر عن تعطشها الهائل للحب وللحنان.
وفى بورترية أمانى محمد الرائع – كما فى الحياة – تذهب السكرة وتجئ الفكرة وتأتى الفكرة على هيئة رجل يحضر الى الوزارة ويجلس أمام الراوى، ويتعرف الراوي في الزائر على شخص" عبده البسيوني" زميل دراسته القديم في كلية الآداب، يرحب نجيب محفوظ بزميله القديم، ويتبادلا المجاملات، ويطلب له القهوة وعندما يسأله الراوى عن قصد الزيارة إذا بالرجل يقول له:
جئتك بصفتى زوج أمانى محمد فأنا زوج المرأة التى كنت عندها بالامس
فيقول الراوى واصفا مشاعره
" الحق أننى غبت عن الوجود بمعنى ما ، تلاشى الزمان والمكان".
وعبده البسيونى زوج أمانى ليس فردا من الشارع، فالذى يضاعف بشاعة الموقف وقسوته ، أن عبده البسيوني زوج عشيقة الراوي أماني محمد كان زميله في كلية الآداب ، وقبل أن يلقى قنبلته الرهيبه حكى عبده ، كيف أوفدته أسرته إلى باريس وعاد بدون شهادة. وكيف فاز بعضوية البرلمان وتزوج من أمانى ، وقامت الثورة لتنقلب حياة عبده من الجاه والثروة والنفوذ الى البؤس والعذر.
فقد تعاون عبده فى البداية مع الثورة، ونتيجة لوشاية وجد نفسه فى المعتقل، ليخرج بعد فترة قصيرة وقد صودرت ممتلكاته. ليجد نفسه متسولا فى الشارع، و أثناء المحنة ساءت علاقتهما هو وأمانى. ووجد نفسه مضطرا لأن ينحت فى الصخر لكي ينفق على أسرته ووجد نفسه مضطرا للكتابة من الباطن لنقاد ومترجمين ومسلسلات إذاعية لأنه بلا واسطة.
كان مطلب عبده من الراوى أن يقطع علاقته بأمانى، ويشعر الراوى بعاصفة من الرثاء حيال الزميل القديم، وبالحيرة عندما يقول له عبده :
" لاتنزعج فلست أول صيد لها وفى كل مرة أسارع بإنقاذها "
فيقول الراوى:
" لم لا تطلقها "
فيرد عبده أنه لو طلقها ستتمادى، وستصل إلى الإحتراف، وأنهما لهما ابن وابنه فى طور المراهقة، وعبده يخشى على صورتها، لأنه لو طلقها ستتدهور حتى الإحتراف.
على الفور وفى أول لقاء يقطع الراوى علاقته بأمانى محمد ،ويقول الراوى صاحب الحس الاخلاقى الرفيع لأمانى معاتبا:
- كيف أخفيت عنى أنك متزوجة؟
وتعبر أمانى عن كرهيتها العميقة لزوجها، فتقول وهى غاضبة:
" لا غيره عنده ولا يحب الا نفسه " وتصف زوجها " بالوحش " ويعتذر الراوى فى أدب بانه " لم يعد اهلا للحب "، فتنصرف غاضبة وهي تقول:
- أنت لم تحبني، كل الرجال مثلك ومثله.
ويكتب الراوي واصفا شعوره بعد انصرافها،" ورجعت وفى أعماقى شعور بالتحرر والنجاة والندم، ثم اجتاحنى حزن عميق، وظل إحساس حاد بالرثاء يطاردنى نحو زميلى القديم عبده البسيونى وزوجه أمانى محمد، عصفت بهما السياسة المتقلبة، وحولت حياتهما إلى جحيم من الفقر والاحباط والكراهية .

ثم يأتى بورترية "جاد ابو العلا" ليكشف لنا بقية حكاية أمانى محمد وعبده البسيونى وماذا فعلت بهما الأيام ، البورترية الاساسى يخص جاد ابو العلا، ويقدمه نجيب محفوظ فيكتب عنه:
" تاجر تحف عادى الذكاء كثير المرح أقرب الى السطحية ذا طلاء ثقافى بلا أعماق . سافر إلى فرنسا حيث قضى هناك ثلاثة أعوام . آثر خلالها أن ينهل من منابع الفن الحر، وأن يتزود من التجارب الإنسانية الحية ومعرفة الانسان ودون ارتباط بدراسة منتظمة، وأنه عاد مضطرا لوفاة والدة تاجر التحف ليدير تجارته، وقسم وقته الضيق بين الأدب والتجارة. وهذه هى المعلومات التى قالها جاد ابو العلا إلى الراوى.
اما الحقيقة التى كونها الراوى من استنتاجه ومعلومات الاخرين، أن رحلة فرنسا قضاها جاد فى المجون والعبث واللهو بحجة التزود بالتجارب الحية. وقبل أن يقابلة الراوى كان جاد قد أصدر خمس روايات طبعها على حسابة طبعات فاخرة، وكانت المقالات النقدية تنهال بالثناء والتمجيد وكلها تترجم إلى لغات أجنبية. وتعد للإذاعة والتليفزيون وكأنها الدرر. ولم يستطع الراوى أن يكمل واحدة فانصرف عنها جميعا، واكتشف الراوى أن كل هذا الضجيج الذى لا يصدر إلا لكاتب ذى خطر وشأن مسالة تزييف فى تزييف. فذلك الضاحك لا يكتب ولا يقرأ وصمم على أن يكون أديبا، وأن يكمل ماينقصه من الموهبة بالمال، فهناك من يكتبون له من الباطن ، وكله بالهدايا وبالنقود، والنقد كذلك. وبنفس الاسلوب شق طريقة إلى السينما وإلى التليفزيون. ويحكم الراوى عليه بأنه محب للفن وربما للشهرة أكثر. ولكن بلا موهبة يعتد بها، مما دفع به الى طريق ملئ بالمتاعب. فقد صمم على أن يكون أديبا، وهو يحتقر بيئه التجار وهى مصدر جاهه وثرائه، وهو فيها كوكب محترم، ويغرس نفسه غرسا شيطانيا فى بيئة الفن،وهى تأباه وهو فيها غريب محتقر.
وسرعان ماترامت الاخبار الى الراوى وكان قد شاهد عبده البسيونى فى صالون جاد ابو العلا فقال الراوى لنفسه ( وفى ذهنه الكتابة من الباطن ) " علَ عبده قد ظفر بصيد ثمين ".
ويعرف الراوي من عبده، أنه تعرف على جاد ابو العلا منذ عامين وان أغلب مسلسلات جاد الاذاعية والتليفزيونية من تأليف عبده ، ثم يهمس عبده ساخرا:
- ومع هذا لم اوفق حتى الان الى بيع مسلسلة باسمى.
ثم تأتى مفاجأة كبرى إذ يفوز ابو العلا بجائزة الدولة التشجيعية فيكتب د . زهير كامل الناقد الملوث، رسالة فى أدب أبو العلا تلقى فيها الناقد زهير طاقم تحف عربى وألف جنيه فيقول عبده عن الرسالة:
" هذا كتاب لايجرؤ على تأليفه سوى مومس "
كيف بدأت الصلة بين عبده البسيونى المؤلف الملاكى للأديب المزيف جاد ابو العلا، تأتى الإجابة على لسان عجلان ثابت الذى يخبر الراوى ان الحكاية بدأت بعلاقى آثمة بين جاد أبو العلا وبين أمانى محمد، وأن عبده اكتشف العلاقة، فسارع عبده الى ضبطهما فى فيلا جاد بالهرم. واكتفى عبده بقطع العلاقة وتسلم حرمه، ثم أعقب ذلك صداقة وطيدة بين الزوج والعشيق السابق " العجب ان ابطال روايات جاد مثل للصدق والكرامة والفضيلة "

اما ما اسفرت عنه علاقة عبده بزوجته نعلم أنهما تعايشا ( .....) ويقدم لنا الراوى ثمرة هذة الزيجة المضطربة الممزقة بالمشاحنات وبالعداءات وبالكراهية، متمثلة في بلال عبده البسيونى وهو طبيب الامتياز النابه الغاضب الناقم على كل شئ، وهو مصر على الهجرة الى أمريكا ونعلم ان شقيقته الصيدلانية الصغيرة ستلحق به فى أسرع وقت.
أما اخر مره يرى الراوى أمانى محمد فيكتب عنه:
" كان اللقاء بالصدفة أمام سنترال رمسيس وكان العمر قد تقدم بنا، وبدت لي أكثر رزانه وقد أفرطت فى البدانه، ومد الراوى يده غير أن ارتباكها، اقنعه بأنها تعانى مسئولية السيدة المتزمتة إذا ما ورطتها ظروف خارجة عن الإرادة فى مصافحة رجل غريب!!".

المرايا عمل رائع ثرى تتعدد فيه الحكايات والمصائر والوجوه كما يكشف محفوظ فى مراياه عن الفضيلة والفسق والنهايات والمصائر وصرعى الحياة وعبدة الشهوة والسلطة. يكشف فيها عن مرآة نفسه الرائعة كمصرى أصيل، فى طيبة القلب وفى حب الناس والوطن، وفى التسامح والغفران للضعف البشرى. ويظهر وطنية صادقة مخلصة، وروحا جميلة تلقى بالنكتة الحلوة وتطرب لها .... متع الله شيخنا الجليل بالصحة والسعادة كما امتعنا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..


.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما




.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى